تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 583 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 583

582

قوله: 31- "إن للمتقين مفازاً" هذا شروع في بيان حال المؤمنين، وما أعد الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين وما أعد الله لهم من الشر، والمفاز مصدر بمعنى الفوز والظفر بالنعمة والمطلوب والنجاة من النار، ومنه قيل للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها.
ثم فسر سبحانه هذا المفاز فقال: 32- "حدائق وأعناباً" وانتصابهما على أنهما بدل من مفازاً بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيقدر مضاف محذوف: أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة: وهي البستان المحوط عليه، والأعناب جمع عنب: أي كروم أعناب.
33- "وكواعب أتراباً" الكواعب جمع كاعبة: وهي الناهدة، يقال: كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً، ونهدت تنهد نهوداً، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت: أي صارت ثديهن كالكعب في صدورهن. قال الضحاك: الكواعب العذارى. قال قيس بن عاصم: وكم من حصان قد حوينا كريمة وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر وقال عمر بن أبي ربيعة: وكان مجني دون مــا كنت أتقي ثــلاث شخوص كــاعبـات ومعصر والأتراب: الأقران في السن، وقد تقدم تحقيقه في سورة البقرة.
34- "وكأساً دهاقاً" أي ممتلئة. قال الحسن وقتادة ابن زيد: أي مترعة مملوءة، يقال أدهقت الكأس: أي ملأتها، ومنه قول الشاعر: ألا أسقني صرفاً سقاك الساقي من مائها بكأسك الدهاق وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد "دهاقاً" متتابعة يتبع بعضها بعضاً. وقال زيد بن أسلم "دهاقاً" صافية، والمراد بالكأس الإناء المعروف، ولا يقال له الكأس إلا إذا كان فيه الشراب.
35- "لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً" أي لا يسمعون في الجنة لغواً، وهو الباطل من الكلام، ولا كذاباً: أي ولا يكذب بعضهم بعضاً. قرأ الجمهور "كذاباً" بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف ووافق الجماعة على التشديد في قوله: "وكذبوا بآياتنا كذاباً" المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدمنا الخلاف في كذاباً هل هو من مصادر التفعيل أو من مصادر المفاعلة؟.
36- "جزاء من ربك" أي جازاهم بما تقدم ذكره جزاءً. قال الزجاج: المعنى جزاهم جزاء، وكذا "عطاء" أي وأعطاهم عطاءً "حساباً" قال أبو عبيدة: كافياً. وقال ابن قتيبة: كثيراً، يقال أحسبت فلاناً: أي أكثرت له العطاء، ومنه قول الشاعر: ونعطي وليد الحي إن كان جائعاً ونحسبه إن كان ليس بجائع قال ابن قتيبة: أي نعطيه حتى يقول حسبي. قال الزجاج: حساباً: أي ما يكفيهم. قال الأخفش: يقال أحسبني كذا: أي كفاني. قال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشراً. وقال مجاهد: حساباً لما عملوه، فالحساب بمعنى القدر: أي يقدر ما وجب له في وعد الرب سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشراً، ووعد لقوم سبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاءً لا نهاية له ولا مقدار كقوله: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وقرأ أبو هاشم حساباً بفتح الحاء وتشديد السين: أي كفافاً. قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته، ومنه قول الشاعر: إذا أتاه ضيفه يحسبه وقرأ ابن عباس حساناً بالنون.
37- "رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن". قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب والمفضل عن عاصم برفع "رب" و"الرحمن" على أن رب مبتدأ والرحمن خبره أو على أن رب خبر مبتدأ مقدر: أي هو رب، والرحمن صفته، و"لا يملكون" خبر رب، أو على أن رب مبتدأ، والرحمن مبتدأ ثان، ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول. وقرأ يعقوب في رواية عنه وابن عامر وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن رب بدل من ربك، والرحمن صفة له. وقرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بخفض الأول على البدل، ورفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو الرحمن، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وقال هذه القراءة أعدلها، فخفض رب لقربه من ربك، فيكون نعتاً له ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف، وخبره "لا يملكون منه خطاباً" أي لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه، وقال الكسائي: لا يملكون منه خطاباً بالشفاعة إلا بإذنه، وقيل الخطاب الكلام: أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله "لا تكلم نفس إلا بإذنه" وقيل أراد الكفار، وأما المؤمنون فيشفعون. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدم بيانه، ويجوز أن تكون مستأنفة مقررة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء.
