تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 591 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 591

590

هي سبع عشرة آية، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت "والسماء والطارق" بمكة، وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وابن مردويه عن خالد العدواني "أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصي حين أتاهم يبتغي النصر عندهم، فسمعه يقرأ "والسماء والطارق" حتى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهلية، ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل، فقرأتها، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه". 1- "والسماء والطارق" أقسم سبحانه بالسماء والطارق، وهو النجم الثاقب كما صرح به التنزيل. قال الواحدي: قال المفسرون: أقسم الله بالسماء والطارق، يعني الكواكب تطرق بالليل وتخفى بالنهار. قال الفراء: الطارق النجم لأنه يطلع بالليل، وما أتاك ليلاً فهو طارق. وكذا قال الزجاج والمبرد: ومنه قول امرئ القيس: ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتهــا عن ذي تمائــم محـول وقوله أيضاً: ألم تريــاني كلـما جئــت طارقــاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين أو جنس النجم؟ فقيل هو زحل، وقيل الثريا، وقيل هو الذي ترمى به الشياطين، وقيل هو جنس النجم. قال في الصحاح: والطارق النجم الذي يقال له كوكب الصبح، ومنه قول هند بنت عتبة: نحن بنــات طــارق نمشي عــلى الــنــمارق أي إن آبائنا في الشرف كالنجم المضيء، وأصل الطروق الدق، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إن الطروق قد يكون نهاراً، والعرب تقول: أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير".
ثم بين سبحانه ما هو الطارق، تفخيماً لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال: 2- " وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب " الثاقب: المضيء، ومنه يقال ثقب النجم ثقوباً وثقابة إذا أضاء، وثقوبه ضوؤه، ومنه قول الشاعر: أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب قال الواحدي: الطارق يقع على كل ما طرق ليلاً، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله: "النجم الثاقب" قال مجاهد: الثاقب المتوهج. قال سفيان: كل ما في القرآن وما أدراك فقد أخبره، وكل شيء قال: وما يدريك لم يخبره به،
3- وارتفاع قوله: "النجم الثاقب" على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر نشأ مما قبله، كأنه قيل ما هو؟ فقيل هو النجم الثاقب.
4- "إن كل نفس لما عليها حافظ" هذا جواب القسم، وما بينهما اعتراض، وقد تقدم في سورة هود اختلاف القراء في لما، فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدر، وهو اسمها، واللام هي الفارقة. وما مزيدة: أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ، ومن قرأ بالتشديد فإن نافية، ولما بمعنى إلا: أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف. قيل والحافظ: هم الحفظة من الملائكة هو الله عز وجل، وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح، ويكفهم عن المفاسد. والأول أولى لقوله: "وإن عليكم لحافظين" وقوله: " ويرسل عليكم حفظة " وقوله: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه" والحافظ على الحقيقة هو الله عز وجل كما في قوله: "فالله خير حافظاً" وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم بأمره.
5- "فلينظر الإنسان مم خلق" الفاء للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث. قال مقاتل: يعني المكذب بالبعث "مم خلق" من أي شيئ خلقه الله، والمعنى: فلينظر نظر التفكر والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نظفة قادر على إعادته.
6- "خلق من ماء دافق" والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والماء: هو المني، والدفق: الصب، يقال دفقت الماء: أي صببته، يقال ماء دافق: أي مدفوق، مثل "عيشة راضية" أي مرضية. قال الفراء والأخفش: ماء دافق: أي مصبوب في الرحم. قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم: سر كاتم: أي مكتوم، وهم ناصب: أي منصوب، وليل نائم ونحو ذلك. قال الزجاج: من ماء ذي اندفاق، يقال دارع وقايس ونابل: أي ذو درع وقوس ونبل، وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما.
ثم وصف هذا الماء فقال: 7- "يخرج من بين الصلب والترائب" أي صلب الرجل، وترائب المرأة، والترائب جمع تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر، والولد لا يكون إلا من الماءين. قرأ الجمهور "يخرج" مبنياً للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول. وفي الصلب: وهو الظهر لغات. قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام، وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام. وقرأ اليماني بفتحهما، ويقال صالب على وزن قالب. ومنه قول العباس بن عبد المطلب: تنقل من صلب إلى رحم في أبياته المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم كلام في هذا عند تفسير قوله: "الذين من أصلابكم" وقيل الترائب: ما بين الثديين. وقال الضحاك: ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين. وقال سعيد بن جبير: هي الجيد. وقال مجاهد: هي ما بين المنكبين والصدر. وروي عنه أيضاً أنه قال: هي الصدر، وروي عنه أيضاً أنه قال: هي التراقي. وحكى الزجاج: أن الترائب عصارة القلب، ومنه يكون الولد، والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر والنحر، ومنه قول دريد بن الصمة: فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب قال عكرمة: الترائب الصدر، وأنشد: نظام در على ترائبها قال في الصحاح: التربية واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، قال أبو عبيدة: جمع التريبة تريب، ومنه قول المثقب العبدي: ومن ذهب بنين على تريب كلون العاج ليس بذي غصون وقول امرئ القيس: ترائبها مصقولة كالسجنجل وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. قال قتادة والحسن: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون معنى من بين الصلب، من الصلب، وقيل إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب، وقيل إن المعنى: يخرج من جميع أجزاء البدن، ولا يخالف هذا ما في الآية، لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب وما يجاورها وما فوقها مما يكون تنزله منها.
