تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 599 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 599

598

سورة الزلزلةهي ثمان آيات وهي مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت "إذا زلزلت" بالمدينة. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرئني يا رسول الله، قال: اقرأ ثلاثاً من ذوات الرا، فقال الرجل: كبر سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني، قال: اقرأ ثلاثاً من ذوات حم، فقال مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثاً من المسبحات، فقال مثل مقالته الأولى، وقال: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه "إذا زلزلت الأرض زلزالها" حتى فرغ منها، قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل". وأخرج الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ إذا زلزلت الأرض عدلك له بنصف القرآن، ومن قرأ: "قل هو الله أحد" عدلت له بثلث القرآن، ومن قرأ: "قل يا أيها الكافرون" عدلت له بربع القرآن". وأخرج الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، و"قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن، و"قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن". قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة. وأخرج الترمذي عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: هل زوجت يا فلان؟ قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك "قل هو الله أحد" قال بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك "إذا جاء نصر الله والفتح" قال بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك "قل يا أيها الكافرون"؟ قال بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك "إذا زلزلت الأرض" قال بلى، قال: ربع القرآن تزوج". قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ في ليلة إذا زلزلت كان له عدل نصف القرآن". قوله: 1- "إذا زلزلت الأرض زلزالها" أي إذا حركت حركة شديدة، وجواب الشرط: تحدث، والمراد تحركها عند قيام الساعة فإنها تضطرب حتى يتكسر كل شيء عليها. قال مجاهد: وهي النفخة الأولى لقوله تعالى: " يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة " وذكر المصدر للتأكيد ثم أضافه إلى الأرض فهو مصدر مضاف إلى فاعله، والمعنى: زلزالها المخصوص الذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها. قرأ الجمهور "زلزالها" بكسر الزاي، وقرأ الجحدري وعيسى بفتحها، وهما مصدران بمعنى، وقيل المكسور مصدر والمفتوح اسم. قال القرطبي. والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس والقلقال.
2- "وأخرجت الأرض أثقالها" أي ما في جوفها من الأموات والدفائن، والأثقال جمع ثقل، قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. قال مجاهد: أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية، وقد قيل للإنس والجن الثقلان، وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير.
3- " وقال الإنسان ما لها " أي قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت؟ لما يدهمه من أمرها ويبهره من خطبها، وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقوله: ما لها مبتدأ وخبر، وفيه معنى التعجيب: أي أي شيء لها، أو لأي شيء زلزلت وأخرجت أثقالها؟.
وقوله: 4- "يومئذ" بدل من "إذا"، والعامل فيهما قوله: "تحدث أخبارها" ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفاً والعامل في يومئذ تحدث، والمعنى: يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها وتحدثهم بما عمل عليها من خير وشر، وذلك إما بلسان الحال حيث يدل على ذلك دلالة ظاهرة، أو بلسان المقال، بأن ينطقها الله سبحانه. وقيل هذا متصل بقوله: "وقال الإنسان ما لها" أي قال ما لها "تحدث أخبارها" متعجباً من ذلك، وقال يحيى بن سلام: تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها، وقيل تحدث بقيام الساعة، وأنها قد أتت وأن الدنيا قد انقضت. قال ابن جرير: تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى، ومفعول تحدث الأول محذوف والثاني هو أخبارها: أي تحدث الخلق أخبارها.
5- "بأن ربك أوحى لها" متعلق بتحدث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها، وقيل الباء زائدة، وأن وما في حيزها بدل من أخبارها، وقيل الباء سببية: أي بسبب إيحاء الله إليها. قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها، واللام في أوحى لها بمعنى إلى وإنما أثرت على إلى لموافقة الفواصل، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى، كذا قال أبو عبيدة. وقيل إن أوحى يتعدى باللام تارة، وبإلى أخرى، وقيل إن اللام على بابها من كونها للعلة، والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، والتقدير: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض: أي لأجل ما يفعلون فيها، والأولى أولى.
