تفسير الطبري تفسير الصفحة 187 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 187
188
186
 سورة التوبة
مدنية
وآياتها تسع وعشرون ومائة
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة.
الآية : 1،2
{بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ }.
يعني بقوله جل ثناؤه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ هذه براءة من الله ورسوله. ف «براءة» مرفوعة بمحذوف, وهو «هذه», كما في قوله: سُورَةٌ أنْزَلْناها مرفوعة بمحذوف هو «هذه», ولو قال قائل: براءة مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها, إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله: مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ كالمعرفة, وصار معنى الكلام: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين كان مذهبا غير مدفوعة صحته, وإن كان القول الأول أعجب إليّ, لأن من شأن العرب أن يضمروا لكل معاين نكرة كان أو معرفة ذلك المعاين, هذا وهذه, فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسن: حسن والله, والقبيح: قبيح والله, يريدون: هذا حسن والله, وهذا قبيح والله فلذلك اخترت القول الأوّل. وقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره, ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه, وأن عقود النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم, لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين, ولعقوده عليهم مسلمين, فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم, فلذلك قال: إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
وقد اختلف أهل التأويل فيمن برىء الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر, فقال بعضهم: صنفان من المشركين: أحدهما: كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر, وأمهل بالسياحة أربعة أشهر, والاَخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه, ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. ذكر من قال ذلك:
12783ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم, والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين, ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه, وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك, وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى, فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم, فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون, منهم من سمي لنا, ومنهم من لم يسمّ لنا, فقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب, فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ... إلى قوله: أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد هذه الحجة.
وقال آخرون: بل كان إمهال الله عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد, فأما من لم يكن له من رسول الله عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة, وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك, لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم, كما قال الله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... الآية, قالوا: والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر, وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين: يوم عرفة, وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة, فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت براءة. قالوا: ونزلت في أوّل شوّال, فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا, أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر, والذي لا عهد له: انسلاخ الأشهر الحرم, وذلك انقضاء المحرّم. ذكر من قال ذلك:
12784ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاءوا, وحدّ أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم, فذلك خمسون ليلة فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
12785ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما نزلت بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ... إلى: وأنّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ يقول: براءة من المشركين الذين كان لهم عهد, يوم نزلت براءة. فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر, وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر, وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن ينزل براءة انسلاخ الأشهر الحرم, وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أُذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة, وثلاثون من المحرّم. فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ إلى قوله: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصدٍ يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة, وانسلخ الأشهر الحرم, ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول ربيع الاَخر, فذلك أربعة أشهر.
12786ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قبل أن تنزل براءة عاهد ناسا من المشركين من أهل مكة وغيرهم, فنزلت براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم, فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاءوا من الأرض آمنين, وأجل من لم يكن بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة وأذن بها يوم النحر, فكان عشرين من ذي الحجة والمحرّم ثلاثين, فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرّم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام, وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة من يوم النحر أن يضع فيهم السيف أيضا يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر, ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر.
12787ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ... إلى قوله: وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال: ذكر لنا أن عليّا نادى بالأذان, وأمر على الحاج أبو بكر رضي الله عنهما, وكان العام الذي حجّ فيه المسلمون والمشركون, ولم يحجّ المشركون بعد ذلك العام. قوله: الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ... إلى قوله: إلى مُدّتِهِمْ قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية, وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر وأمر الله نبيه أن يوفي بعهدهم إلى مدتهم ومن لا عهد له انسلاخ المحرم, ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ولا يقبل منهم إلا ذلك.
وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر, وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر, وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الاَخر. ذكر من قال ذلك:
12788ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: لما نزلت هذه الآية, بريء من عهد كلّ مشرك, ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد, وأجرى لكل مدتهم. فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ لمن دخل عهده فيها من عشر ذي الحجة والمحرّم, وصفر وشهر ربيع الأوّل, وعشر من ربيع الاَخر.
12789ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره, قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع, وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بثلاثين أو أربعين آية من براءة, فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض, فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجل المشركين عشرين من ذي الحجة, والمحرّم, وصفر, وشهر ربيع الأوّل, وعشرا من ربيع الاَخر, وقرأها عليهم في منازلهم, وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان.
12790ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عشرون من ذي الحجة, والمحرم, وصفر, وربيع الأول, وعشر من ربيع الاَخر كان ذلك عهدهم الذي بينهم.