8- "إنه على رجعه لقادر" الضمير في إنه يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله: خلق عليه، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه، والضمير في رجعه عائد إلى الإنسان، والمعنى: أن الله سبحانه على رجعل الإنسان: أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر هكذا قال جماعة من المفسرين: وقال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل. وقال عكرمة والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب. وقال مقاتل ابن حيان يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر، ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي.
9- "يوم تبلى السرائر" العامل في الظرف على التفسير الأول، هو رجعه، وقيل لقادر. واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم، وقيل العامل فيه مقدر: أي يرجعه يوم تبلى السرائر، وقيل العامل فيه مقدر، وهو اذكر، فيكون مفعولاً به، وأما على قول من قال: إن المراد رجع الماء، فالعامل في الظرف مقدر، وهو اذكر، ومعنى تبلى السرائر: تختبر وتعرف، ومنه قول الراجز: قد كنت قبل اليوم تزدريني فاليوم أبلوك وتبتليني أي أختبرك وتختبرني، وأمتحنك وتمتحنني، والسرائر: ما يسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف، فعند ذلك يتميز الحسن منها عن القبيح، والغث من السمين.
10- "فما له من قوة ولا ناصر" أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله، ولا ناصر ينصره مما نزل به. قال عكرمة: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. قال سفيان: القوة العشيرة، والناصر الحليف، والأول أولى.
11- "والسماء ذات الرجع" الرجع: المطر. قال الزجاج: الرجع المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر. قال الخليل: الرجع المطر نفسه، والرجع نبات الربيع. قال أهل اللغة: الرجع المطر. قال المتنخل يصف سيفاً له: أبيض كالرجع رسول إذا ما باح في محتفل يختلي قال الواحدي: الرجع المطر في قول جميع المفسرين، وفي هذا الذي حكاه عن جميع المفسرين نظر، فإن ابن زيد قال: الرجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقال بعض المفسرين: ذات الرجع ذات الملائكة لرجوعهم إليهما بأغمال العباد. وقال بعضهم: معنى ذات الرجع: ذات النفع، ووجه تسمية المطر رجعاً ما قاله القفال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت وهو إعادته، وكذا المطر لكونه يعود مرة بعد أخرى سمي رجعاً. وقيل إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض، وقيل سمته العرب رجعاً لأجل التفاؤل ليرجع عليهم، وقيل لأن الله يرجعه وقتاً بعد وقت.
12- "والأرض ذات الصدع" هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر، والصدع: الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع له. قال أبو عبيدة والفراء: تتصدع بالنبات. قال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه، وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث. والحاصل أن الصدع إن كان اسماً للنبات فكأنه قال: والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق فكأنه قال: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه.
وجواب القسم قوله: 13- "إنه لقول فصل" أي إن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما.
14- "وما هو بالهزل" أي لم ينزل باللعب، فهو جد ليس بالهزل، والهزل ضد الجد. قال الكميت: تجد بنا في كل يوم وتهزل
15- "إنهم يكيدون كيداً" أي يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحق. قال الزجاج: يخاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون ما هم على خلافه.
16- "وأكيد كيداً" أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم، قيل هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر.
