تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 601 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 601

600

سورة العصرهي ثلاث آيات وهي مكية عند الجمهور. وقال قتادة: هي مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة العصر بمكة. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر. ثم يسلم أحدهما على الآخر: أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل عصر وللنهار عصر، ومنه قول حميد بن ثور: ولم ينته العصران يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تمنيا ويقال للغداة والعشي عصران، ومنه قول الشاعر: وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم وقال قتادة والحسن: المراد به في الآية العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، ومنه قول الشاعر: يروح بنا عمرو وقد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر وروي عن قتادة أيضاً أنه آخر ساعة من ساعات النهار، وقال مقاتل: إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها، وقيل هو قسماً بعصر النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزجاج: قال بعضهم: معناه ورب العصر، والأول أولى.
2- "إن الإنسان لفي خسر" هذا جواب القسم. الخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمعنى: أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت. وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقيل جماعة من الكفار: وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة الاستثناء عليه. قال الأخفش: "في خسر" في هلكة. وقال الفراء: عقوبة. وقال ابن زيد: لفي شر. قرأ الجمهور "والعصر" بسكون الصاد. وقرأوا أيضاً "خسر" بضم الخاء وسكون السين. وقرأ يحيى بن سلام والعصر بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى: خسر بضم الخاء والسين، ورويت هذه القراءة عن عاصم.
3- "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح لا في خسر، لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل ومن قال: إن المراد بالإنسان الكافر فقط، فيكون منقطعاً، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل من أن المراد الصحابة أو بعضهم، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد عن يتصف بالإيمان والعمل الصالح "وتواصوا بالحق" أي وصى بعضهم بعضاً بالحق الذي يحق القيام به، وهو الإيمان بالله والتوحيد، والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه. قال قتادة: بالحق: أي بالقرآن، وقيل بالتوحيد، والحمل على العموم أولى "وتواصوا بالصبر" أي بالصبر عن معاصي الله سبحانه والصبر على فرائضه. وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه "إن الله مع الصابرين" وأيضاً التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق، ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "والعصر" قال: الدهر. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو ساعة من ساعات النهار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: هو ما قبل مغيب الشمس من العشي. وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ والعصر، ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ:والعصر إن الإنسان لفي خسر، وإنه لفيه إلى آخر الدهراهـ.  سورة الهمزةهي تسع آيات، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت "ويل لكل همزة لمزة" بمكة. الويل: هو مرتفع على الابتداء، وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة دعاء عليهم، وخبره 1- "ويل لكل همزة لمزة" والمعنى: خزي أو عذاب أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة. قال أبو عبيدة والزجاج: الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس، وعلى هذا هما بمعنى: وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه، واللمزة: الذي يغتاب من خلفه. وقال قتادة عكس هذا. وروي عن قتادة ومجاهد أيضاً أن اللمزة: الناس في أنسابهم. وروي عن مجاهد أيضاً أن الهمزة: الذي يهمز الناس بيده، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه. وقال سفيان الثوري: يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه، والأول أولى، ومنه قول زياد الأعجم: تدلي بود إذا لاقيتي كذبا وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه وقول الآخر: إذا لقيتك عن سخط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وأصل الهمزة الكسر، يقال: همز رأسه كسره، ومنه قول العجاج: ومن همزنا رأسه تهشما وقيل أصل الهمز واللمز: الضرب والدفع، يقال: همزه يهمزه همزاً، ولمزه يلمزه لمزاً: إذا دفعه وضربه، ومنه قول الشاعر: ومن همزنا عزه تبركعا على استه زوبعة أو زوبعا البركعة: القيام على أربع، يقال بركعه فتبركع: أي صرعه فوقع على استه، كذا في الصحاح وبناء فعلة يدل على الكثرة فقيه دلالة على أنه يعفل ذلك كثيراً، وأنه قد صار ذلك عادة له، ومثله ضحكة ولعنة. قرأ الجمهور "همزة لمزة" بضم أولهما وفتح الميم فيهما. وقرأ الباقر والأعرج بسكون الميم فيهما. وقرأ أبو وائل والنخعي والأعمش " ويل لكل همزة لمزة " والآية تعم كل من كان متصفاً بذلك، ولا ينافيه نزولها على سبب خاص، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2- "الذي جمع مالاً وعدده" الموصول بدل من كل، أو في محل نصب على الذم، وهذا أرجح، لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب، والعلة في الهمز واللمز، وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أنه الفضل، فلأجل ذلك يستقصر غيره. قرأ الجمهور "جمع" مخففاً. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد. وقرأ الجمهور "وعدده" بالتشديد، وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية بالتخفيف، والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير وهو جمع الشيء بعد الشيء وتعديده مرة بعد أخرى. قال الفراء: معنى عدده أحصاه. وقال الزجاج: وعدده لنوائب الدهور. يقال أعددت الشيء وعددته: إذا أمسكته. قال السدي: أحصى عدده. وقال الضحاك: أعد ماله لمن يرثه. وقيل المعنى: فاخر بكثرته قراءة التخفيف في عدده: أنه جمع عشيرته وأقاربه. قال المهدوي: من خفف وعدده فهو معطوف على المال: أي وجمع عدده.
وجملة 3- "يحسب أن ماله أخلده" مستأنفة لتقرير ما قبلها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال: أي يعمل عمل من يظن أن ماله يتركه حياً مخلداً لا يموت. وقال عكرمة: يحسب أن ماله يزيد في عمره، والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ. وقيل هو تعريض بالعمل الصالح، وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية، لا المال.
4- "كلا" ردع له عن ذلك الحسبان: أي ليس الأمر على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده، واللام في "لينبذن في الحطمة" جواب قسم محذوف: أي ليطرحن في النار وليلقين فيها. قرأ الجمهور "لينبذن" وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن: لينبذان بالتثنية: أي لينبذ هو وماله في النار. وقرأ الحسن أيضاً: لينبذن: أي لينبذن ماله من النار.