38- "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً" الظرف منتصب بلا يتكلمون، أو بلا يملكون، وصفاً منتصب على الحال: أي مصطفين، أو على المصدرية: أي يصفون صفاً، وقوله: "لا يتكلمون" في محل نصب على الحال، أو مستأنف لتقرير ما قبله. واختلف في الروح، فقيل إنه ملك من الملائكة أعظم من السموات السبع ومن الأرضين السبع ومن الجبال، وقيل هو جبريل قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وقيل الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح ومجاهد، وقيل هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان. وقيل هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح. وقيل هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة. وقيل هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً، وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام قاله عطية العوفي. وقيل إنه القرآن قاله زيد بن أسلم. وقوله: "إلا من أذن له الرحمن" يجوز أن يكون بدلاً من ضمير يتكلمون، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء، والمعنى: لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة، أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن له الرحمن "و" كان ذلك الشخص ممن "قال صواباً" قال الضحاك ومجاهد: صواباً يعني حقاً. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وأصل الصواب السداد من القول والفعل. قيل لا يتكلمون: يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلا من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صواباً. قال الحسن: إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلا بالروح، ولا النار إلا بالعمل. قال الواحدي: فهم لا يتكلمون: يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صواباً: أي شهد بالتوحيد.
والإشارة بقوله: 39- "ذلك" إلى يوم قيامهم على تلك الصفة، وهو مبتدأ وخبره " اليوم أحل " أي الكائن الواقع المتحقق " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " أي مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح، لأنه إذا عمل خيراً قربه إلى الله، وإذا عمل شراً باعده منه، ومعنى "إلى ربه" إلى ثواب ربه قال قتادة: مآباً: سبيلاً.
ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال: 40- "إنا أنذرناكم عذاباً قريباً" يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، ومثله قوله: "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" كذا قال الكلبي وغيره. وقال قتادة: هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين. قال مقاتل: هو قتل قريش ببدر، والأول أولى لقوله: "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه" فإن الظرف إما بدل من عذاب أو ظرف لمضمر هو صفة له: أي عذاباً كائناً "يوم ينظر المرء" أي يشاهد ما قدمه من خير أو شر، وما موصولة أو استفهامية. قال الحسن: والمرء هنا هو المؤمن: أي يجد لنفسه عملاً، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، وقيل المراد به الكافر على العموم، وقيل أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، والأول أولى لقوله: "ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً" فإن الكافر واقع في مقابلة المرء، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعده الله له من أنواع العذاب، والمعنى: أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق، أو تراباً يوم القيامة. وقيل المراد بالكافر أو جهل، وقيل أوب سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل إبليس، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب كما تقدم غير مرة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "إن للمتقين مفازاً" قال: منتزها "وكواعب" قال: نواهد "أتراباً" قال: مستويات "وكأساً دهاقاً" قال: ممتلئاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "وكأساً دهاقاً" قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وربما سمعت العباس يقول: يا غلام أسقنا وادهق لنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه دهاقا. قال دراكاً. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال: إذا كان فيها خمر فليس بكأس. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً" قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس "يوم يقوم الروح" قال: هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: "الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السموات والجبال من الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحداً". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: "إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله، يقول: سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك، ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب، أما سمعت قول الله "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً"". وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله: "يوم يقوم الروح" قال: يعني حين تقوم أرواح الناس من الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الروح إلى الأجساد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الأسماء والصفات عنه أيضاً "وقال صواباً" قال: لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فذلك حين يقول الكافر "يا ليتني كنت تراباً". سورة النازعات وتسمى سورة الساهرة، هي خمس وأربعون آية، وقيل ست وأربعون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة النازعات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم كما ينزع النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات: يعني الملائكة والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال السدي 1- "النازعات" هي النفوس حين تغرق في الصدور. وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم: نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم نزعت بالحبل: إي إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر. وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان. قال عطاء وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلى النصل. وقال يحيى بن سلام: تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل أراد بالنازعات الغزاة الرماة، وانتصاب "غرقا" على أنه مصدر بحذف الزوائد: أي إغراقا، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى: أي إغراقاً في النزاع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال: أي ذوات إغراق، يقال أغرق في الشيء يغرق فيه: إذا أوغل فيه وبلغ غايته.