12791ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى أهل العهد: خزاعة, ومدلج, ومن كان له عهد من غيرهم. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجّ, ثم قال: «إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة, فلا أحبّ أن أحجّ حتى لا يكون ذلك». فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما, فطافا بالناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها, فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر, فهي الأشهر المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر, ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: أهل العهد مدلج, والعرب الذين عاهدهم, ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحجّ, ثم قال: «إنّهُ يَحْضُرُ البَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً فَلا أُحِبّ أنْ أحجّ حتى لا يكُون ذلكَ» فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما, فطافا بالناس بذي المجاز, وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالموسم كله, وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر, في الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر, ثم لا عهد لهم. وآذان الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا, فآمن الناس أجمعون حينئذ ولم يسح أحد. وقال: حين رجع من الطائف مضى من فوره ذلك, فغزا تبوك بعد إذ جاء إلى المدينة.
وقال آخرون ممن قال: «ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا». كان ابتداؤه يوم نزلت براءة, وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم, وذلك انقضاء المحرم. ذكر من قال ذلك:
12792ـ حدثنا محمد بن الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأزهري: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: نزلت في شوّال, فهذه الأربعة الأشهر: شوّال, وذو القعدة, وذو الحجة والمحرّم.
وقال آخرون: إنما كان تأجيل الله الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر, أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته. ذكر من قال ذلك:
12793ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: قال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر, فأتمّ له الأربعة. ومن كان له عهدا أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر أن يتمّ له عهده, وقال: أتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ.
قال أبو جعفر رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه, فإن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ.
فإن ظنّ ظانّ أن قول الله تعالى ذكره: فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك, إذ كان ذلك ينبىء عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك, فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن, وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبىء عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد, وذلك قوله: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فهؤلاء مشركون, وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم. وبعد: ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي الله عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد, فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه, وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود, فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا, بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.
12794ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا قيس, عن مغيرة, عن الشعبيّ, قال: ثني محرر بن أبي هريرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي, فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت, قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطف بالكعبة عريان, ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا عفان, قال: حدثنا قيس بن الربيع, قال: حدثنا الشيباني, عن الشعبيّ, قال: أخبرنا المحرر بن أبي هريرة, عن أبيه, قال: كنت مع عليّ رضي الله عنه, فذكر نحوه, إلا أنه قال: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلمعهد فعهده إلى أجله».
وقد حدث بهذا الحديث شعبة, فخالف قيسا في الأجل.
فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا عثمان بن عمر, قال: حدثنا شعبة, عن المغيرة, عن الشعبيّ, عن المحرّر بن أبي هريرة, عن أبيه, قال: كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة, فكنت أنادي حتى صحل صوتي, فقلت: بأي شيء كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر, فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله, ولا يطف بالبيت عريان, ولا يحجّ بعد العام مشرك.
قال أبو جعفر رحمه الله: وأخشى أن يكون هذا الخبر وهما من ناقله في الأجل, لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته.
12795ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبي إسحاق, عن الحرث الأعور عن عليّ رضي الله عنه, قال: أمرت بأربع: أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك, ولا يطف رجل بالبيت عريانا, ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة, وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده.
12796ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع قال: نزلت براءة, فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر, ثم أرسل عليّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر, قال: هل نزل فيّ شيء؟ قال: لا, ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة, فقام فيهم بأربع: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا, ولا يطف بالكعبة عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع, عن عليّ, قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع: أن لا يطف بالبيت عريان, ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عبد الأعلى, عن معمر, عن أبي إسحاق, عن الحرث, عن عليّ رضي الله عنه, قال: بعثت إلى أهل مكة بأربع, ثم ذكر الحديث.
12797ـ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, قال: حدثنا حسين بن محمد, قال: حدثنا سليمان بن قرم, عن الأعمش عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة, ثم أتبعه عليّا, فأخذها منه, فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله حدث فيّ شيء؟ قال: «لا, أنْتَ صَاحِبي فِي الغارِ وعَلى الحَوْضِ, ولاَ يُؤَدّي عَنّي إلاّ أنا أوْ عليّ», وكان الذي بعث به عليّا أربعا: لا يدخلَ الجنة إلا نفس مسلمة, ولا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته.
