تفسير الطبري تفسير الصفحة 262 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 262
263
261
 سورة الحجر
سورة الـحجر مكية
وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرحمَن الرحيـم
الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ }.
أما قوله جلّ ثناؤه, وتقدّست أسماؤه الر, فقد تقدم بـيانها فـيـما مضى قبل. وأما قوله: تِلْكَ آياتُ الكِتابِ فإنه يعنـي: هذه الاَيات, آيات الكتب التـي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنـجيـل. وقُرآنٍ يقول: وآيات قرآن مُبِـينٍ يقول: يُبِـين من تأمله وتدبّره رشدَه وهداه. كما:
15878ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَقُرآنٍ مُبِـينٍ قال: تبـين والله هداه ورشده وخيره.
15879ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن مـجاهد: الر فواتـح يفتتـح بها كلامه. تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال: التوراة والإنـجيـل.
15880ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة, فـي قوله: الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال: الكتُب التـي كانت قبل القرآن.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رّبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ }.
اختلفت القراء فـي قراءة قوله رُبَـمَا فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين رُبَـمَا بتـخفـيف البـاء, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة بتشديدها.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بـمعنى واحد, قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب.
واختلف أهل العربـية فـي معنى «ما» التـي مع «ربّ», فقال بعض نـحويـي البصرة: أدخـل مع «ربّ» «ما» لـيتكلـم بـالفعل بعدها, وإن شئت جعلت «ما» بـمنزلة شيء, فكأنك قلت: ربّ شيء, يودّ: أي ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقد أنكر ذلك من قوله بعض نـحويّـي الكوفة, وقال: الـمصدر لا يحتاج إلـى عائد, والودّ قد وقع علـى «لو», ربـما يودون لو كانوا: أن يكونوا. قال: وإذا أضمر الهاء فـي «لو» فلـيس بـمفعول, وهو موضع الـمفعول, ولا ينبغي أن يترجم الـمصدر بشيء, وقد ترجمه بشيء, ثم جعله ودّا, ثم أعاد علـيه عائدا. فكان الكسائي والفرّاء يقولان: لا تكاد العرب توقع «ربّ» علـى مستقبل, وإنـما يوقعونها علـى الـماضي من الفعل كقولهم: ربـما فعلت كذا, وربـما جاءنـي أخوك. قالا: وجاء فـي القرآن مع الـمستقبل: ربـما يودّ, وإنـما جاز ذلك لأن ما كان فـي القرآن من وعد ووعيد وما فـيه, فهو حقّ كأنه عيان, فجرى الكلام فـيـما لـم يكن بعدُ مـجراه فـيـما كان, كما قـيـل: وَلَوْ تَرَى إذ الـمُـجْرمُونَ ناكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وقوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزعُوا فَلا فَوْتَ كأنه ماض وهو منتظر لصدقه فـي الـمعنى, وأنه لا مكذّب له, وأن القائل لا يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاه الـمأمور يقول: أما والله لربّ ندامة لك تذكر قولـي فـيها لعلـمه بأنه سيندم, والله ووعده أصدق من قول الـمخـلوقـين. وقد يجوز أن يصحب «ربـما» الدائم وإن كان فـي لفظ يفعل, يقال: ربـما يـموت الرجل فلا يوجد له كفن, وإن أُولـيت الأسماء كان معها ضمير كان, كما قال أبو دُؤاد:
رُبّـمَا الـجامِلُ الـمُؤَبّلُ فِـيهِمُوعَناجِيجُ بَـيْنَهُنّ الـمِهَارُ
فتأويـل الكلام: ربـما يودّ الذين كفروا بـالله فجحدوا وحدانـيته لو كانوا فـي دار الدنـيا مسلـمين. كما:
15881ـ حدثنا علـيّ بن سعيد بن مسروق الكندي, قال: حدثنا خالد بن نافع الأشعري, عن سعيد بن أبـي بردة, عن أبـي بردة, عن أبـي موسى, قال: بلغنا أنه: «إذا كان يوم القـيامة, واجتـمع أهل النار فـي النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة, قال الكفـار لـمن فـي النار من أهل القبلة: ألستـم مسلـمين؟ قالوا: بلـى, قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتـم معنا فـي النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها. فسمع الله ما قالوا, فأمر بكلّ من كان من أهل القبلة فـي النار فأخرجوا, فقال من فـي النار من الكفـار: يا لـيتنا كنا مسلـمين» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ وقُرآنٍ مُبِـينٍ رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15882ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عمرو بن الهيثم أبو قَطن القُطْعيّ, ورَوح القـيسيّ, وعفـان بن مسلـم واللفظ لأبـي قَطن قالوا: حدثنا القاسم بن الفضل بن عبد الله بن أبـي جَرْوة, قال: كان ابن عبـاس وأنس بن مالك يتأوّلان هذه الاَية: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قالا: ذلك يوم يجمع الله أهل الـخطايا من الـمسلـمين والـمشركين فـي النار وقال عفـان: حين يحبس أهل الـخطايا من الـمسلـمين والـمشركين فـيقول الـمشركون: ما أغنى عنكم ما كنتـم تعبدون زاد أبو قطن: قد جُمِعنا وإياكم وقال أبو قَطن وعفـان: فـيغضب الله لهم بفضل رحمته ولـم يقله روح بن عبـادة. وقالوا جميعا: فـيخرجهم الله, وذلك حين يقول: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15883ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عفـان, قال: حدثنا أبو عوانة, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: يدخـل الـجنة ويرحم حتـى يقول فـي آخر ذلك: من كان مسلـما فلـيدخـل الـجنة قال: فذلك قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15884ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ ذلك يوم القـيامة يتـمنى الذين كفروا لو كانوا موحدين.
15885ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان عن سلـمة بن كهيـل, عن أبـي الزعراء, عن عبد الله, فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: هذا فـي الـجهنـميـين إذا رأوهم يخرجون من النار.
حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا ابن أبـي فروة العبدي أن ابن عبـاس وأنس بن مالك كانا يتأوّلان هذه الاَية: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ يتأوّلانها يوم يحبس الله أهل الـخطايا من الـمسلـمين مع الـمشركين فـي النار, قال: فـيقول لهم الـمشركون: ما أغنى عنكم ما كنتـم تعبدون فـي الدنـيا, قال: فـيغضب الله لهم بفضل رحمته, فـيخرجهم, فذلك حين يقول: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: ما يزال الله يُدخـل الـجنة, ويرحم ويشفع حتـى يقولَ: من كان من الـمسلـمين فلـيدخـل الـجنة فذلك قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15886ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن هشام الدّستوائي, قال: حدثنا حماد, قال: سألت إبراهيـم عن هذه الاَية: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: حُدّثت أن الـمشركين قالوا لـمن دخـل النار من الـمسلـمين: ما أغنى عنكم ما كنتـم تعبدون؟ قال: فـيغضب الله لهم, فـيقول للـملائكة والنبـيـين: اشفعوا فـيشفعون, فـيخرجون من النار, حتـى إن إبلـيس لـيتطاول رجاء أن يخرج معهم. قال: فعند ذلك يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلـمين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, عن إبراهيـم, أنه قال فـي قول الله عزّ وجلّ: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: يقول من فـي النار من الـمشركين للـمسلـمين: ما أغنت عنكم «لا إله إلا الله»؟ قال: فـيغضب الله لهم, فـيقول: من كان مسلـما فلـيخرج من النار قال: فعند ذلك: يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن حماد, عن إبراهيـم فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: إن أهل النار يقولون: كنا أهل شرك وكفر, فما شأن هؤلاء الـموحدين ما أغنى عنهم عبـادتهم إياه؟ قال: فـيخرج من النار من كان فـيها من الـمسلـمين. قال: فعند ذلك يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15887ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن حماد, عن إبراهيـم, عن خصيف, عن مـجاهد, قال: يقول أهل النار للـموحدين: ما أغنى عنكم إيـمانكم؟ قال: فإذا قالوا ذلك, قال: أَخْرِجُوا من كان فـي قلبه مثقال ذرّة فعند ذلك يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا هشام, عن حماد, قال: سألت إبراهيـم عن قول الله عزّ وجلّ: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: الكفـار يعيّرون أهل التوحيد: ما أغنى عنكم لا إله إلا الله؟ فـيغضب الله لهم, فـيأمر النبـيـين والـملائكة فـيشفعون, فـيخرج أهل التوحيد, حتـى إن إبلـيس لـيتطاول رجاء أن يخرج, فذلك قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15888ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن مـجاهد, قال: هذا فـي الـجهنـميـين, إذا رأوهم يخرجون من النار يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15889ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن مـجاهد, قال: إذا فرغ الله من القضاء بـين خـلقه, قال: من كان مسلـما فلـيدخـل الـجنة فعند ذلك يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15890ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـحسن, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: يوم القـيامة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
15891ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: فـيها وجهان اثنان, يقولون: إذا حضر الكافر الـموت ودّ لو كان مسلـما. ويقول آخرون: بل يعذّب الله ناسا من أهل التوحيد فـي النار بذنوبهم, فـيعرفهم الـمشركون فـيقولون: ما أغنت عنكم عبـادة ربكم وقد ألقاكم فـي النار؟ فـيغضب لهم فـيخرجهم, فـيقول: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
15892ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, فـي قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ قال: نزلت فـي الذين يخرجون من النار.
15893ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ وذلك والله يوم القـيامة, ودّوا لو كانوا فـي الدنـيا مسلـمين.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: ما يزال الله يدخـل الـجنة ويشفع حتـى يقول: من كان من الـمسلـمين فلـيدخـل الـجنة فذلك حين يقول: رُبَـمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِـمِينَ.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ذر يا مـحمد هؤلاء الـمشركين يأكلوا فـي هذه الدنـيا ما هم آكلوه, ويتـمتعوا من لذاتها وشهواتهم فـيها إلـى أجلهم الذي أجلت لهم, ويُـلْهِهم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فـيها وتزوّدهم لـمعادهم منها بـما يقربهم من ربهم, فسوف يعلـمون غدا إذا وردوا علـيه وقد هلكوا علـى كفرهم بـالله وشركهم حين يُعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تـمتعهم بـما كانوا يتـمتعون فـيها من اللذّات والشهوات كانوا فـي خسار وتبـاب.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَهَا كِتَابٌ مّعْلُومٌ }.
يقول تعالـى ذكره: وَما أهْلَكْنا يا مـحمد مِنْ أهل قَرْيَةٍ من أهل القرى التـي أهلكنا أهلها فـيـما مضى, إلاّ ولَهَا كِتابٌ مَعْلُومٌ يقول: إلا ولها أجل مؤقّت ومدة معروفة لا نهلكهم حتـى يبلغوها, فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك. فـيقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فكذلك أهل قريتك التـي أنت منها وهي مكة, لا نهلك مشركي أهلها إلا بعد بلوغ كتابهم أجله, لأن مِنْ قضائي أن لا أهلك أهل قرية إلا بعد بلوغ كتابهم أجله.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ما يتقدّم هلاك أمة قبل أجلها الذي جعله الله أجلاً لهلاكها, ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي جعل لها أجلاً. كما:
15894ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, فـي قوله: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُون قال: نرى أنه إذا حضر أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم. وأما ما لـم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء.
الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ * لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الـمشركون لك من قومك يا مـحمد: يا أيّها الّذِي نُزّلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ وهو القرآن الذي ذكر الله فـيه مواعظ خـلقه, إنّكَ لَـمَـجْنُونٌ فـي دعائك إيانا إلـى أن نتّبعك ونذر آلهتنا. لَوْما تَأْتـينا بـالـمَلائِكَةِ قالوا: هلا تأتـينا بـالـملائكة شاهدة لك علـى صدق ما تقول إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ يعنـي: إن كنت صادقا فـي أن الله تعالـى بعثك إلـينا رسولاً وأنزل علـيك كتابـا, فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك لا يتعذّر علـيه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علـينا وآية لك علـى نبوّتك وصدق مقالتك. والعرب تضع موضع «لوما» «لولا», وموضع «لولا» «لوما», من ذلك قول ابن مقبل:
لَوْما الـحَياءُ وَلَوْما الدّينُ عِبْتُكماببَعْضِ ما فـيكُما إذْ عِبْتُـما عَوَرِي
يريد: لولا الـحياء.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15895ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: نُزّلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ قال: القرآن.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَا نُنَزّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مّنظَرِينَ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ما نُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ فقرأ عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة: «ما تَنَزّلُ الـمَلائِكَةُ» بـالتاء تَنَزّلُ وفتـحها ورفع «الـملائكة», بـمعنى: ما تنزل الـملائكة, علـى أن الفعل للـملائكة. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: ما نُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالنون فـي ننزل وتشديد الزاي ونصب الـملائكة, بـمعنى: ما ننزلها نـحن, و «الـملائكة» حينئذ منصوب بوقوع «ننزل» علـيها. وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة: «ما تُنَزّلُ الـمَلائِكَةُ» برفع الـملائكة والتاء فـي «تنزل» وضمها, علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله.
قال أبو جعفر: وكلّ هذ القراءات الثلاث متقاربـات الـمعانـي وذلك أن الـملائكة إذا نزلها الله علـى رسول من رسله تنزلت إلـيه, وإذا تنزلت إلـيه فإنـما تنزل بإنزال الله إياها إلـيه. فبأيّ هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء فمصيب الصواب فـي ذلك, وإن كنت أحبّ لقارئه أن لا يعدو فـي قراءته إحدى القراءتـين اللتـين ذكرت من قراءة أهل الـمدينة والأخرى التـي علـيها جمهور قرّاء الكوفـيـين, لأن ذلك هو القراءة الـمعروفة فـي العامّة, والأخرى: أعنـي قراءة من قرأ ذلك: «ما تُنَزّلُ» بضم التاء من تنزّل ورفع الـملائكة شاذّة قلـيـل من قرأ بها.
فتأويـل الكلام: ما ننزل ملائكتنا إلا بـالـحقّ, يعنـي بـالرسالة إلـى رسلنا, أو بـالعذاب لـمن أردنا تعذيبه. ولو أرسلنا إلـى هؤلاء الـمشركين علـى ما يسألون إرسالهم معك آية فكفروا لـم يُنظروا فـيؤخروا بـالعذاب, بل عوجلوا به كما فعلنا ذلك بـمن قبلهم من الأمـم حين سألوا الاَيات فكفروا حين آتتهم الاَيات, فعاجلناهم بـالعقوبة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15896ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء وحدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: ما نُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ إلاّ بـالـحَقّ قال: بـالرسالة والعذاب.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: إنّا نَـحْنُ نَزّلْنا الذّكْرَ وهو القرآن, وإنّا لَهُ لـحَافِظُونَ قال: وإنا للقرآن لـحافظون من أن يزاد فـيه بـاطل مّا لـيس منه, أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه. والهاء فـي قوله: «لَهُ» من ذكر الذكر.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15897ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـحسن, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وإنّا لَهُ لـحَافِظُونَ قال: عندنا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
15898ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا نَـحْنُ نَزّلْنا الذّكْرَ وإنّا لَهُ لـحَافِظُونَ قال فـي آية أخرى: لا يَأْتِـيهِ البـاطِلُ والبـاطل: إبلـيس, مِنْ بـينِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَـلْفِهِ فأنزله الله ثم حفظه, فلا يستطيع إبلـيس أن يزيد فـيه بـاطلاً ولا ينتقص منه حقّا, حفظه الله من ذلك.
15899ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وإنّا لَهُ لـحَافِظُونَ قال: حفظه الله من أن يزيد فـيه الشيطان بـاطلاً أو ينقص منه حقّا.
وقـيـل: الهاء فـي قوله: وإنّا لَهُ لـحَافِظُونَ من ذكر مـحمد صلى الله عليه وسلم بـمعنى: وإنا لـمـحمد حافظون مـمن أراده بسوء من أعدائه.
الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولقد أرسلنا يا مـحمد من قبلك فـي الأمـم الأوّلـين رسلاً. وترك ذكر الرسل اكتفـاء بدلالة قوله: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ علـيه, وعَنَى بشيع الأوّلـين: أمـم الأوّلـين, واحدتها شيعة, ويقال أيضا لأولـياء الرجل: شيعته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15900ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فـي شِيَعِ الأوّلِـينَ يقول: أمـم الأوّلـين.
15901ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة, فـي قوله: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِـي شِيَعِ الأوّلِـينَ قال: فـي الأمـم.
وقوله: وَما يَأْتِـيهمْ مِنْ رِسُولٍ إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول: وما يأتـي شيع الأوّلـين من رسول من الله يرسله إلـيهم بـالدعاء إلـى توحيده والإذعان بطاعته إلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول: إلا كانوا يَسْخَرون بـالرسول الذي يرسله الله إلـيهم عُتوّا منهم وتـمرّدا علـى ربهم.
الآية : 12-13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: كما سلكنا الكفر فـي قلوب شيع الأوّلـين. بـالاستهزاء بـالرسل, كذلك نفعل ذلك فـي قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بـالكفر بـالله لا يُوءْمِنُونَ بِهِ يقول: لا يصدّقون: بـالذكر الذي أنزل إلـيك. والهاء فـي قوله: نَسْلُكُهُ من ذكر الاستهزاء بـالرسل والتكذيب بهم كما:
15902ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ قال: التكذيب.
15903ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ لا يؤمنون به, قال: إذا كذبوا سلك الله فـي قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
15904ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن حميد, عن الـحسن, فـي قوله: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ قال: الشرك.
15905ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن حميد, قال: قرأت القرآن كله علـى الـحسن فـي بـيت أبـي خـلـيفة, ففسره أجمع علـى الإثبـات, فسألته عن قوله: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ قال: أعمال سيعملونها لـم يعملونها.
15906ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك عن حماد بن سلـمة, عن حميد الطويـل, قال: قرأت القرآن كله علـى الـحسن, فما كان يفسره إلا علـى الإثبـات, قال: وقـفته علـى «نسلكه», قال: الشرك. قال: ابن الـمبـارك: سمعت سفـيان يقول فـي قوله: نَسْلُكُهُ قال: نـجعله.
15907ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ لا يُوءْمِنُونَ بِهِ قال: هم كما قال الله, هو أضلهم ومنعهم الإيـمان.
يقال منه: سَلَكَه يَسْلُكُه سَلْكا وسُلُوكا, وأسلكه يُسْلِكه إسلاكا ومن السلوك قول عديّ بن زيد:
وكنْت لِزَازَ خَصْمِكَ لَـمْ أُعَرّدْوَقَدْ سَلَكوكَ فـي يَوْم عَصِيبِ
ومن الإسلاك قول الاَخر:
حتـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فـي قُتائِدَةٍشَلاّ كمَا تُطْرَدُ الـجَمّالَةُ الشّرُدَا
وقوله: وَقَدْ خَـلَتْ سُنّةُ الأوّلِـينَ يقول تعالـى ذكره: لا يؤمن بهذا القرآن قومك الذين سلكت فـي قلوبهم التكذيب, حتـى يَرَوُا العَذَابَ الألِـيـمَ أخذا منهم سنة أسلافهم من الـمشركين قبلهم من قوم عاد وثمود وضربـائهم من الأمـم التـي كذّبت رسلها, فلـم تؤمن بـما جاءها من عند الله حتـى حلّ بها سخط الله فهلكت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15908ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كذلكَ نَسْلُكُهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ لا يُوءْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَـلَتْ سُنّةُ الأوّلِـينَ وقائع الله فـيـمن خلا قبلكم من الأمـم.
الآية : 14-15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيـين بقوله: فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرُجُونَ فقال بعضهم: معنى الكلام: ولو فتـحنا علـى هؤلاء القائلـين لك يا مـحمد لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ بـابـا من السماء فظلت الـملائكة تعرج فـيه وهم يرونهم عيانا, لقالُوا إنـمَا سُكّرَتْ أبصارُنا بَلْ نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ. ذكر من قال ذلك:
15909ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرِجُونَ يقول: لو فتـحنا علـيهم بـابـا من السماء فظلت الـملائكة تعرج فـيه, لقال أهل الشرك: إنـما أخَذَ أبصارنا, وشَبّه علـينا, وإنـما سحرنا فذلك قولهم: لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ.
15910ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عبـاس: فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرُجُونَ فظلت الـملائكة يعرجون فـيه يراهم بنو آدم عيانا لقالُوا إنـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا بَلْ نَـحْنُ قَوْم مَسْحورُون.
15911ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: يا أيّها الّذِي نُزّلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ إنّكَ لـمَـجْنُونٌ لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ, قال: ما بـين ذلك إلـى قوله: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرِجُونَ قال: رجع إلـى قوله: لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ ما بـين ذلك. قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: فظلت الـملائكة تعرج فنظروا إلـيهم, لقالُوا إنّـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا قال: قريش تقوله.
15912ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرِجُونَ قال: قال ابن عبـاس: لو فتـح الله علـيهم من السماء بـابـا فظلت الـملائكة تعرج فـيه, يقول: يختلفون فـيه جائين وذاهبـين لقالُوا إنّـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا.
15913ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرِجُونَ يعنـي الـملائكة يقول: لو فتـحتُ علـى الـمشركين بـابـا من السماء, فنظروا إلـى الـملائكة تعرج بـين السماء والأرض, لقال الـمشركون: نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سُحرنا ولـيس هذا بـالـحقّ. ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الاَية: لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن عمر, عن نصر, عن الضحاك, فـي قوله: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرِجُونَ قال: لو أنـي فتـحت بـابـا من السماء تعرج فـيه الـملائكة بـين السماء والأرض, لقال الـمشركون: بَلْ نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ إلا ترى أنهم قالوا: لَوْما تَأْتِـينا بـالـمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ.
وقال آخرون: إنـما عُنـي بذلك بنو آدم.
ومعنى الكلام عندهم: ولو فتـحنا علـى هؤلاء الـمشركون من قومك يا مـحمد بـابـا من السماء فظلوا هم فـيه يعرجون لقَالُوا إنّـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا. ذكر من قال ذلك:
15914ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرُجُونَ قال قتادة, كان الـحسن يقول: لو فعل هذا ببنـي آدم فظلوا فـيه يعرجون أي يختلفون, لقالُوا إنّـما سُكّرَتْ أبْصَارُنا بَلْ نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
وأما قوله: يَعْرُجُونَ فإن معناه: يرقَوْن فـيه ويَصْعَدون, يقال منه: عرج يَعْرُج عُروجا إذا رَقِـيَ وصَعَد, وواحدة الـمعارج: معرج ومعراج ومنه قول كثـير:
إلـى حَسَبٍ عَوْدٍ بنَا الـمرْءَ قَبْلَهُأبُوهُ لَهُ فِـيهِ معَارِجَ سُلّـمِ
وقد حُكي: عرِج يعرِج بكسر الراء فـي الاستقبـال. وقوله: لقَالُوا إنّـما سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول: لقال هؤلاء الـمشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم: ما هذا بحقّ إنـما سكّرت أبصارنا.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله: سُكّرَتْ فقرأ أهل الـمدينة والعراق: سُكّرَتْ بتشديد الكاف, بـمعنى: غُشّيت وغُطّيت, هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فـيـما ذُكر لـي عنه. وذُكر عن مـجاهد أنه كان يقرأ: «لقَالُوا إنّـما سُكّرَتْ».
15915ـ حدثنـي بذلك الـحرث, قال: حدثنا القاسم, قال: سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة, عن شبل, عن مـجاهد أنه قرأها: «سُكّرَتْ أبْصَارُنا» خفـيفة.
وذهب مـجاهد فـي قراءته ذلك كذلك إلـى: حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح, وذلك سكونها وركودها, يقال منه: سكرت الريح: إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبـي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سُكْر الشراب, وأن معناه: قد غشّى أبصارنا السكر.
وأما أهل التأويـل فإنهم اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى سُكّرَتْ: سدّت. ذكر من قال ذلك:
15916ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا ورقاء وحدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء جميعا, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: سُكّرَتْ أبْصَارُنا قال: سدّت.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
15917ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, يعنـي ابن مـحمد, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي ابن كثـير قال: سدّت.
15918ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: سُكّرَتْ أبْصَارُنا يعنـي: سدّت.
فكأن مـجاهدا ذهب فـي قوله وتأويـله ذلك بـمعنى: سدّت, إلـى أنه بـمعنى: منعت النظر, كما يُسكر الـماء فـيـمنع من الـجري بحبسه فـي مكان بـالسكر الذي يسّكر به.
وقال آخرون: معنى سُكرت: أُخذت. ذكر من قال ذلك:
15919ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن ابن عبـاس: لقَالُوا إنّـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول: أُخذت أبصارنا.
15920ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: إنـما أخذ أبصارنا, وشبّه علـينا, وإنـما سحرنا.
15921ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: لقَالُوا إنّـما سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول: سُحرت أبصارنا يقول: أخذت أبصارنا.
15922ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد, قال: حدثنا شيبـان, عن قتادة, قال: من قرأ: سُكّرَتْ مشددة: يعنـي سدّت. ومن قرأ «سُكِرَتْ» مخففة, فإنه يعنـي سحرت.
وكأن هؤلاء وجّهوا معنى قوله سُكّرَتْ إلـى أن أبصارهم سُحرت, فشبه علـيهم ما يبصرون, فلا يـميزون بـين الصحيح مـما يرون وغيره من قول العرب: سُكّر علـى فلان رأيه: إذا اختلط علـيه رأيه فـيـما يريد فلـم يدر الصواب فـيه من غيره, فإذا عزم علـى الرأي قالوا: ذهب عنه التسكير.
وقال آخرون: هو مأخوذ من السكر, ومعناه: غشي علـى أبصارنا فلا نبصر,. كما يفعل السكر بصاحبه, فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلـم يبصر. ذكر من قال ذلك:
15923ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: «إنّـمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا» قال: سكرت, السكران الذي لا يعقل.
وقال آخرون: معنى ذلك: عميت. ذكر من قال ذلك:
15924ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن الكلبـي: سُكّرَتْ قال: عميت.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: أخذت أبصارنا وسحرت, فلا تبصر الشيء علـى ما هو به, وذهب حدّ إبصارنا وانطفأ نوره كما يقال للشيء الـحارّ إذا ذهبت فورته وسكن حدّ حرّة: قد سكر يسكر. قال الـمثنى بن جندل الطّهوي:
جاءَ الشّتاءُ واجْثَأَلّ القُبّرُواستَـخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَتْ عينُ الـحَرُور تَسْكُرُ
أي تسكن وتذهب وتنطفـىء. وقال ذو الرّمّة:
قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتّهَجّرِوخَوْضُهُنّ اللّـيْـلَ حينَ يَسْكُرُ
يعنـي: حين تسكن فورته. وذُكر عن قـيس أنها تقول: سكرت الريح تسكر سُكُورا, بـمعنى: سكنت. وإن كان ذلك عنها صحيحا, فإن معنى سُكِرَت وسُكّرَتْ بـالتـخفـيف والتشديد متقاربـان, غير أن القراءة التـي لا أستـجيز غيرها فـي القرآن: سُكّرَتْ بـالتشديد لإجماع الـحجة من القراءة علـيها, وغير جائز خلافها فـيـما جاءت به مـجمعة علـيه