5- "وما أدراك ما الحطمة" هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام.
ثم بينها سبحانه فقال: 6- "نار الله الموقدة" أي هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم، وكذلك في وصفها بالإيقاد: وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه، ومنه: إنا حطمنا بالقضيب مصعباً يوم كسرنا أنفه ليغضبا قيل: هي الطبقة السادية من طبقات جهنم، وقيل الطبقة الثانية منها، وقيل الطبقة الرابعة.
7- "التي تطلع على الأفئدة" أي يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم لأنها محل العقائد الزائغة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها: أي إنهم في حال من يموت وهم لا يموتون. وقيل معنى "تطلع على الأفئدة" أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بأمارات عرفها الله بها.
8- "إنها عليهم مؤصدة" أي مطبقة مغلقة كما تقدم بيانه في سورة البلد، يقال أصدت الباب: إذا أغلقته، ومنه قول قيس بن الرقيات: إن في القصر لو دخلنا غزالاً مصيباً موصداً عليه الحجاب
9- "في عمد ممددة" في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم: أي كائنين في عمد ممددة موثقين فيها. أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم في عمد، أو صفة لمؤصدة: أي مؤصدة بعمد ممددة. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح. ومعنى كون العمد ممددة: أنها مطولة، وهي أرسخ من القصيرة. وقيل العمد أغلال في جهنم، وقيل القيود. قال قتادة: المعنى هم في عمد يعذبون بها، واختار هذا ابن جرير: قرأ الجمهور "في عمد" بفتح العين والميم. قيل هو اسم جمع لعمود. وقيل جمع له. قال الفراء: هي جمع لعمود كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هي جمع عماد وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بضم العين والميم وجمع عمود. قال الفراء: هما جمعان صحيحان لعمود. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور. قال الجوهري: العمود عمود البيت: وجمع القلة أعمدة، وجمع الكثرة عمد وعمد، وقرئ بهما. قال أبو عبيدة: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "ويل لكل همزة لمزة" قال: هو المشاء بالنميمة، المفرق بين الجمع، المغري بين الإخوان. وأخرج ابن جرير عنه "ويل لكل همزة" قال: طعان "لمزة" قال: مغتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "إنها عليهم مؤصدة" قال: مطبقة "في عمد ممددة" قال: عمد من نار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: هي الأدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأبواب هي الممددة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: أدخلهم في عمد فمدت عليهم في أعناقهم فشدت بها الأبواب.  سورة الفيلهي خمس آيات، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل". الاستفهام في قوله: 1- "ألم تر" لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. قال الفراء: المعنى ألم تخبر. وقال الزجاج: ألم تعلم، وهو تعجيب له صلى الله عليه وسلم بما فعله الله "بأصحاب الفيل" الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها، ومعلقة لفعل الرؤية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له. والمعنى: قد علمت يا محمد، أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم فما لكم لا تؤمنون؟ والفيل هو الحيوان المعروف، وجمعه أفيال، وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه فيال، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله.
2- "ألم يجعل كيدهم في تضليل" أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم، والهمزة للتقرير كأنه قيل: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرة بالغير، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب.
3- "وأرسل عليهم طيراً أبابيل" أي أقاطيع يتبع بعضها بعضاً كالإبل المؤبلة. قال أبو عبيدة: أبابيل جماعات في تفرقة، يقال جاءت الخيل أبابيل: أي جماعات من ههنا وههنا. قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان توبل على فلان: أي تعظم عليه وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحده أبول مثل عجول. وقال بعضهم: أبيل. قال الواحدي: ولم نر أحداً يجعل لها واحداً. قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها: أبالة مشدداً. وحكى الفراء أيضاً: أبالة بالتخفيف. قال سعيد بن جبير: كانت طيراً من السماء لم ير قبلها ولا بعدها. قال قتادة: هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا يصيب شيئاً إلا هشمه. وقيل كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. وقيل كان لها خراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقيل في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير كما في قول الشاعر: تراهم إلى الداعي سراعاً كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسجن وتستعملها في غير الطير كقول الآخر: كادت تهد من الأصوات راحلتي أن سألت الأرض بالجرد الأبابيل
4- "ترميهم بحجارة من سجيل" الجملة في محل نصب صفة لطير. قرأ الجمهور "ترميهم" بالفوقية. وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية، واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل: الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل. قال الزجاج: "من سجيل" أي مما كتب عليهم العذاب به، مشتقاً من السجل. قال في الصحاح قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم. قال عبد الرحمن بن أبزى: "من سجيل" من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاماً، ومنه قول ابن مقبل: ضرباً تواصت به الأبطال سجيلا وإنما هو سجيناً. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة، وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود.
5- "فجعلهم كعصف مأكول" أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. وقيل المعنى: أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه بقايا، أو أكلت حبه فبقي بدون حبه. والعصف جمع عصفة وعصافة وعصيفة، وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحداً، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال لملكهم. لما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء؟ فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله: "ترميهم بحجارة من سجيل" فجعل الفيل يعج عجاً "فجعلهم كعصف مأكول" وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطولة في كتب التاريخ والسير فلا نطول بذكرها. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "ترميهم بحجارة من سجيل" قال: حجارة مثل البندق وبها تضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر [في] منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم. وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء والضحاك عنه أن أبرهم الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل يريد مجتمعة، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها وحصاتين في رجليها، ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاماً خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً "فجعلهم كعصف مأكول" يقول: كالتبن. وأخرج ابن إسحاق في السيرة والواقدي وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان. وأخرج الواقدي نحوه عن أسماء بنت أبي بكر. وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وأخرج ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.