تفسير الطبري تفسير الصفحة 128 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 128
129
127
 سورة الأنعام مكية
وآياتها خمس وستون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 1
القول في تأويل قوله تعالى:
{الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله الحَمْدُ للّهِ: الحمد الكامل لله وحده لا شريك له, دون جميع الأنداد والاَلهة, ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام. وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر, يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم أيها الناس وخلق السموات والأرض, ولا تشركوا معه في ذلك أحدا شيئا, فإنه المستوجب عليكم الحمد بأياديه عندكم ونعمة عليكم, لا من تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه. وقد بينا الفصل بين معنى الحمد والشكر بشواهده فيما مضى قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ.
يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض, وأظلم الليل وأنار النهار. كما:
10236ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ قال: الظلمات: ظلمة الليل, والنور: نور النهار.
10237ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أما قوله: الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظّلْمَاتِ والنّورِ فإنه خلق السموات قبل الأرض, والظلمة قبل النور, والجنة قبل النار.
فإن قال قائل: فما معنى قوله إذن «جَعَلَ»؟ قيل: إن العرب تجعلها ظرفا للخبر والفعل, فتقول: جعلت أفعل كذا, وجعلت أقوم وأقعد, تدلّ بقولها «جعلت» على اتصال الفعل, كما تقول: علقت أفعل كذا, لا أنها في نفسها فعل, يدلّ على ذلك قول القائل: جعلت أقوم, وأنه لا جعل هناك سوى القيام, وإنما دلّ بقوله «جعلت» على اتصال الفعل ودوامه, ومن ذلك قول الشاعر:
وزَعَمْتَ أنّكَ سوْفَ تسْلُكُ فَارِداوالمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قادِرِ
فاجْعَلْ تَحَلّلْ مِنْ يَمِينِكَ إنّمَاحِنْثُ اليَمِينِ على اللّئِيمِ الفاجِرِ
يقول «فاجعل تحلّل» بمعنى: تحلل شيئا بعد شيء, لا أن هناك جعلاً من غير التحليل. فكذلك كلّ جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال, لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله: وَجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَإنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما.
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ.
يقول تعالى ذكره معجّبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجّا على الكافرين: إن الإله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السموات والأرض, الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم, فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومنافعكم بها. والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحداثه يَعْدِلُونَ: يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه, فيعبدون معه الاَلهة والأنداد والأصنام والأوثان, وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم, بل هو المنفرد بذلك كله, وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره. فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة, لمن فكّر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة.
10238ـ حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي, عن أبي عمران الجونّي, عن عبد الله بن رباح, عن كعب, قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام: الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ.
10239ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن حباب, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجونّي, عن عبد الله ابن رباح, عن كعب, مثله. وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة هود.
يقال من مساواة الشيء بالشيء: عدلت هذا بهذا, إذا ساويته به عدلاً. وأما في الحكم إذا أنصفت فيه, فإنك تقول: عَدَلْت فيه أعدل عدلاً.
وينحو الذي قلنا في تأويل قوله: يَعْدِلُونَ قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
10240ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَعْدِلُونَ قال: يشركون.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بذلك, فقال بعضهم: عُنِي به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
10241ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمى, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى, قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الاَية: الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورِ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال له: أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟ قال: بلى. قال: وانصرف عنه الرجل, فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى, إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا, إنه رجل من الخوارج فقال: ردّوه عليّ فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الاَية؟ قال: لا. قال إنها نزلت في أهل الكتاب, اذهب ولا تضعها على غير حدّها.
وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدة الأوثان.
ذكر من قال ذلك:
10242ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال: هؤلاء أهل صراحة.
10243ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال: هم المشركون.
10244ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال: الاَلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال: وليس بالله عِدْل ولا ندّ, وليس معه آلهة, ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون, فعمّ بذلك جميع الكفار, ولم يخصص منهم بعضا دون بعض, فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم, ونصاراهم, ومجوسهم, وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر.
الآية : 2
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمّ قَضَىَ أَجَلاً وَأَجَلٌ مّسمّى عِندَهُ ثُمّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أن الله الذي خلق السموات والأرض, وأظلم ليلهما وأنار نهارهم, فكفر به مع إنعامه عليهم الكافرون, وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرّهم. هو الذي خلقكم أيها الناس من طين وإنما يعني بذلك تعالى ذكره أن الناس وَلَدُ مَن خَلَقه من طين, فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم, إذ كانوا وَلَدَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
10245ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بدء الخلق خلق الله آدم من طين.
10246ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ قال: هو آدم.
10247ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أما خَلَقكم من طين: فآدم.
10248ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم, قال: خلق آدم من طين, وخلق الناس من سلالة من ماء مهين.
10249ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم حين أخذنا من ظهره.
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى قوله: ثُمّ قَضَى أجَلاً: ثم قضى لكم أيها الناس أجلاً, وذلك ما بين أن يُخلق إلى أن يموت وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث. ذكر من قال ذلك:
10250ـ حدثنا ابن وكيع, وهناد بن السريّ, قالا: حدثنا وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذليّ, عن الحسن, في قوله: قَضَى أجَلاً قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث.
