تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 602 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 602

601

سورة قريشويقال سورة لإيلاف، وهي أربع آيات وهي مكية عند الجمهور. وقال الضحاك والكلبي: هي مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة "لإيلاف" بمكة. وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ولا يعطيها أحداً بعدهم: أني فيهم. وفي لفظ: النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على افيل، وعبدوا الله سبع سنين. وفي لفظ: عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم "لإيلاف قريش"" قال ابن كثير: هو حديث غريب، ويشهد له ما أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل الله قريشاً بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم، وهي لإيلاف قريش، وفضلهم بأن فيهم النبوة، والخلافة، والسقاية". وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعاً نحوه، وهو مرسل. اللام في قوله: 1- "لإيلاف" قيل هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها، كأنه قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش. قال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى، لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: "لإيلاف قريش" أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون: هم أهل بيت الله عز وجل، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتاً في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته: أي فعل ذلك لإيلاف قريش: أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم، وذكر نحو هذا ابن قتيبة، قال الزجاج: والمعنى، فجعلهم كعصف مأكول "لإيلاف قريش" أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال في الكشاف: إن اللام متعلق بقوله: "فليعبدوا" أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: أما لا فليعبدوه. وقد تقدم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد، والمعنى: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. وقال الكسائي والأخفش: اللام لام التعجب: أي اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور "لإيلاف" بالياء مهموزاً من ألفت أؤلف [إيلافاً]. يقال: ألفت الشيء ألافاً وألفاً، وألفته إيلافاً بمعنى، ومنه قول الشاعر: المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف وقرأ ابن عامر لإلاف بدون الياء، وقرأ أبو جعفر لإلف وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال: زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف وقرأ عكرمة ليألف قريش بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام الأمر لغة معروفة. وقرأ بعض أهل مكة إلاف قريش واستشهد بقول أبي طالب: تذود الورى من عصبة هاشمية إلا فهم في الناس خير إلاف وقريش هم: بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من لود النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفاً إن أريد به الحي، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر: وكفى قريش المعضلات وسادها وقيل إن قريشاً بنو فهر بن مالك بن النضر، والأول أصح.
وقوله: 2- "إيلافهم" بدل من إيلاف قريش، و "رحلة" مفعول به لإيلافهم وأفردها، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس، وقيل إن إيلافهم تأكيد للأول لا بدل، والأول أولى. ورجحه أبو البقاء، وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر: أي ارتحالهم رحلة "الشتاء والصيف" وقيل هي منصوبة على الظرفية، والرحلة: الارتحال، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة. وروي أنهم كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. والأول أولى، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام. قال ابن قتيبة: إنما كانت تعيش قريش بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف.
3- "فليعبدوا رب هذا البيت" أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم: أي إن لم يعدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة، والبيت الكعبة. وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها. وقيل لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته.
4- "الذي أطعمهم من جوع" أي أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وقيل إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط، "وآمنهم من خوف" أي من خوف شديد كانوا فيه. قال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضاً، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل. وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " ويحكم يا قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لإيلاف قريش" قال: نعمتي على قريش "إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف "فليعبدوا رب هذا البيت" قال: الكعبة "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قال: الجذام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه " لإيلاف قريش * إيلافهم " قال: لزومهم "الذي أطعمهم من جوع" يعني قريشاً أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال: "وارزق أهله من الثمرات" "وآمنهم من خوف" حيث قال إبراهيم "رب اجعل هذا البلد آمنا" وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "لإيلاف قريش" الآية، قال: نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت، وكفاهم المؤمنة، وكان رحلتهم في الشتاء والصيف ولم يكن لهم راحلة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع، وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة وكان ذلك من نعمة الله عليهم. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف، وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشر، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان، وهي في دواوين الإسلام.  سورة الماعونويقال سورة الدين، ويقال سورة الماعون، ويقال سورة اليتيم، وهي سبع آيات وهي مكية في قول عطاء وجابر، وأحد قولي ابن عباس، ومدينة في قوله قتادة وآخرين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت 1- "أرأيت الذي يكذب بالدين" بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين. والرؤية: بمعنى المعرفة، والدين: الجزاء والحساب في الآخرة. قيل وفي الكلام حذف، والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ. قال مقاتل والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي. وقال السدي: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عائذ. وقال ابن جريح في أبي سفيان، وقيل في رجل من المنافقين. قرأ الجمهور "أرأيت" بإثبات الهمزة الثانية. وقرأ الكسائي بإسقاطها. قال الزجاج: لا يقال في رأيت ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفاً. وقيل الرؤية: هي البصرية، فيتعدى إلى مفعول واحد، وهو الموصول: أي أبصرت المكذب. وقيل إنها بمعنى أخبرني، فيتعدى إلى اثنين. الثاني محذوف: أي من هو.