2- ومعنى "والناشطات" أنها تنشط النفوس: أي تخرجها من الأجساد كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه، ونشط الرجل الدلو من البئر: إذا أخرجها، والنشاط الجذب بسرعة ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها. قال أبو زيد: نشطت الحبل أنشطه نشاطاً عقدته، وأنشطته: أي حللته، وأنشطت الحبل: أي مددته. قال الفراء: أنشد العقال: أي حل ونشط: أي ربط الحبل في يديه. قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط، وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. وقال السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. قال عكرمة وعطاء: هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. قال في الصحاح: والناشطات نشطاً: يعني النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلط، والهموم تنشط بصاحبها. وقال أبو عبيدة وقتادة: هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد. وقيل الناشطات لأرواح المؤمنين، والنازعات لأرواح الكافرين، لأنها تجذب روح المؤمن برفق وتجذب روح الكافر بعنف، وقوله: "نشطاً" مصدر، وكذا سبحاً وسبقاً.
3- "والسابحات" الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله، كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه. وقال مجاهد أيضاً: السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة: والخيل تعلم حين تسـ ـبح في حياض الموت سبحا وقال قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله: "وكل في فلك يسبحون" وقال عطاء: هي السفن تسبح في الماء، وقيل هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله.
4- "فالسابقات سبقاً" هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف. قال مسروق ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء. وقال أبو روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وروي نحوه عن مجاهد. وقال مقاتل: تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وقال الربيع: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله. وقال مجاهد أيضاً: هو الموت يسبق الإنسان. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً. وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار. قال الجرجاني: عطف السابقات بالفاء، لأنها مسببة من التي قبلها: أي ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سبباً للذهاب.
قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله: 5- "فالمدبرات أمراً" لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبر. قال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله الواحدي: بأنها أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعضا كقوله: قالم زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوض إليهم التدبير. ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية. والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء، ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته "فالمدبرات أمراً" قال القشيري: أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور. والثاني أنها الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبر طلوعها وأفولها. الثاني تدبر ما قضاه فيها من الأحوال. ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عز وجل، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به. وقيل إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها مدبرات. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف: أي والنازعات، وكذا وكذا لتبعثن. قال الفراء: وحذف لمعرفة السامعين به، ويدل عليه قوله: " أإذا كنا عظاما نخرة " وقيل إن جواب القسم قوله: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" أي إن في يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى. قال ابن الأنباري: وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال بينهما، وقيل جواب القسم "هل أتاك حديث موسى" لأن المعنى: قد أتاك، وهذا ضعيف جداً، وقيل الجواب.
6- "يوم ترجف الراجفة" على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام، والأول أولى "يوم ترجف الراجفة" انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدر للقسم، أو بإضمار اذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف: إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب كالرعد، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، والرادفة: النفخة الثانية التي تكون عند البعث، وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين. وقال ابن زيد: الراجفة الأرض، والرادفة الساعة. وقال مجاهد: الرادفة الزلزلة تتبعها الرادفة الصيحة، وقيل الراجفة اضطراب الأرض والرادفة الزلزلة، وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد التحرك هنا فقط، بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً: إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وظهور الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر: أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا
ومحل 7- "تتبعها الرادفة" النصب على الحال من الراجفة، والمعنى: لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها.
8- "قلوب يومئذ واجفة" قلوب مبتدأ، ويومئذ منصوب بواجفة، وواجفة صفة قلوب.