6- "يومئذ يصدر الناس أشتاتاً" الظرف إما بدل من يومئذ الذي قبله، وإما منصوب بمقدر هو اذكر، وإما منصوب بما بعده، والمعنى: يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب "أشتاتاً": أي متفرقين، والصدر: الرجوع وهو ضد الورود، وقيل يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار، وانتصاب أشتاتاً على الحال: والمعنى: أن بعضهم آمن وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة وهو البياض، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد، وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين وبعضهم إلى جهة الشمال، مع تفرقهم في الأديان واختلافهم في الأعمال "ليروا أعمالهم" متعلق بيصدر، وقيل فيه تقديم وتأخير: أي تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم "يومئذ يصدر الناس أشتاتاً". قرأ الجمهور "ليروا" مبنياً للمفعول، وهو من رؤية البصر: أي ليريهم الله أعمالهم. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة ونصر بن عاصم وطلحة بن مصرف على البناء للفاعل، ورويت هذه القراءة عن نافع، والمعنى: ليروا جزاء أعمالهم.
8- "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره" أي وزن نملة، وهي أصغر ما يكون من النمل. قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به.
8- "و"كذلك "من يعمل" في الدنيا "مثقال ذرة شراً يره" يوم القيامة فيسوؤه، ومثل هذه الآية قوله: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة". وقال بعض أهل اللغة: إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو الذرة، وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، والأول أولى، ومنه قول امرئ القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأتب منها لأثرا ومن الأولى عبارة عن السعداء، ومن الثانية عبارة عن الأشقياء. وقال محمد بن كعب: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا وفي نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر، والأول أولى. قال مقاتل: نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيتقل أن يعطيه التمرة والكسرة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنما أوعد الله النار على الكافرين. قرأ الجمهور "يره و" في الموضعين بضم الهاء وصلاً وسكونها وقفاً، وقرأ هشام بسكونها وصلاً ووقفاً، ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر سكونها، وعن أبي عمرو ضمها مشبعة، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية، وفي هذا النقل نظر، والصواب ما ذكرنا. وقرأ الجمهور "يره" مبنياً للفاعل في الموضعين. وقرأ ابن عباس وابن عمر والحسن والحسين ابنا علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية عنهما والجحدري والسلمي وعيسى على البناء للمفعول فيهما: أي يريه الله إياه. وقرأ عكرمة يراه على توهم أن من موصولة، أو على تقدير الجزم بحذف بحذف الحركة المقدرة في الفعل. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "إذا زلزلت الأرض زلزالها" قال: تحركت من أسفلها "وأخرجت الأرض أثقالها" قال: الموتى " وقال الإنسان ما لها " قال: الكافر يقول مالها "يومئذ تحدث أخبارها" قال: قال لها ربك قولي "بأن ربك أوحى لها" قال: أوحى لها "يومئذ يصدر الناس أشتاتاً" قال: من كل من ههنا وههنا. وأخرج ابن المنذر عنه "وأخرجت الأرض أثقالها" قال: الكنوز والموتى. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً". وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "يومئذ تحدث أخبارها" قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا وكذا، فهذا أخبارها". وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا زلزلت الأرض زلزالها" حتى بلغ "يومئذ تحدث أخبارها"". وأخرج الطبراني عن ربيعة الخرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم في تاريخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: "بينما أبو بكر الصديق يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: يا أبو بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة". وأخرج إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه عن أبي أسماء قال: "بينا أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " فأمسك أبو بكر وقال: يا رسول الله ما عملنا من شر رأيناه، فقال: ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون ويؤخر الخير لأهله في الآخرة". وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أنزلت إذا زلزلت الأرض زلزالها وأبو بكر الصديق قاعد فبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال: لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم لخلق الله قوماً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" الحديث، وقال: "وسئل عن الحمر فقال: ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "". سورة العاديات هي إحدى عشر آية وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة "والعاديات" بمكة. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، والعاديات تعدل نصف القرآن" وهو مرسل. وأخرج محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعاً مثله، وزاد "وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن". 1- "العاديات" جمع عادية، وهي الجارية بسرعة، من العدو: وهو المشي بسرعة، فأبدلت الواو ياء لكسر ما قبلها كالغازيات من الغزو، والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدو، وقوله: "ضبحا" مصدر مؤكد لاسم الفاعل، فإن الضبح نوع من السير ونوع من العدو، يقال ضبح الفرس: إذا عجا بشدة، مأخوذ من الضبع، وهو الدفع، وكأن الحاء بدل من العين. قال أبو عبيدة والمبرد: الضبح من إضباعها في السير ومنه قول عنترة: والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال: أي ضابحات، أو ذوات ضبح، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف: أي تضبح ضبحاً، وقيل الضبح: صوت حوافرها إذا عدلت، وقال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت. قيل كانت تكعم لئلا تصهل فيعلم العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة، وقيل الضبح: صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس بصهيل. وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن العاديات ضبحا هي الخيل، وقال عبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي: هي الإبل، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب: فلا والعاديات غداة جمع بأيديها إذا صدع الغبار ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب فاستعير للخيل، ومنه قول الشاعر: تضبح في الكف ضباح الثعلب
2- "فالموريات قدحا" هي الخيل حين توري النار بسنابكها، والإيراء إخراج النار، والقد الصك، فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد. قال الزجاج: إذا عدلت الخيل بالليل أصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران والكلام في انتصاب قدحاً كالكلام في انتصاب ضبحاً، والخلاف في كونها الخيل أو الإبل كالخلاف الذي تقدم في العاديات. والراجح أنها الخيل كما ذهب إليه الجمهور، وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة.
3- "فالمغيرات صبحا" أي التي تغير على العدو وقت الصباح، يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوه بقتل أو أسر أو نهب وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم، وانتصاب صبحاً على الظرفية.
4- "فأثرن به نقعاً" معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: واللاتي عدون فأثرن، أو على الصفات أسماء موصولة، فالكلام في قوة: واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن، والنقع: الغبار الذي أثرته في وجه العدو عند الغزو، وتخصيص إثارته بالصبح لأنه وقت الإغارة، ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح. وقيل المعنى: فأثرن بمكان عدوهن نقعاً، يقال ثار النقع وأثرته: أي هاج أو هيجته. قرأ الجمهور "فأثرن" بتخفيف المثلثة. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتشديد: أي فأظهرن به غباراً. وقال أبو عبيدة: النقع رفع الصوت، وأنشد قول لبيد: فمتى نقع صراخ صادق يجلبوها ذات جرس وزجل يقول حين سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب: أي جمعوا لها. قال أبو عبيدة: وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم انتهى. والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرون أن النقع الغبار، ومنه قول الشاعر: يخرجن من مستطار النقع دامية كأن أذنابها أطراف أقلام وقول عبد الله بن رواحة: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء وقول الآخر: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وهذا هو المناسب لمعنى الآية، وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى، فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحاً فأثرن به صوتاً، قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة. وقيل النقع: شق الجيوب، وقال محمد بن كعب: النقع ما بين مزدلفة إلى منى، وقيل إنه طريق الوادي. قال في الصحاح: النقع الغبار، والجمع أنقاع، والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه، والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء.
5- "فوسطن به جمعا" أي توسطن بذلك الوقت، أو توسطن ملتبسات بالنقع جمعاً من جموع الأعداء، أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء، والباء إما للتعدية، أو للحالية، أو زائدة، يقال وسطت المكان: أي صرت في وسطه، وانتصاب جمعاً على أنه مفعول به، والفاءات في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحدة منها على ما قبلها. قرأ الجمهور "فوسطن" بتخفيف السين، وقرئ بالتشديد.
