تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 597 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 597

596

هي ثمان آيات وهي مكية في قول الجمهور، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: أنزلت سورة التين بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً ولا قراءة منه". وأخرج الخطيب عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فقرأ: " والتين والزيتون "". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب والتين والزيتون". وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن زرعة بن خليفة قال: "اتيت النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، فلما صلينا الغداة قرأ باتين والزيتون، و"إنا أنزلناه في ليلة القدر"". قال أكثر المفسرين: هو التين الذي يأكله الناس 1- "والتين والزيتون" الذي يعصرون منه الزيت، وإنما أقسم بالتين، لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك، وجعلها على مقدار اللقمة. قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن وأكثرها عذاء، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات، وأما الزيتون فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية. وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقال قتادة: التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال عكرمة وكعب الأحبار: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس. وليت شعري ما الحامل هؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل. وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية. قال الفراء: سمعت رجلاً يقول: التين جبال حلوان إلى همدان، والزيتون جبال الشام. قلت: هب أنك سمعت هذا الرجل، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة، ولا هو نقل عن الشارع. وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء، وقيل إنه على [حذف] مضاف: أي ومنابت التين والزيتون. قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول ما لا يجوز خلافه.
2- "وطور سينين" هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور، ومعنى سنين: المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة: وقال مجاهد: هو المبارك بالسريانية. وقال مجاهد والكلبي: سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء لأنه جعل اسماً للبقعة، وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام، وهي الأرض المقدسة كما في قوله "إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه. قرأ الجمهور سينين بكسر السين، وقرأ ابن إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة سيناء بالكسر والمد.
3- "وهذا البلد الأمين" يعني مكة، سماه أميناً لأنه آمن كما قال: "أنا جعلنا حرماً آمناً" يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين. قال الفراء وغيره: الأمين بمعنى الآمن، ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل.
4- " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " هذا جواب القسم: أي خلقنا جنس الإنسان كائناً في أحسن تقويم وتعديل. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قومته فاستقام. قال القرطبي: هو اعتداله واستواء شأنه، كذا قال عامة المفسرين. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صوته" يعني على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: "ليس كمثله شيء" وقوله: "ولا يحيطون به علماً" ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب العبر والاعتبار للجاحظ، وفي الكتاب الذي عقده النيسابوري على قوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" وهو في مجلدين ضخمين.
5- "ثم رددناه أسفل سافلين" أي رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين. قال الواحدي: والسافلون هم الضعفاء والزمناء والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً. وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، وقوله: "أسفل سافلين" إما حال من المفعول: أي رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف: أي مكاناً أسفل سافلين.
6- "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" هذا الاستثناء على القول الأول منقطع: أي لكن الذين آمنوا الخ، ووجهه أن الهرم والرد إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى. وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلاً من ضمير رددناه، فإنه في معنى الجمع: أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، "فلهم أجر غير ممنون" أي غير مقطوع: أي فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم، الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد، وقال: أسفل سافلين على الجمع، لأن الإنسان في معنى الجمع، ولو قال أسفل سافل لجاز، لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد. وقيل معنى رددناه أسفل سافلين: رددناه إلى الضلال، كما قال: " إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك.
7- "فما يكذبك بعد بالدين" الخطاب للإنسان الكافر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة: أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أي شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة، فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين. قال الفراء والأخفش: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين، كأنه قال: من يقدر على ذلك؟ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، واختار هذا ابن جرير. والدين: ومنه قول الشاعر: دنا تميماً كما كانت أوائلنا دانت أوائلهم من سالف الزمن وقال الآخر: ولما صرح الشر فأمسى وهو عريان ولم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا‌
8- "أليس الله بأحكم الحاكمين" أي أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً؟ حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء، وفيه وعيد شديد للكفار، ومعنى أحكم الحاكمين: أتقن الحاكمين في كل ما يخلق، وقيل أحكام الحاكمين قضاءً وعدلاً. والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجاباً كما تقدم تفسير قوله: "ألم نشرح لك صدرك". وقد أخرج الخطيب وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال: لما أنزلت سورة التين والزيتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً شديداً حتى تبين لنا شدة فرحه، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال: التين بلاد الشام، والزيتون بلاد فلسطين، وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى وهذا البلد الأمين مكة "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" محمداً "ثم رددناه أسفل سافلين" عبدة اللات والعزى "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" أبو بكر وعمر وعثمان وعلي " فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين " إذ بعثك فيهم نبياً وجمعك على التقوى يا محمد، ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدم من كون في إسناده ذلك المجهول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والتين والزيتون" قال: مسجد نوح الذي بني على الجودي، والزيتون قال: بيت المقدس "وطور سينين" قال: مسجد الطور "وهذا البلد الأمين" قال: مكة "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". " ثم رددناه أسفل سافلين " يقول: يرد إلى أرذل العمر كبر حتى ذهب عقله، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم "فما يكذبك بعد بالدين" يقول: بحكم الله. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضاً "والتين والزيتون" قال: الفاكهة التي يأكلها الناس "وطور سينين" قال: الطور الجبل، والسينين المبارك. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" قال في أعدل خلق "ثم رددناه أسفل سافلين" يقول: إلى أرذل العمر "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" يعني غير منقوص، يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، وذلك قوله: " ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال: لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "ثم رددناه أسفل سافلين" يقول: إلى الكبر وضعفه، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً". وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً "من قرأ التين والزيتون، فقرأ "أليس الله بأحكم الحاكمين" فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً "إذا قرأت التين والزيتون فقرأ "أليس الله بأحكم الحاكمين" فقل بلى". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ "أليس الله بأحكم الحاكمين" قال: سبحانك اللهم فبلى اهـ. سورة العلق ويقال سورة العلق، وهي تسع عشرة آية، وقيل عشرون آية وهي مكية بلا خلاف، وهي أول ما نزل من القرآن. وأخرج ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: أول ما نزل من القرآن "اقرأ باسم ربك الذي خلق". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي موسى الأشعري قال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" أول سورة أنزلت على محمد. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة قالت: إن أول ما نزل من القرآن "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة، وفيه فجاءه الحق وهو في غار حراء، فقال له اقرأ الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن. قرأ الجمهور 1- "اقرأ" بسكون الهمزة أمراً من القراءة. وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء، وكأنه قلب الهمزة ألفاً ثم حذفها للأمر، والأمر بالقراءة يقتضي مقروءاً، فالتقدير: اقرأ ما يوحى إليك، أو ما نزل عليك، أو ما أمرت بقراءته، وقوله: "باسم ربك" متعلق بمحذوف هو حال: أي اقرأ ملتبساً باسم ربك أو مبتدئاً باسم ربك أو مفتتحاً، ويجوز أن تكون الباء زائدة، والتقدير: اقرأ اسم ربك كقول الشاعر: سود المحاجر لا يقرأن بالسور قاله أبو عبيدة: وقال أيضاً: الاسم صلة: أي اذكر ربك. وقيل الباء بمعنى على: أي اقرأ على اسم ربك، يقال افعل كذا بسم الله، وعلى اسم الله قاله الأخفش. وقيل الباء للاستعانة: أي مستعيناً باسم ربك، ووصف الرب بقوله: "الذي خلق" لتذكير النعمة لأن الخلق هو أعظم النعم، وعليه يترتب سائر النعم. قال الكلبي: يعني الخلائق.
2- "خلق الإنسان من علق" يعني بني آدم، والعلقة الدم الجامد، وإذا جرى فهو المفسوح. وقال: من علق بجمع علق لأن المراد بالإنسان الجنس، والمعنى: خلق جنس الإنسان من جنس العلق، وإذا كان المراد بقوله: الذي خلق كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفاً له لما فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خلق الذي الإنسان فيكون الثاني تفسيراً للأول. والنكتة ما في الإبهام، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أولاً ثم فسر ثانياً.
3- "اقرأ وربك الأكرم" أي افعل ما أمرت به من القراءة، وجملة "وربك الأكرم" مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه وسلم من قوله: ما أنا بقارئ يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وهو أمي، فقيل له اقرأ وربك الأكرم الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم. قال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد فلم يعجل بعقوبتهم، وقيل إنه أمره بالقراءة أولاً لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانياً للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد، والأول أولى.
4- "الذي علم بالقلم" أي علم الإنسان الخط بالقلم، فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب قال الزجاج: علم الإنسان الكتابة بالقلم. قال قتادة: القلم نعمة من الله عز وجل عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين ولا أمور الدنيا، وسمي قلماً لأنه يقلم: أي يقطع.
5- "علم الإنسان ما لم يعلم" هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها: أي علمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها، قيل المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله: "وعلم آدم الأسماء كلها" وقيل الإنسان هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأولى حمل الإنسان على العموم، والمعنى: أن من علمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم.
وقوله: 6- "كلا" ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه بسبب طغيانه، وإن لم يتقدم له ذكر، ومعنى "إن الإنسان ليطغى" أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه. وقيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل، وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أول هذه السورة. وقيل كلا هنا بمعنى حقاً قاله الجرجاني، وعلل ذلك بأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون كلا رداً له.
وقوله: 7- " أن رآه استغنى " علة ليطغى: أي ليطغى أن رأى نفسه مستغنياً، أو لأن رأى نفسه مستغنياً، والرؤية هنا بمعنى العلم، ولو كانت البصرية لامتنع الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد لأن ذلك من خواص باب علم، ونحوه. قال الفراء: لم يقل رأى نفسه كما قيل قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تريد اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان فلا يقتصر فيه على مفعول واحد، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتين، ومتى تراك خارجاً، ومتى تظنك خارجاً، قيل والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال. قرأ الجمهور " أن رآه " بمد الهمزة. وقرأ قنبل عن ابن كثير بقصرها. قال مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه، وكذا قال الكلبي: ثم هدد سبحانه وخوف.
فقال: 8- "إن إلى ربك الرجعى" أي المرجع، والرجعى والمرجع والرجوع مصادر، يقال: رجع إليه مرجعاً ورجوعاً ورجعى، وتقدم الجار والمجرور للقصر: أي الرجعى إليه سبحانه لا إلى غيره.