12798ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن ابن أبي خالد, عن عامر, قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه, فنادى: ألا لا يحجنّ بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته, والله بريء من المشركين ورسولُه.
12799ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف, عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن حسين بن عليّ, قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم الحجّ للناس قيل له: يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر فقال: «لا يُؤَدّي عَنّي إلاّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِي» ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اخْرُجْ بِهَذِهِ القِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ, وأذّن في النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى: أنّه لا يَدْخُلُ الجَنّة كافِرٌ, ولاَ يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ, ولاَ يَطُفْ بالبَيْتِ عُرْيانٌ, وَمَنْ كانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدّتِهِ» فخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء, حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق فلما رآه أبو بكر, قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. ثم مضيا رضي الله عنهما, فأقام أبو بكر للناس الحجّ والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية, حتى إذا كان يوم النحر, قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, فأذّن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا أيها الناس لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ولا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ومن كان له عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك, ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
12800ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: لما نزلت هذه الاَيات إلى رأس أربعين آية, بعث بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمرّه على الحجّ, فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعليّ فأخذها منه, فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: «لا, ولَكِنْ لا يُبَلّغُ عَنّي غَيرِي أوْ رَجُلٌ مِنّي أما تَرْضَى يا أبا بَكْرٍ أنّكَ كُنْتَ مَعِي في الغارِ, وأنّكَ صَاحِبي على الحَوْض؟» قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحاجّ, وعليّ يؤذن ببراءة, فقام يوم الأضحى, فقال: لا يقربنّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا, ولا يطوفنّ بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته, وإن هذه أيام أكل وشرب, وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا, وقالوا: ما تضعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع, عن عليّ, قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده قال معمر: وقاله قتادة.
قال أبو جعفر رحمه الله, فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا, وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا, فأما كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلاً, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفّى له عهده إلى مدته عن أمر الله إياه بذلك, وعلى ذلك دلّ ظاهر التنزيل وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا, وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الاَخر, فذلك أربعة أشهر متتابعة, جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض, يذهبون حيث شاءوا, لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت, فما وجه قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم, وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر, وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره, فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة؟ قيل: إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأشهر الأربعة لمن له عهد, إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه, فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته, فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر, ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة, ويصفهم بأنهم أهل عهد بَرَاءةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي الله ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد, فقال: وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... الآية إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ... الآية, ثم قال: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم, وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم.
فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلوا ذلك؟ قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة, وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له, ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه, فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل, ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم, وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا.
وأما قوله: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين, آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه, يقال منه: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا.
وأما قوله: واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي الله فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية: اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم بالله على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله, غَيْرُ مُعْجِزي الله يقول: غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه, لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة, ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.
وأما قوله: وأنّ اللّهَ مُخْزي الكافِرِينَ يقول: واعلموا أن الله مذلّ الكافرين, ومورثهم العار في الدنيا والنار في الاَخرة.
الآية : 3
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر. وقد بيّنا معنى الأذان فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده.
وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما:
12801ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: زعم سليمان بن موسى الشامي أنه قوله: وأذانٌ مِنَ اللّهِ ورَسُولِهِ قال: الأذان القصص, فاتحة براءة حتى تختم: وإنْ خفتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فذلك ثمان وعشرون آية.
12802ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأذانٌ مِنَ اللّهِ ورَسُولِهِ قال: إعلام من الله ورسوله.
ورفع قوله: وأذانٌ مِنَ اللّهِ عطفا على قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ كأنه قال: هذه براءة من الله ورسوله, وأذان من الله.
وأما قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ فإنه قيل اختلافا بين أهل العلم, فقال بعضهم: هو يوم عرفة. ذكر من قال ذلك:
12803ـ حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: أخبرنا أبو زرعة, وهبة الله بن راشد, قالا: أخبرنا حيوة بن شريح, قال: أخبرنا أبو صخر, أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري, وهو يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن يوم الحجّ الأكبر, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحجّ, وبعثني معه بأربعين آية من براءة, حتى أتى عرفة, فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته التفت إليّ, فقال قم يا عليّ وأدّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ثم صدرنا حتى أتينا منى, فرميت الجمرة, ونحرت البدنة, ثم حلقت رأسي, وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة, فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم, فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم النحر, ألا وهو يوم عرفة.