17- "فمهل الكافرين" أي أخرهم، ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم، وارض بما يدبره لك في أمورهم، وقوله: "أمهلهم" بدل، من مهل ومهل وأمهل بمعنى مثل نزل وأنزل، والإمهال الإنظار، وتمهل في الأمر اتأد، وانتصاب "رويداً" على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور أو نعت لمصدر محذوف: أي أمهلهم إمهالاً رويداً: أي قريباً أو قليلاً. قال أبو عبيدة: والرويد في كلام العرب تصغير الرود، وأنشد: كأنها تمشي على رود أي على مهل، وقيل تصغير أرواد مصدر رود تصغير الترخيم، ويأتي اسم فعل نحو رويد زيداً: أي أمهله، ويأتي حالاً نحو سار القوم رويداً: أي متمهلين، ذكر معنى هذا الجوهري، والبحث مستوفى في علم النحو. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والسماء والطارق" قال: أقسم ربك بالطارق: وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "إن كل نفس لما عليها حافظ" قال: كل نفس عليها حفظة من الملائكة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: "النجم الثاقب" قال: النجم المضيء "إن كل نفس لما عليها حافظ" قال: إلا عليها حافظ. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه "يخرج من بين الصلب والترائب" قال: ما بين الجيد والنحر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: تريبة المرأة وهي موضع القلادة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال: الترائب بين ثديي المرأة. وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً قال: الترائب أربعة أضلاع من كل جانب من أسفل الأضلاع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "إنه على رجعه لقادر" قال: على أن يجعل الشيخ شاباً والشاب شيخاً. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: " والسماء ذات الرجع " قال: المطر بعد المطر "والأرض ذات الصدع" قال: صدعها عن النبات. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "والأرض ذات الصدع" تصدع الأدوية. وأخرج ابن منده والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعاً "والأرض ذات الصدع" قال: تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إنه لقول فصل" قال: حق "وما هو بالهزل" قال: بالباطل، وفي قوله: "أمهلهم رويداً" قال: قريباً. سورة الأعلى ويقال سورة سبح: هي تسع عشرة آية وهي مكية في قول الجمهور. وقال الضحاك: هي مدنية. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة "سبح اسم ربك الأعلى" بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: "أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرآننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت "سبح اسم ربك الأعلى" في سورة مثلها". وأخرج أحمد والبزار وابن مردويه عن علي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة: "سبح اسم ربك الأعلى"". أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، و"هل أتاك حديث الغاشية"، وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعاً" وفي لفظ "وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما" وفي الباب أحاديث. وأخرج مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى". وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد". وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بسبح، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين"، وفي الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى". قوله: 1- "سبح اسم ربك الأعلى" أي نزهه عن كل ما لا يليق به. قال السدي: سبح اسم ربك الأعلى: أي عظمه، قيل والاسم هنا مقحم لقصد التعظيم، كما في قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر والمعنى: سبح ربك الأعلى. قال ابن جرير: المعنى نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه، فلا تكون على هذا مقحمة. وقيل المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وقال الحسن: معنى سبح اسم ربك الأعلى: صل له. وقيل المعنى: صل بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل المعنى: ارفع صوتك بذكر ربك، ومنه قول جرير: قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا تكبيراً والأعلى صفة للرب، وقيل للاسم، والأول أولى.
وقوله: 2- "الذي خلق فسوى" صفة أخرى للرب. قال الزجاج: خلق الإنسان مستوياً، ومعنى سوى: عدل قامته. قال الضحاك: خلقه فسوى خلقه، وقيل خلق الأجساد فسوى الأفهام، وقيل خلق الإنسان وهيأه للتكليف.
3- "والذي قدر فهدى" صفة أخرى للرب، أو معطوف على الموصول الذي قبله. قرأ علي بن أبي طالب والكسائي والسلمي "قدر" مخففاً، وقرأ الباقون بالتشديد، قال الواحدي: قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة. وروي عنه أيضاً أنه قال في معنى الآية: قدر السعادة والشقاوة وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل قدر أرزاقهم وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنساً، ولمراعيهم إن كانوا وحشاً. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. قال الفراء: أي قدر فهدي وأضل فاكتفي بأحدهما، وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا. والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر وهدى إلا بدليل يدل عليه، ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين، إما على البدل أو على الشمول، والمعنى: قدر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدي كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له، ويسره لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه.
4- "والذي أخرج المرعى" صفة أخرى للرب: أي أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر.
5- "فجعله غثاء أحوى" أي فجعله بعد أن كان أخضر غثاء: أي هشيماً جافاً كالغثاء الذي يكون فوق السبل أحوى: أي أسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود. قال قتادة: الغثاء الشيء اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس غثاء وهشيم. قال امرؤ القيس: كأن ذرى رأس المجمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل وانتصاب غثاء على أنه المفعول الثاني، أو على الحال، وأوحى صفة له. وقال الكسائي: هو حال من المرعى: أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري "فجعله غثاء" بعد ذلك، والأحوى مأخوذ من الحوة، وهي سواد يضرب إلى الخضرة. قال في الصحاح: والحوة سمرة الشفة، ومنه قول ذي الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
6- "سنقرئك فلا تنسى" أي سنجعلك قائاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرأه، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى الله عليه وسلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت "سنقرئك فلا تنسى".