9- " أرأيت الذي ينهى ".
10- "عبداً إذا صلى" قال المفسرون: الذي ينهى أبو جهل، والمراد بالعبد محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعله حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية.
11- "أرأيت إن كان على الهدى" يعني العبد المنهي إذا صلى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
12- "أو أمر بالتقوى" أي بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقي به النار.
13- "أرأيت إن كذب وتولى" يعني أبا جهل، كذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عن الإيمان، وقوله: "أرأيت" في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني لأن الرؤية لما كانت سبباً للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها، والخطاب لكل من يصلح له. وقد ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات، وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على الذي ينهى الواقع مفعولاً أول لأرأيت الأولى، ومفعول أرأيت الأولى الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثاني، حذف الأول لدلالة مفعلو أرأيت الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأول، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع لأنه يستدعي إضماراً، والجمل لا تضمر، إنما تضمر المفردات، وإنما ذكر من باب الحذف للدلالة، وأما جواب الشرط المذكور مع أرأيت في الموضعين الآخرين. فهو محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى.
14- "ألم يعلم بأن الله يرى" وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني، ومعنى "ألم يعلم بأن الله يرى" أي يطلع على أحواله، فيجازيه بها، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقيل أرأيت الأولى مفعولها الأول الموصول، ومفعول الثاني وقيل كل واحدة من أرأيت بدل من الأولى، و"ألم يعلم بأن الله يرى" الخبر.
15- "كلا" ردع للناهي، واللام في قوله: "لئن لم ينته" هي الموطئة للقسم: أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر " لنسفعا بالناصية " السفع الجذب الشديد، والمعنى: لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار وهذا كقوله: "فيؤخذ بالنواصي والأقدام" ويقال سفعت الشيئ: إذا قبضته وجذبته، ويقال سفع بناصيته فرسه. قال الراغب: السفع الأخذ بسفعة الفرس: أي بسواد ناصيته، وباعتبار السواد قيل: به سفعة غضب اعتباراً بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب، وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد، وامرأة سفعاء اللون انتهى، وقيل هو مأخوذ من سفع النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى سواد، ومنه قول الشاعر: أثافي سفعاً في معرس مرجل
وقوله: 16- "ناصية" بدل من الناصية، وإنما أبدل النكرة من المعرفة لوصفها بقوله: "كاذبة خاطئة" وهذا على مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها. وأما على مذهب البصرين، فيجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا شرط، وأنشدوا: فلا وأبيك خير منك إني ليؤذيني التحمحم والصهيل قرأ الجمهور بجر "ناصية كاذبة خاطئة" والوجه ما ذكرنا. وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ أي هي ناصية، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي بنصبها على الذم. قال مقاتل: أخبر عنه بأنه فاجر خاطئ، فقال ناصية كاذبة خاطئة، تأويلها: صاحبها كاذب خاطئ.
17- "فليدع ناديه" أي أهل ناديه، والنادي: المجلس الذي يجلس فيه القوم ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة، والمعنى: ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه، ومنه قول الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس أي أهله. قيل إن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتهددني وأنا أكثر الوادي نادياً؟ فنزلت " فليدع ناديه * سندع الزبانية " أي الملائكة الغلاظ الشداد، كذا قال الزجاج: قال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر: واحدهم زابن، وقال أبو عبيدة: زبنية، وقيل زباني، وقيل هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبابيل. وقال قتادة: هم الشرط في كلام العرب، وأصل الزبن الدفع، ومنه قول الشاعر: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه، ومنه قول الشاعر: مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عظام حلومها قرأ الجمهور "سندع" بالنون، ولم ترسم الواو كما في قوله: "يوم يدع الداع" وقرأ ابن أبي عبلة سيدعى على البنار للمفعول ورفع الزبانية على النيابة.
18- "سندع الزبانية".
ثم كرر الردع والزجر فقال: 19- "كلا لا تطعه" أي لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة "واسجد" أي صل لله غير مكترث به، ولا مبال بنهيه "واقترب" أي تقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة. وقيل المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء. وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأولى أولى. والسجودهذا الظاهر أن المراد به الصلاة، وقيل سجود التلاوة، ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية، كما سيأتي إن شاء الله. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال: "أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اقرأ. ما أقرأ؟ فضمه ثم قال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" حتى بلغ "ما لم يعلم"" وفي الصحيحين: وغيرهما من حديث عائشة "فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقال: قلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم "" الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر نادياً مني، فأنزل الله " فليدع ناديه * سندع الزبانية " فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقيل: ما يمنعك؟ فقال: قد اسود ما بيني وبينه". قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم، قال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأن على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" قال: وأنزل الله " كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى " إلى آخر السورة: يعني أبا جهل " فليدع ناديه " يعني قومه "سندع الزبانية" يعني الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى " قال: أبو جهل بن هشام حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلي على ظهره وهو ساجد لله عز وجل. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: " لنسفعا " قال: لنأخذن. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "فليدع ناديه" قال: ناصره، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد في "إذا السماء انشقت" وفي "اقرأ باسم ربك الذي خلق".