12804ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق, قال: سألت أبا جحيفة عن يوم الحجّ الأكبر, فقال: يوم عرفة, فقلت: أمن عندك أو من أصحاب محمد؟ قال: كل ذلك.
12805ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, قال: الحجّ الأكبر: يوم عرفة.
12806ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن عمر بن الوليد الشني, عن شهاب بن عباد العصري, عن أبيه, قال: قال عمر رضي الله عنه: يوم الحجّ الأكبرّ: يوم عرفة. فذكرته لسعيد بن المسيب, فقال: أخبرك عن ابن عمر أن عمر قال: الحجّ الأكبر: عرفة.
12807ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عمر بن الوليد الشني, قال: حدثنا شهاب بن عباد العصري, عن أبيه, قال: سمعت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه يقول: هذا يوم عرفة يوم الحجّ الأكبر يصومنه أحد قال: فحججت بعد أبي, فأتيت المدينة, فسألت عن أفضل أهلها, فقالوا: سعيد بن المسيب. فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة, فقالوا: سعيد بن المسيب, فأخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني أضعافا: عمر أو ابن عمر, كان ينهى عن صومه, ويقول: هو يوم الحجّ الأكبر.
12808ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عبد الصمد بن حبيب, عن معقل بن داود, قال: سمعت ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا يوم الحجّ الأكبر فلا يصمه أحد.
12809ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا غالب بن عبيد الله, قال: سألت عطاء عن يوم الحجّ الأكبر: فقال: يوم عرفة, فأفض منها قبل طلوع الفجر.
12810ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة, ثم قال: «أمّا بَعْدُ» وكان لا يخطب إلا قال: «أما بعد» «فإنّ هذَا يَوْم الحَجّ الأكْبَرِ».
12811ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الوهاب, عن مجاهد, قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم عرفة.
12812ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن سلمة بن محب, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم عرفة.
12813ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني طاوس, عن أبيه, قال: قلنا: ما الحجّ الأكبر؟ قال: يوم عرفة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: «هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ».
وقال آخرون: هو يوم النحر. ذكر من قال ذلك:
12814ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن الحرث, عن عليّ, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مصعب بن سلام, عن الأجلح, عن أبي إسحاق, عن الحرث, عن علي قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عنبسة, عن أبي إسحاق, عن الحرث, قال: سألت عليا عن الحجّ الأكبر, فقال: هو يوم النحر.
12815ـ حدثنا ابن أبي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد, قال: حدثنا سليمان الشيباني, قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى, عن الحجّ الأكبر, قال: فقال يوم النحر.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن عياش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى, قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر.
قال: حدثنا سفيان, عن عبد الملك بن عمير, عن عبد الله بن أبي أوفى, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
12816ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عبد الملك, قال: دخلت أنا وأبو سلمة على عبد الله بن أبي أوفى, قال: فسألته عن يوم الحجّ الأكبر, فقال: يوم النحر, يوم يهراق فيه الدم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان, قال: أخبرنا إسحاق, عن سفيان, عن عبد الملك بن عمير, عن عبد الله, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن الشيبانيّ, قال: سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحجّ الأكبر؟ قال: يوم النحر.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا الشيباني, عن عبد الله بن أبي أوفى, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
12817ـ قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا عبد الملك بن عمير, قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى, وسئل عن قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: هو اليوم الذي يراق فيه الدم ويحلق فيه الشعر.
12818ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن عليّ: أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة, فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته, فسأله عن الحجّ الأكبر, فقال: هو يومك هذا, خلّ سبيلها
حدثنا عبد الحميد بن بيان, قال: حدثنا إسحاق, عن مالك بن مغول وشتير, عن أبي إسحاق, عن الحرث, عن عليّ, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن أبي إسحاق, عن الحرث, عن عليّ, قال: سئل عن يوم الحجّ الأكبر, قال: هو يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن عليّ, أنه لقيه رجل يوم النحر, فأخذ بلجامه, فسأله عن يوم الحجّ الأكبر, قال: هو هذا اليوم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن قيس, عن عبد الملك بن عمير وعياش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى, قال: هو اليوم الذي يهراق فيه الدماء.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن أبي أوفى, قال: الحجّ الأكبر, يوم تهراق فيه الدماء, ويحلق فيه الشعر, ويحلّ فيه الحرام.