وجملة 9- "أبصارها خاشعة" خبر قلوب والراجفة المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة. قال جمهور المفسرين: أي خائفة وجلة. وقال السدي: زائلة عن أماكنها، نظيرة "إذ القلوب لدى الحناجر" وقال المؤرج: قلقة مستوفزة. وقال المبرد: مضطربة، يقال وجف القلب يجف وجيفا: إذا خفق كما يقال وجب يجب وجيباً، والإيجاف: السير السريع، فأصل الوجيف اضطراب القلب، ومنه قول قيس بن الخطيم: إن بني جحجبي وقومهم أكبادنا من ورائهم تجف أبصارها خاشعة: أي أبصار أصحابها، فحذف المضاف، والخاشعة الذليلة، والمراد أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة كقوله "خاشعين من الذل" قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام، ويدل على هذا أن السياق في منكري البعث.
10- " يقولون أإنا لمردودون في الحافرة " هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون: أي أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا، يقال رجع فلان في حافرته: أي رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء وابتداء الأمر، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته: أي على الطريق الذي جاء منه، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة: أي عند أول ما التقوا وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، ومن هذا قول الشاعر: أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع، وقيل الحافرة: العاجلة، والمعنى: إنا لمردودون إلى الدنيا، وقيل الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، ومنه قول الشاعر: آليت لا أنساكم فاعلموا حتى يرد الناس في الحافرة‌ والمعنى: إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل والفراء، وبه قال مجاهد. وقال ابن زيد: الحافرة النار، واستدل بقوله: "تلك إذاً كرة خاسرة". قرأ الجمهور "في الحافرة" وقرأ أبو حيوة في الحفرة.
11- " أإذا كنا عظاما نخرة " أي بالية متفتتة، يقال نخر العظم بالكسر: إذا بلى، وهذا تأكيد لإنكار البعث: أي كيف نرد أحياء ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة، والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون: أي أئذا كنا عظاماً بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة. قرأ الجمهور "نخرةً" وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر " نخرة " واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي. قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد: أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل هما بمعنى، تقول العرب: نخر الشيء فهو ناخر ونخر، وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك. قال الأخفش: هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن. قال الشاعر: يظل بها الشيخ الذي كان بادنا يدب على عوج له نخرات يعني على قوائم عوج، وقيل الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها. وقال مجاهد نخرة: أي مرفوتة كما في قوله: "رفاتا"، وقد قرئ إذا كنا وأئذا كنا بالاستفهام وبعدمه.
ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال: 12- "قالوا تلك إذا كرة خاسرة" أي رجعه ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، والمعنى: أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد. وقيل معنى خاسرة كاذبة: أي ليس بكائنة، كذا قال الحسن وغيره. وقال الربيع بن أنس: خاسرة على من كذب بها. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن ردعنا بعد الموت لنخسرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار، والكرة الرجعة، والجمع كرات.
وقوله: 13- "فإنما هي زجرة واحدة" تعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات، والمعنى: لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة، وكان ذلك الإحياء والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها. وقيل إن الضمير في قوله: إنما هي. راجع إلى الرادفة المتقدم ذكرها.
14- "فإذا هم بالساهرة" أي فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض، قال الواحدي: المراد بالساهرة وجه الأرض، وظاهرها في قول الجميع. قال الفراء: سميت بهذا الاسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها، فسميت بذلك، ومنه قول أبي كثير الهذلي: يردون ساهرة كأن حميمها وغميمها أسداف ليل مظلم وقول أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم سـاهــرة وبحر ومــا فــاهــوا بــه لهم مــقيم يريد لحم حيوان أرض ساهرة. قال في الصحاح: الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله: "فإذا هم بالساهرة". وقال: الساهرة أرض بيضاء، وقيل أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها، وقيل الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق. وقال سفيان الثوري: الساهرة أرض الشام. وقال قتادة: هي جهنم: أي فإذها هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم.
وجملة 15- "هل أتاك حديث موسى" مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى هل أتاك: قد جاءك وبلغك، هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أول ما نزل عليه في شأنهما فيكون المعنى على الاستفهام: أي هل أتاك حديثه أنا أخبرك به.