6- "إن الإنسان لربه لكنود" هذا جواب القسم، والمراد بالإنسان بعض أفراده، وهو الكافر، والكنود: الكفور للنعمة، وقوه: لربه متعلق بكنود، قدم لرعاية الفواصل، ومنه قول الشاعر: كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنوداً لنعماء الرجال يبعد أي كفور لنعماء الرجال، وقيل هو الجاحد للحق، قيل إنها إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها. وقيل الكنود مأخوذ من الكند، وهو القطع، كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. يقال كند الحبل: إذا قطعه، ومنه قول الأعشى: وصول حبال وكنادها وقيل الكنود البخيل، وأنشد أبو زيد: إن نفسي لم تطب منك نفساً غير أني أمسي بدين كنود وقيل الكنود الحسود، وقيل الجهول لقدره، وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام، والجاحد للنعمة كافر لها، ولا يناسب المقام سائر ما قيل.
7- "وإنه على ذلك لشهيد" أي وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه، وقيل المعنى: وإن الله جل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد، وبه قال الجمهور. وقال بالأول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب.
وهو أرجح من قول الجمهور لقوله: 8- "وإنه لحب الخير لشديد" فإن الضمير راجع إلى الإنسان، والمعنى: إنه لحب المال قوي مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه، يقال هو شديد لهذا الأمر وقوي له: إذا كان مطيقاً له، ومنه قوله تعالى: "إن ترك خيراً" ومنه قول عدي بن حاتم: ماذا ترجى النفوس من طلب الـ ـخير وحب الحياة كاذبها وقيل المعنى: وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل، والأول أولى. واللام في الحب متعلقة بشديد. قال ابن زيد: سمى الله المال خيراً، وعسى أن يكون شرا، ولكن الناس يجدونه خيراً، فسماه خيراً. قال الفراء. أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير، الآية كقوله: "في يوم عاصف" والعصوف للريح لا لليوم، كأنه قال: في يوم عاصف للريح.
9- "أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور" الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام: أي يفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم، وبعثر معناه نثر وبحث: أي نثر ما في القبور من الموتى وبحث عنهم وأخرجوا. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه. قال الفراء: سمعت بعض العرب من بني أسد يقول: بحثر بالحاء مكان العين، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله: "وإذا القبور بعثرت".
10- "وحصل ما في الصدور" مأي ميز وبين ما فيها من الخير والشر، والتحصيل التمييز، كذا قال المفسرون، وقيل حصل أبرز. قرأ الجمهور "حصل" بضم الحاء وتشديد الصاد مكسوراً مبنياً للمفعول. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم حصل بفتح الحاء والصاد وتخفيفها مبنياً للفاعل: أي ظهر.
11- "إن ربهم بهم يومئذ لخبير" أي إن رب المبعوثين بهم لخبير لا تخفى عليه منهم خافية فيجازيهم بالخير خيراً، وبالشر شراً. قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، ومثله قوله تعالى: "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم" معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم. قرأ الجمهور "إن ربهم" بكسر الهمزة وباللام في "لخبير"، وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة وإسقاط اللام من ليخبر. وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وابن مردويه عن ابن عباس قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فاستمرت شهراً لا يأتيه منها خبر فنزلت "والعاديات ضبحا" ضبحت بأرجلها" ولفظ ابن مردويه: ضبحت بمناخرها "فالموريات قدحا" قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً "فالمغيرات صبحا" صبحت القوم بغارة "فأثرن به نقعا" أثارت بحوافرها التراب "فوسطن به جمعا" صبحت القوم جميعاً. وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى العدو فأبطأ خبرها، فشق ذلك عليه، فأخبره الله خبرهم وما كان من أمهرم، فقال: "والعاديات ضبحا" قال: هي الخيل". والضبح نخير الخيل حين تنخر "فالموريات قدحا" قال: حين تجري الخيل توري ناراً أصابت سنابكها الحجارة "فالمغيرات صبحا" قال: هي الخيل أغارت فصبحت العدو "فأثرن به نقعا" قال: هي الخيل أثرن بحوافرها، يقول بعدو الخيل، والنقع الغبار "فوسطن به جمعا" قال: الجمع العدو. وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: تقاولت أنا وعكرمة في شأن العاديات، فقال: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال، وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت "فالموريات قدحا" أرت المشركين مكرهم "فالمغيرات صبحا" قال: إذا صبحت العدو "فوسطن به جمعا" قال: إذا توسطت العدو. وقال أبو صالح: فقلت: قال علي هي الإبل في الحج ومولاي كان أعلم من مولاك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذا أتاني رجل يسأل عن العاديات ضبحا، فقلت: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو جالس تحت ساقيه زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا، فقال: سألت عنها أحداً قبلي؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس، فقال: هي الخيل حين تغير في سبيل الله، فقال اذهب فادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك، والله إن كان لأول عزوة في الإسلام ليدر، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون "العاديات ضبحا" إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة، فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران، والمغيرات صبحاً: من المزدلفة إلى منى، فذلك جمع، وأما قوله: "فأثرن به نقعا" فهي نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها. قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود "والعاديات ضبحا" قال: الإبل، أخرجوه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي. قال إبراهيم: وقال علي بن أبي طالب: هي الإبل. وقال ابن عباس: هي الخيل، فبلغ علياً قول ابن عباس: فقال: ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس: إنما كانت تلك في سرية بعثت. وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال: تمارى علي وابن عباس في العاديات ضبحا، فقال ابن عباس: هي الخيل، وقال علي: كذبت يابن فلانة، والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلا المقداد كان على فرس أبلق. قال: وكان يقول هي الإبل، فقال ابن عباس: ألا ترى أنها تثير نقعاً فما شيء تثير إلا بحوافرها. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس "والعاديات ضبحا" قال: الخيل "فالموريات قدحا" قال: الرجل إذا أورى زنده "فالمغيرات صبحا" قال: الخيل تصبح العدو "فأثرن به نقعا" قال: التراب "فوسطن به جمعاً" قال: العدو. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد "والعاديات ضبحا" قال: قال ابن عباس: القتال. وقال ابن مسعود: الحج. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس "والعاديات ضبحا" قال: ليس شيء من الدواب يضبح إلا الكلب أو الفرس "فالموريات قدحا" قال: هو مكر الرجل قدح فأورى "فالمغيرات صبحا" قال: غارة الخيل صبحا "فأثرن به نقعا" قال. غباراً وقع سنابك الخيل "فوسطن به جمعا" قال: جمع العدو. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "والعاديات ضبحا" قال: الخيل ضبحها زحيرها، ألم تر أن الفرس إذا عدا قال: أح أح، فذلك ضبحها. وأخرج ابن المنذر عن علي قال: الضبح من الخيل الحمحمة، ومن الإبل النفس. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود "والعاديات ضبحا" قال: هي الإبل في الحج "فالموريات قدحا" إذا سفت الحصى بمناسمها فضرب الحصى بعضه بعضاً فيخرج منه النار "فالمغيرات صبحا" حين يفيضون من جمع " فأثرن به نقعا " قال: إذا سرن يثرن التراب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: الكنود بلساننا أهل البلد الكفور. وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الإنسان لربه لكنود" قال لكفور. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب والحكيم الترمذي وابن مردويه عن أبي أمامة قال: الكنود الذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده. ورواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والديلمي وابن عساكر مرفوعاً، وضعف إسناده السيوطي، وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك، والموقوف أصح لأنه لم يكن من طريقه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس " وإنه على ذلك لشهيد " قال: الإنسان "وإنه لحب الخير" قال: المال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "إذا بعثر ما في القبور" قال: بحث "وحصل ما في الصدور" قال: أبرز.