12819ـ حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن عبد الله بن يسار, قال: حدثنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير, فقال: هذا يوم الأضحى, وهذا يوم النحر, وهذا يوم الحجّ الأكبر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عبد الله بن يسار, قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير, وقال: هذا يوم الأضحى, وهذا يوم النحر, وهذا يوم الحجّ الأكبر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عبد الله بن يسار, قال: خطبنا المغيرة بن شعبة, فذكر نحوه.
12820ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن حماد بن سلمة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.
12821ـ حدثنا ابن أبي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد, قال: حدثنا سليمان الشيباني, قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: الحجّ الأكبر يوم النحر.
12822ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة, قال: الحجّ الأكبر: يوم النحر.
12823ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, قال: اختصم عليّ بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الحجّ الأكبر, قال عليّ: هو يوم النحر, وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه, فقال: هو يوم النحر, إلا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحجّ, فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحجّ؟
حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا يونس, عن سعيد بن جبير, أنه قال: الحجّ الأكبر: يوم النحر. قال: فقلت له: إن عبد الله بن شيبة ومحمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس اختلفا في ذلك, فقال محمد بن عليّ: هو يوم النحر, وقال عبد الله: هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير: أرأيت لو أن رجلاً فاته يوم عرفة أكان يفوته الحجّ؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحجّ.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن الشيباني, عن سعيد بن جبير, قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.
12824ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: قال: المعتمر بن سليمان, عن أبيه, قال: ثني رجل, عن أبيه, عن قسس بن عبادة, قال: ذو الحجة العاشر النحر, وهو يوم الحجّ الأكبر.
12825ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن شداد, قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر, والحجّ الأصغر: العُمرة.
12826ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن شداد بن الهاد, قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.
12827ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا المحاربي, عن مسلم الحجبي, قال: سألت نافع بن جبير بن مطعم, عن يوم الحجّ الأكبر, قال: يوم النحر.
12828ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن المغيرة, عن إبراهيم, قال: كان يقال: الحجّ الأكبر يوم النحر.
12829ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم يهراق فيه الدم, ويحلّ فيه الحرام.
12830ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم, أنه قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر الذي يحلّ فيه كلّ حرام.
قال: حدثنا هشيم, عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي, عن عليّ, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
12831ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون, قال: سألت محمدا عن يوم الحجّ الأكبر فقال: كان يوما وافق فيه حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجّ أهل الوبر.
12832ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الحكيم بن بشير, قال: حدثنا عمر بن ذرّ, قال: سألت مجاهدا عن يوم الحجّ الأكبر, فقال: هو يوم النحر.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن مجاهد, يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن ثور, عن مجاهد يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
12833ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر وقال عكرمة: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر, يوم يهراق فيه الدماء, ويحلّ فيه الحرام. قال: وقال مجاهد: يوم يجمع فيه الحجّ كله, وهو يوم الحجّ الأكبر.
12834ـ قال: حدثنا إسرائيل, عن عبد الأعلى, عن محمد بن عليّ: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
قال: حدثنا إسرائيل, عن عبد الأعلى, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله.
12835ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبي إسحاق, قال: قال عليّ الحجّ الأكبر: يوم النحر. قال: وقال الزهري: يوم النحر: يوم الحجّ الأكبر.
12836ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرني يونس وعمرو عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة, قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: ألا لا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر: يوم الحجّ الأكبر.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الشعبي, عن أبي إسحاق, قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر, فقال: الحجّ الأكبر: يوم النحر, والحجّ الأصغر: العُمرة.
قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق, قال: سألت عبد الله بن شداد, فذكره نحوه.
قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عبد الملك بن عمير, قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: يوم الحجّ الأكبر: يوم يوضع في الشعر, ويهراق فيه الدم, ويحلّ فيه الحرام.
قال: حدثنا الثوريّ, عن أبي إسحاق, عن عليّ, قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا قيس, عن عياش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى, أنه سئل عن يوم الحجّ الأكبر, فقال: سبحان الله, هو يوم يهراق فيه الدماء, ويحلّ فيه الحرام, ويوضع فيه الشعر وهو يوم النحر.
قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي حصين, عن عبد الله بن يسار, قال: خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له, فقال: هذا يوم النحر, وهذا يوم الحجّ الأكبر.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا حسن بن صالح, عن مغيرة, عن إبراهيم, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, عن إبراهيم بن طهمان, عن مغيرة, عن إبراهيم: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر, ويحلّ فيه الحرام.