10251ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ كان يقول: أجلَ حياتك إلى أن تموت وأجَل موتك إلى أن تبعث, فأنت بين أجلين من الله تعالى.
10252ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم: قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: قضى أجل الموت, وكلّ نفس أجلها الموت. قال: وَلَنْ يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْسا إذَا جَاءَ أجَلُها. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ يعني: أجل الساعة ذهاب الدنيا والإفضاء إلى الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا وعنده الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
10253ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: أجَلاً قال: الدنيا. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ الاَخرة.
10254ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو عاصم, عن زكريا بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قَضَى أجَلاً قال: الاَخرة عنده. وأجَلٌ مُسَمّى الدنيا.
حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أجَلاً قال: الاَخرة عنده. وأجَلٌ مُسَمّى قال: الدنيا.
حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أجَلاً قال: الاَخرة عنده. وأجَلٌ مُسَمّى قال: الدنيا.
10255ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قالا: قضى أجل الدنيا من حين خلقك إلى أن تموت. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ يوم القيامة.
10256ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: قضى أجل الدنيا. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: هو أجل البعث.
10257ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: ثُمّ قَضَى أجَلاً قال: الموت. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ الاَخرة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة والحسن, في قوله: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قالا: قضى أجل الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تموت, وأجل مسمى عنده يوم القيامة.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: قَضَى أجَلاً قال: أجل الدنيا. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: البعث.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن طلحة, عن ابن عباس: ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ يعني: أجل الموت. والأجل المسمى: أجل الساعة, الوقوف عند الله.
10258ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ قَضَى أجَلاً قال: أما قضى أجلاً: فأجل الموت. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ يوم القيامة.
وقال آخرون في ذلك بما:
10259ـ حدثني به محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ثُمّ قَضَي أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ قال: أما قوله: قَضَي أجَلاً فهو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ: هو أجل موت الإنسان.
وقال آخرون بما:
10260ـ حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, في قوله: هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمّ قَضَى أجَلاً وأجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ ثُمّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم, أخذنا من ظهره, ثم أخذ الأجل والميثاق في أجل واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: ثم قضى أجل هذه الحياة الدنيا, وأَجَلٌ مُسَمّى عّهْدَهُ وهو أجل البعث عنده.
وإنما قيل ذلك أولى بالصواب, لأنه تعالى نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم, فقال لهم: أيها الناس, إن الذي يعدل به كفاركم الاَلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين, فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا, ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم, ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشأكم ويخلقكم. وأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْوات فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيْتُكُمْ ثُمّ يُحُيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمّ أنْتُمْ تَمْتُرُونَ.
يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تشكون في قدرة من قدر على خلق السموات والأرض, وإظلام الليل وإنارة النهار, وخلقكم من طين حتى صيركم بالهيئة التي أنتم بها على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم, وإيجاده إياكم بعد عدمكم. والمرية في كلام العرب هي الشكّ, وقد بينت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وقد:
10261ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ثُمّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ قال: الشكّ. قال: وقرأ قول الله: فِي مِرْيَةٍ منْهُ قال: في شكّ منه.
10262ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ثُمّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ بمثله.
الآية : 3
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَهُوَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }..
يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهة التي لا تنبغي لغيره المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم أيها الناس الذي يعدل به كفاركم من سواه, هو الله الذي هو في السموات وفي الأرض, ويَعْلَمُ سِرّكُمْ وجَهْرَكُمْ فلا يخفى عليه شيء, يقول: فربكم الذي يستحقّ عليكم الحمد ويجب عليكم إخلاص العبادة له, هو هذا الذي صفته, لا من يقدر لكم على ضرّ ولا نفع ولا يعمل شيئا ولا يدفع عن نفسه سواء أريد بها.
وأما قوله: وَيَعْلَمُ ما تَكْسَبُونَ يقول: ويعلم ما تعملون وتجرحون, فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.
الآية : 4
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }..
يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدلون أوثانهم وآلهتهم آيةٍ مِنْ آياتِ رَبّهِمْ يقول: حجة وعلامة ودلالة من حجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته وحقيقة نبوّتك يا محمد وصدق ما أتيتهم به من عندي, إلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يقول: إلا أعرضوا عنها, يعني عن الاَية, فصدّوا عن قبولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلت على صحته, جهلاً منهم بالله واغترارا بحلمه عنهم.
الآية : 5
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }..
يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله الحقّ لما جاءهم, وذلك الحقّ هو محمد صلى الله عليه وسلم, كذّبوا به, وجحدوا نبوّته لما جاءهم قال الله لهم متوعدا على تكذيبهم إياه وجحودهم نبوّته: سوف يأتي المكذبين بك يا محمد من قومك وغيرهم أنْباءُ ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول: سوف يأتيهم أخبار استهزائهم بما كانوا به يستهزءون من آياتي وأدلتي التي آتيتهم. ثم وفى لهم بوعيده لما تمادوا في غيهم وعتَوْا على ربهم, فقتلهم يوم بدر بالسيف.