وقوله: 7- "إلا ما شاء الله" استثناء مفرغ من أعم المفاعيل: أي لا تنسى مما تقرأه شيئاً من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه. قال الفراء: وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً كقوله: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك" وقيل إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك، فإذن قد نسي ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئاً نسياناً كلياً. وقيل بمعنى النسخ: أي إلا ما شاء الله أن ينسخ تلاوته. وقيل معنى فلا تنسى: فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه. وقيل المعنى: إلا ما شاء الله أن يؤخر أنزاله. وقيل لا في قوله: "فلا تنسى" للنهي. والألف مزيدة لرعاية الفاصلة، كما في قوله: "فأضلونا السبيلا" يعني فلا تغفل قراءته وتذكره "إنه يعلم الجهر وما يخفى" الجملة تعليل لما قبلها: أي يعلم ما ظهر وما بطن والإعلان والإسرار، وظاهره العموم فيندرج تحته ما قيل إن الجهر ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وما يخفى هو ما نسخ من صدره، ويدخل تحته أيضاً ما قيل من أن الجهر هو إعلان الصدقة، وما يخفى هو إخفاؤها، ويدخل تحته أيضاً ما قيل إن الجهر جهره صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه، وما يخفى: ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر.
8- " ونيسرك لليسرى " معطوف على سنقرئك، وما بينهما اعتراض. قال مقاتل: أي نهون عليك عمل الجنة، وقيل نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وقيل للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السهلة، وقيل نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به، والأولى حمل الآية على العموم: أي نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كل أمر من أمورهما التي تتوجه إليك.
9- "فذكر إن نفعت الذكرى" أي عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك وأرشدهم إلى سبل الخير واهدهم إلى شرائع الدين. قال الحسن: تذكره للمؤمن وحجة على الكافر. قال الواحدي: إن نفعت أو لم تنفع، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله: "سرابيل تقيكم الحر" الآية. قال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع، فالمعنى: إن نفعت الذكرى أو لم تنفع. وقيل إنه مخصوص في قوم بأعيانهم، وقيل إن بمعنى ما: أي فذكر ما نفعت الذكرى، لأن الذكرى نافعة بكل حال، وقيل إنها بمعنى قد، وقيل إنها بمعنى إذ. وما قاله الواحدي والجرجاني أولى وقد سبقهما إلى القول به الفراء والنحاس. قال الرازي: إن قوله: "إن نفعت الذكرى" للتنبيه على أشرف الحالين وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى، والمعلق بإن على الشري لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات: منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: " واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون " ومنها قوله: " جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه، ومنها قوله: "فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" والمراجعة جائزة بدون هذا الظن، فهذا الشرط فيه فوائد: منها ما تقدم، ومنها البعث على الانتفاع بالذكر كما يقول الرجل لمن يرشده: قد أوضحت لك إن كنت تعقل، وهو تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم على أنها لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير الدعوة، فأما الدعاء الأول فعام انتهى.
ثم بين سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه فقال: 10- "سيذكر من يخشى" أي سيتعظ بوعظك من يخشى الله فيزداد بالتذكير خشية وصلاحاً.
11- "ويتجنبها الأشقى" أي [ويتحنب] الذكرى ويبعد عنها الأشقي من الكفار لإصراره على الكفر بالله وانهماكه في معاصيه.
ثم وصف الأشقى فقال: 12- "الذي يصلى النار الكبرى" أي العظيمة الفظيعة، لأنها أشد حراً من غيرها. قال الحسن: النار الكبرى نار جهنم. والنار الصغرى نار الدنيا. وقال الزجاج: عي السفلى من أطباق النار.
13- " ثم لا يموت فيها ولا يحيا " أي لا يموت فيها فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياة يتنفع بها، ومنه قول الشاعر: ألا ما لتفس لا تموت فينقضي [عناها] ولا تحيا حياة لها طعم وثم للتراخي في مراتب الشدة، لأن التردد بين الموت والحياة أفظع من صلى النار الكبرى.
14- "قد أفلح من تزكى" أي من تطهر من الشرك فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه. قال عطاء والربيع: من كان عمله زاكياً نامياً. وقال قتادة: تزكى بعمل صالح. قال قتادة: وعطاء وأبو العالية: نزلت في صدقة الفطر. قال عكرمة: كان الرجل يقول: أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. وأصل الزكاة في اللغة النماء. وقيل المراد بالآية زكاة الأموال كلها. وقيل المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكى لا تزكى.
15- "وذكر اسم ربه فصلى" قيل المعنى: ذكر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له، وقيل ذكر اسم ربه بلسانه فصلى: أي فأقام الصلوات الخمس. وقيل ذكر موقفه ومعاده فعبده، وهو كالقول الأول. وقيل ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله: الله أكبر وقيل ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى، وقيل هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة، وقيل المراد بالصلاة هنا صلاة العيد، كما أن المراد بالتزكي في الآية الأولى زكاة الفطر، ولا يخفى بعد هذا القول لأن السورة مكية، ولم تفرض زكاة الفطر وصلاة العيد إلا بالمدينة.