12837ـ حدثني أحمد بن المقدام, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا ابن عون, عن محمد بن سيرين, عن عبد الرحمن بن أبي بكرة, عن أبيه, قال: لما كان يوم ذلك, قعد على بعير له النبيّ, وأخذ إنسان بخطامه أو زمامه, فقال: «أيّ يوْمٍ هَذَا؟» قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه غير اسمه, فقال: «ألَيْسَ يَوْمُ الحَجّ؟».
12838ـ حدثنا سهل بن محمد الحساني, قال: حدثنا أبو جابر الحرثي, قال: حدثنا هشام بن الغازي الجرشي, عن نافع, عن ابن عمر, قال: وقف رسوله الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع, فقال: «هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ».
12839ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, عن مرّة الهمداني, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة, فقال: «أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ يَوْمُكُمْ؟» قالوا: يوم النحر, قال: «صَدَقْتُمْ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَر».
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرني عمرو بن مرّة, قال: حدثنا مرّة, قال: حدثنا رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره نحوه.
12840ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبيه, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بأربع كلمات حين حجّ أبو بكر بالناس, فنادى ببراءة: إنه يوم الحجّ الأكبر, ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ألا ولا يطوف بالبيت عريان, ألا ولا يحجّ بعد العام مشرك, ألا ومن كان بينه وبين محمد عهد فأجله إلى مدته, والله بريء من المشركين ورَسُولُه.
12841ـ حدثني يعقوب, قال: ثني هشيم, عن حجاج بن أرطاة, عن عطاء, قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.
12842ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: يوم النحر: يوم يحلّ فيه المحرم, وينحر فيه البدن. وكان ابن عمر يقول: هو يوم النحر, وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس يقول: هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد: والحجّ يفوت بفوت يوم النحر ولا يفوت بفوت يوم عرفة, إن فاته اليوم لم يفته الليل, يقف ما بينه وبين طلوع الفجر.
12843ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: يوم الأضحى: يوم الحجّ الأكبر.
حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: ثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتي هذه, حسبته قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مخضرمة, فقال: «أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمُ النّحْرِ وهَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ».
وقال آخرون: معنى قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ حين الحجّ الأكبر ووقته. قال: وذلك أيام الحجّ كلها لا يوم بعينه. ذكر من قال ذلك:
12844ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ حين الحجّ, أيامه كله.
12845ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: الحجّ الأكبر: أيام مِني كلها, ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنّة, حين نودي فيهم: أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا وأن لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته.
12846ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا أبو عبيد, قال: كان سفيان يقول: يوم الحجّ, ويوم الجمل, ويوم صفين: أي أيامه كلها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, في قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال حين الحج, أي أيامه كلها.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا: قول من قال: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ: يوم النحر لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين, وتلا عليهم براءة يوم النحر. هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: «أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ. وبعد: فإن اليوم إنما يضاف إلى معنى الذي يكون فيه, كقول الناس: يوم عرفة, وذلك يوم وقوف الناس بعرفة, ويوم الأضحى, وذلك يوم يضحون فيه ويوم الفطر, وذلك يوم يفطرون فيه وكذلك يوم الحجّ, يوم يحجون فيه. وإنما يحجّ الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر, لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر, وفي صبيحتها يعمل أعمال الحجّ فأما يوم عرفة فإنه وإن كان الوقوف بعرفة فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر, والحجّ كله يوم النحر.
وأما ما قال مجاهد من أن يوم الحجّ إنما هو أيامه كلها, فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب, فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معاينه, بل غلب على معنى اليوم عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد, وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: يوم الحجّ الأكبر, فقال بعضهم: سمي بذلك لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين. ذكر من قال ذلك:
12847ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, قال: إنما سمي الحجّ الأكبر من أجل أنه حجّ أبو بكر الحجة التي حجها, واجتمع فيها المسلمون والمشركون, فلذلك سمي الحجّ الأكبر, ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى.
12848ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن عليّ بن زيد بن جدعان عن عبد الله بن الحرث بن نوفل, قال: يوم الحجّ الأكبر كانت حجة الوداع اجتمع فيه حجّ المسلمين والنصارى واليهود ولم يجتمع قبله ولا بعده.
12849ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن, قال قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: إنما سمي الحجّ الأكبر لأنه يوم حجّ فيه أبو بكر, ونبذت فيه العهود.