2- "فذلك الذي يدع اليتيم" الفاء جواب شرط مقدر: أن إن تأملته أو طلبته فذلك الذي يدع اليتيم، ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب: إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة. فعلى الأول يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول بعده، أو خبر لمبتدأ محذوف: أي فهو ذلك، والموصول صفته. وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطله على الموصول الذي هو في محل نصب. ومعنى يدع يدفع دفعاً بعنف وجفوة: أي يدفع اليتيم عن حقه دفعاً شديداً، ومنه قوله سبحانه: "يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً" وقد قدمنا أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان.
3- "ولا يحض على طعام المسكين" أي لا يحض نفسه ولا أهله ولا غيرهم على ذلك بخلاً بالمال، أو تكذيباً بالجزاء، وهو مثل قوله في سورة الأحقاف "ولا يحض على طعام المسكين".
4- "فويل" يومئذ "للمصلين" الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين فويل للمصلين.
5- "الذين هم عن صلاتهم ساهون" أي عذاب لهم، أو هلاك، أو واد في جهنم لهم كما سبق الخلاف في معنى الويل، ومعنى ساهون: غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم، ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر. قال الواحدي: نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثواباً إن صلوا، ولا يخافون عليها عقاباً إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها.
وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو معنى قوله: 6- " الذين هم يراؤون " أي يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر ليثنوا عليهم. قال النخعي: "الذين هم عن صلاتهم ساهون" هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتاً. وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله. وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون.
7- "ويمنعون الماعون". قال أكثر المفسرين: الماعون اسم لما يتعاوزه الناس بينهم: من الدلو والفأس والقدر، وما لا يمنع كالماء والملح. وقيل هو الزكاة: أي يمنعون زكاة أموالهم. وقال الزجاج: وأبو عبيد والمبرد: الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا قول الأعشى: بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم قال الزجاج وأبو عبيد والمبرد أيضاً: والماعون في الإسلام الطاعو والزكاة، وأنشدوا قول الراعي: أخليفة الرحمن إنا معــــشر حنفاً نسجد بكرة وأصيلاً عرب نرى لله من أموالنــا حق الزكاة منـزلاً تنزيــلاً قوم على الإسلام لما يمنعوا ماعونهم ويضيعوا التهليلا وقيل الماعون الماء. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون الماء، وأنشدني: تمج صبيرة الماعون صبا والصبيرة السحاب، وقيل الماعون: هو الحق على العبد على العموم، وقيل هو المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعن، وهو القليل. قال قطرب: أصل الماعون من القلة، والمعن: الشيء القليل، فسمى الله الصدقة والزكاة ونحو ذلك من المعمروف ماعوناً، لأنه قليل من كثير، وقيل هو ما لا يبخل به كالماء والملح والنار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أرأيت الذي يكذب بالدين" قال: يكذب بحكم الله "فذلك الذي يدع اليتيم" قال: يدفعه عن حقه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " قال: هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم، وهي الماعون. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً "الذين هم عن صلاتهم ساهون" قال: هم المنافقون يتركون الصلاة في السر ويصلون في العلانية. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: أرأيت قول الله "الذين هم عن صلاتهم ساهون" أينا لا يسهو، أينا لا يحدث نفسه؟ قال: إنه ليس ذلك، إنه إضاعة الوقت. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: "الذين هم عن صلاتهم ساهون" قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. قال الحاكم والبيهقي: الموقوف أصح. قال ابن كثير: وهذا يعني الموقوف أصح إسناداً. قال: وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال: "لما نزلت هذه الآية "الذين هم عن صلاتهم ساهون" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذه الآية خير لكم من أن يعطى كل رجل منكم جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يحف ربه" وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف وشيخه مبهم لم يسم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر والفأس والميزان وما تتعاطون بينكم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر والفأس وشبهه فيمنعونهم، فأنزل الله "ويمنعون الماعون" وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: ما تعاون الناس بينهم الفأس والقدر والدلو وأشباهه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قرة بن دعموص النميري "أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال: لا تمنعوا الماعون، قالوا: وما الماعون؟ قال: في الحجر والحديدة وفي الماء، قالوا: فأي الحديدة؟ قال: قدوركم النحاس وحديد الفأس الذي تمتهنون به، قالوا: وما الحجر؟ قال: قدوركم الحجارة". قال ابن كثير: غريب جداً، ورفعه منكر، وفي إسناده من لا يعرف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الماعون: الفأس والقدر والدلو. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في الآية قال: عارية متاع البيت. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال: الماعون الزكاة المفروضة " يراؤون " بصلاتهم "ويمنعون" زكاتهم.  سورة الكوثرهي ثلاث آيات وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة. قرأ الجمهور 1- "إنا أعطيناك" وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني أنطيناك بالنون. قيل هي لغة العرب العاربة. قال الأعشى: حباؤك خير حبا الملوك يصان الحلال وتنطى الحولا و "الكوثر" فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثراً، ومنه قول الشاعر: وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا فالمعنى على هذا: إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية. وذهب أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة، وقيل هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف قاله عطاء. وقال عكرمة: الكوثر النبوة. وقال الحسن: هو القرآن. وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة. وقال ابن كيسان: هو الإيثار. وقيل هو الإسلام، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعوة، وقيل لا إله إلا الله، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس، وسيأتي بيان ما هو الحق.
2- "فصل لربك" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد الأمر له صلى الله عليه وسلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة "وانحر" البدن التي هي خيار أموال العرب. قال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونحره له. وقال قتادة وعطاء وعكرمة: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية. وقال النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذا النحر قاله محمد بن كعب. وقيل هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره. وقيل هو أن يستقبل القبلة بنحره قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول نتناحر: أي نتقابل: نحر هذا إلى نحر هذا أي قبالته، ومنه قول الشاعر: أبا حكم ما أنت عمرا مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر أي المتقابل. وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازهم تتناحر تتقابل. وروي عن عطاء أنه قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره. وقال سليمان التميمي. المعنى: وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك، وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه وسلم بمطلق الصلاة ومطلق النحر وأن يجعلهما لله عز وجل لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص فهو في حكم التقييد له، وسيأتي إن شاء الله.
3- "إن شانئك هو الأبتر" أي إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم، فيعم خيري الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته. وظاهر الآية العموم، وأن هذا شأن كل من يبغض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غيره مرة. قيل كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا: قد بتر فلان، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدواب: الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر القطع، يقال بترت الشيء بتراً: قطعته. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال "أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه مبتسماً فقال: إنه أنزل علي آنفاً سورة، فقرأ " إنا أعطيناك الكوثر " حتى ختمها قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك". وأخرج أيضاً مسلم في صحيحه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله" وقد روي عن أنس من طريق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن جرير وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله: "إنا أعطيناك الكوثر" قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم في بطنان الجنة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر في الجنة. وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة في قوله: "إنا أعطيناك الكوثر" قال: نهر في الجنة، وحسن السيوطي إسناده. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أسامة بن زيد مرفوعاً "أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر، فقال: أجل وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ". وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكوثر؟ قال: هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله" فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، فيتعين المصير إليها، وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر: هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعم مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغوي. كما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال: قال محارب بن دثار: قال سعيد بن جبير في الكوثر: قلت حدثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق إنه لخير الكثير. ولكن حدثنا ابن عمر قال نزلت "إنا أعطيناك الكوثر" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل". وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال. في الكوثر هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغوي كما عرفناك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال: "لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم " إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ فقال: إنها ليست بنحيرة، ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله "فما استكانوا لربهم وما يتضرعون"" وهو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: "إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة، فذاك النحر". وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب في قوله: "فصل لربك وانحر" قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في سننه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس "فصل لربك وانحر" قال: إذا صليت فرفعت رأسك من الركوع فاستو قائماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: الصلاة المكتوبة، والذبح يوم الأضحى. وأخرج البيهقي في سننه عنه "وانحر" قال: يقول واذبح يوم النحر. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة. فقالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم، ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة، قال: أنتم خير منه، فنزلت: "إن شانئك هو الأبتر" ونزلت "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" إلى قوله: "فلن تجد له نصيراً" قال ابن كثير: وإسناده صحيح. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة فأنزل الله "إنا أعطيناك الكوثر" إلى آخر السورة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات القاسم وهو أول ميت من أهله وولده بمكة، ثم مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله "إن شانئك هو الأبتر" وفي إسناده الكلبي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "إن شانئك هو الأبتر" قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "إن شانئك" يقول: عدوك.