الآية : 6
ذكر من قال ذلك:
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السّمَآءَ عَلَيْهِم مّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتي الجاحدون نبوّتك, كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون, وهم الأمم الذين وطأت لهم البلاد والأرض وطأة لم أوطئها لكم, وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم. كما:
10263ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: مَكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم.
قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجار ثمارها, وأعطتهم الأرض رَيْع نباتها, وجابوا صخور جبالها, ودرّت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني, فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أمر بارئهم, وبغوا حتى حُقّ عليهم قولي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرجفة وبعضهم بالصيحة وغير ذلك من أنواع العذاب.
ومعنى قوله: وأرْسَلْنَا السّماءَ عَلَيْهِمْ مِدرَارا المطر, ويعني بقوله: «مدرارا»: غزيرة دائمة. وأنْشَأْنَا مِنَ بَعْدِهِمْ قَرْنا آخَرِينَ يقول وأحدثنا من بعدهم الذين أهلكناهم قرنا آخرين فابتدأنا سواهم.
فإن قال قائل: فما وجه قوله: مَكنّاهُمْ فَي الأرْضِ ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أوّل الاَية عن قوم غيب بقوله: ألَمْ يَرَوْا كَم أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ؟ قيل: إن المخاطب بقوله: ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ هو المخبر عنهم بقوله: ألَمْ يَرَوُا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ولكن في الخبر معنى القول, ومعناه: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين كذّبوا بالحقّ لما جاءهم: ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَنّاهُمْ في الأرْضِ ما لَمْ نُمْكّنْ لَكُمْ. والعرب إذا أخبرت خبرا عن غائب وأدخلت فيه قولاً فعلت ذلك فوجهت الخبر أحيانا إلى الخبر عن الغائب, وأحيانا إلى الخطاب, فتقول: قلت لعبد الله: ما أكرمه, وقلت لعبد الله: ما أكرمك, وتخبر عنه أحيانا على وجه الخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب, وتخبر على وجه الخطاب له ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثير فاش وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد كان بعض نحوي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطبه معهم وقال: حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ فجاء بلفظ الغائب وهو يخاطب, لأنه المخاطب.
الآية : 7
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ }..
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثان والاَلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقّهون الاَيات, أم كيف يستدلون على بطلان ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله وجحود نبوّتك بحجج الله وآياته وأدلته, وهم لعنادهم الحقّ وبعدهم من الرشد, لو أنزلت عليك يا محمد الوحي الذي أنزلته عليك مع رسولي في قرطاس يعاينونه ويمسّونه بأيديهم وينظرون إليه ويقرءونه منه معلقا بين السماء والأرض بحقيقة ما تدعوهم إليه وصحة ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي, لقال الذين يعدلون بي غيري فيشركون في توحيدي سواي: إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِين: أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرت به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة مُبِينٌ يقول: مبين لمن تدبره وتأمله أنه سحر لا حقيقة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10264ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: كِتابا في قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيْدِيهِمْ قال: فمسوه ونظروا إليه لم يصدّقوا به.
10265ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْ نَزّلْنا عَلَيْكَ كِتابا في قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيدِيهِمْ يقول: فعاينوه معاينة لقال الذين كفروا: إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ.
10266ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتابا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيْدِيهِمْ يقول: لو نزلنا من السماء صحفا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم, لزادهم ذلك تكذيبا.
10267ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلَوْ نَزّلْنا عَلَيْكَ كِتابا في قِرْطاسٍ: الصحف.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: في قِرْطاسٍ يقول: في صحيفة, فَلَمَسُوهُ بأيْديهِمْ لقال الذين كفروا: إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ.
الآية : 8
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَقَالُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ }..
يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذّبون بآياتي العادلون بي الأنداد والاَلهة: يا محمد لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي, وإذا أتيتهم من الاَيات والعبر بما أتيتهم به واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعت به عذرهم: هلاّ نزل عليك ملك من السماء في صورته يصدقّك على ما جئنا به, ويشهد لك بحقيقة ما تدّعي من أن الله أرسلك إلينا كما قال تعالى مخبرا عن المشركين في قيلهم لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: وقَالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامِ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول: ولو أنزلنا مَلَكا على ما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي, لجاءهم العذاب عاجلاً غير آجل, ولم ينظروا فيؤخروا بالعقوبة مراجعة التوبة, كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الاَيات ثم كفرت بعد مجيئها من تعجيل النقمة وترك الإنظار. كما:
10268ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول: لجاءهم العذاب.
10269ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكا ثم لم يؤمنوا لم ينظروا.
10270ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ في صورته, وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ لقامت الساعة.
10271ـ حدثنا ابن وكيع, عن أبيه, قال: حدثنا أبو أسامة, عن سفيان, عن سفيان الثوري, عن عكرمة: لقُضِيَ الأمْرُ قال: لقامت الساعة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ قال: يقول: لو أنزل الله مَلَكا ثم لم يؤمنوا, لعجل لهم العذاب.
وقال آخرون في ذلك بما.
10272ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: أخبرنا بشر, عن عمار, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قوله: وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ قال: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا, ثم لم يؤخروا طرفة عين