وقال آخرون: الحجّ الأكبر: القران, والحجّ الأصغر: الإفراد. ذكر من قال ذلك:
12850ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا أبو بكر النهشلي, عن حماد, عن مجاهد, قال: كان يقول: الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر فالحجّ الأكبر: القران, والحجّ الأصغر: إفراد الحجّ.
وقال آخرون: الحجّ الأكبر: الحجّ, والحجّ الأصغر: العمرة. ذكر من قال ذلك:
12851ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الحجّ الأكبر: الحجّ, والحجّ الأصغر: العمرة.
12852ـ قال: حدثنا عبد الأعلى, عن داود, عن عامر, قال: قلت له: هذا الحجّ الأكبر, فما الحجّ الأصغر؟ قال: العُمرة.
12853ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, قال: كان يقال: الحجّ الأصغر: العمرة في رمضان.
12854ـ قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, قال: كان يقول: الحجّ الأصغر: العمرة.
12855ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, عن سفيان, عن أبي أسماء, عن عبد الله بن شداد, قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر, والحجّ الأصغر: العمرة.
12856ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن أهل الجاهلية كانوا يسمون الحجّ الأصغر: العمرة.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: الحجّ الأكبر الحجّ لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها, فقيل له الأكبر لذلك. وأما الأصغر فالعمرة, لأن عملها أقلّ من عمل الحجّ, فلذلك قيل لها الأصغر لنقصان عملها عن عمله.
وأما قوله: أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإن معناه: أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله بعد هذه الحجة. ومعنى الكلام: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحجّ الأكبر, أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان كما:
12857ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد الحجة.
القول في تأويل قوله تعالى: فإنْ تُبْتُمْ فهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أليمٍ.
يقول تعالى: فإن تبتم من كفركم أيها المشركون, ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الاَلهة والأنداد, فالرجوع إلى ذلك خير لكم من الإقامة على الشرك في الدنيا والاَخرة. وإنْ تَوَلّيْتُمْ يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم. فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزي اللّهِ يقول: فأيقنوا أنكم لا تفيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد على إقامتكم على الكفر, كما فعل بذويكم من أهل الشرك, من إنزال نقمه به وإحلاله العذاب عاجلاً بساحته. وَبَشّر الّذِينَ كَفَرُوا يقول: واعلم يا محمد الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب موجع يحلّ بهم.
12858ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قوله: فإنْ تُبْتُمْ قال آمنتم.
الآية : 4
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوَاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىَ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللّهَ بَريءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ, إلاّ من عهد الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أيها المؤمنون, ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا من عهدكم الذي عاهدتموهم, ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا من عدوّكم, فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم, ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال. فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ يقول: قفوا لهم بعدههم الذي عاهدتموهم عليه, ولا تنصبوا لهم حربا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم. إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ يقول: إن الله يحبّ من اتقاه بطاعته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
12859ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدِهُمْ إلى مُدّتِهِمْ يقول: إلى أجلهم.
12860ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ: أي العهد الخاصّ إلى الأجل المسمى. ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا... الآية.
12861ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا... الآية, قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية. وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر, فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم, ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرّم, ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
12862ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: مدة من كان له عهد المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الاَخر, وذلك أربعة أشهر, فإن نقض المشركون عهدهم وظاهروا عدوّا فلا عهد لهم, وإن وفوا بعدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يظاهروا عليه عدوّا, فقد أمر أن يؤدي إليهم عهدهم ويفي به.
الآية : 5
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَخَلّواْ سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فإذا انقضى ومضى وخرج, يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلخه سَلْخا وسُلُوخا, بمعنى: خرجنا منه, ومنه قولهم: شاة مسلوخة, بمعنى: المنزوعة من جلدها المخرجة منه ويعني بالأشهر الحرم: ذا القعدة, وذا الحجة, والمحرّم, أو إنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرّم وحده, لأن الأذان كان ببراءة يوم الحجّ الأكبر, فمعلوم أنهم لم يكونوا أجلوا الأشهر الحرم كلها وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى. ولكنه لما كان متصلاً بالشهرين الاَخرين قبله الحرامين وكان هولهما ثالثا وهي كلها متصل بعضها ببعض, قيل: فإذا انسلخ الأشهر الحرم.
ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم, أو عن الذين كان لهم عهد, فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداء على رسول الله وعلى أصحابه, أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ يقول: فاقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يقول: حيث لقيتوهم من الأرض في الحرم وغير الحرم في الأشهر الحُرم وغير الأشهر الحرم. وَخُذُوهُمْ يقول: وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم كلّ مرصد, يعني: كلّ طريق ومرقب, وهو مفعل من قول القائل رصدت فلانا أرصُده رَصْدا, بمعنى: رقبته. فإنْ تابُوا يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له, دون الاَلهة والأنداد, والإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وأقامُوا الصّلاةَ يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعْطُوا الزّكاةَ التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها. فخَلّوا سَبِيلَهُمْ يقول: فدعوهم يتصرّفون في أمصاركم ويدخلون البيت الحرام. إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب من عباده, فأناب إلى طاعته بعد الذي كان عليه من معصيته, ساتر على ذنبه, رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته, بعد التوبة. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أُجّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12863ـ حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسديّ, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فَارَقَ الدّنْيَا على الإخْلاص للّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئا, فَارَقها والله عَنْهُ رَاضٍ» قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل, وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء, وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله, قال الله: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ فخَلّوا سَبِيلَهُمْ قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة. ثم قال في آية أخرى: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكَاةَ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ.
12864ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله, فإنما الناس ثلاثة رهط: مسلم عليه الزكاة, ومشرك عليه الجزية, وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عشور ماله.
12865ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي الأربعة التي عددت لك, يعني عشرين من ذي الحجة والمحرّم وصفر وربيعا الأول وعشرا من شهر ربيع الاَخر.
وقال قائلوا هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر الحرم لأن الله عزّ وجلّ حرّم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعَرْض لهم إلا بسبيل خير. ذكر من قال ذلك:
12866ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن إبراهيم بن أبي بكر, أنه أخبره, عن مجاهد وعمرو بن شعيب, في قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ أنها الأربعة التي قال الله: فَسِيحُوا في الأرْضِ قال: هي الحرم من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها.
12867ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: ضرب لهم أجل أربعة أشهر, وتبرأ من كلّ مشرك, ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ لا تتركوهم يضربون في البلاد, ولا يخرجون للتجارة, ضيقوا عليهم. بعدها أمر بالعفو: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
12868ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ يعني الأربعة التي ضرب الله لهم أجلاً لأهل العهد العام من المشركين. فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كْلّ مَرْصَدٍ... الآية.
الآية : 6
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام الله منك, وهو القرآن الذي أنزله الله عليه. فأجرُهْ يقول: فأمنه, حتّى يَسمعَ كلامِ اللّهِ وتتلوه عليه. ثُمّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ يقول: ثم ردّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يسلم ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى مأمنه, يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. ذلكَ بأنّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان, ليسمعوا القرآن, وردّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم, من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12869ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجاركَ: أي من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم, فأجِرْهُ.
12870ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فَأجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ أما كلام الله: فالقرآن.
12871ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجاركَ فَأجِرْهُ قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول ويسمع ما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله, وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
12872ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا, فلقي العدوّ, وأخرج المسلمون رجلاً من المشركين وأشرعوا فيه الأسنة, فقال الرجل: ارفعوا عني سلاحكم, وأسمعوني كلام الله تعالى فقالوا: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع الأنداد وتتبرأ من اللات والعُزّى؟ فقال: فإني أشهدكم أني قد فعلت.
12873ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ثُمّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قال: إن لم يوافقه ما تقول عليه وتحدّثه, فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.
واختلف في حكم هذه الآية, وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟ فقال بعضهم: هو غير منسوخ, وقد ذكرنا قول من قال ذلك.
وقال آخرون: هو منسوخ. ذكر من قال ذلك:
12874ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضحاك: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ نسختها: فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِدَاءً.
12875ـ قال: حدثنا سفيان, عن السديّ, مثله.
وقال آخرون: بل نسخ قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ قوله: فإمّا مَنّا بَعْدُ. ذكر من قال ذلك:
12876ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سليمان, عن ابن أبي عروبة, عن قتادة: حَتّى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ نسخها قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
وقال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: ليس ذلك بمنسوخ, وقد دللنا على أن معنى النسخ هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره, ولم تصحّ حجة بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكلّ حال ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ولا على وجه المنّ عليهم. فإذا كان ذلك كذلك فكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أولّ حرب حاربهم, وذلك من يوم بدر كان معلوما أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم, وخذوهم للقتل أو المن أو الفداء واحصروهم, وإذا كان ذلك معناه صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره