تفسير الطبري تفسير الصفحة 267 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 267
268
266
 الآية : 92-94
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فوربك يا مـحمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن فـي الدنـيا عضين فـي الاَخرة عما كانوا يعملون فـي الدنـيا, فـيـما أمرناهم به وفـيـما بعثناك به إلـيهم من آي كتابـي الذي أنزلته إلـيهم وفـيـما دعوناهم إلـيه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16166ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا, عن بشير, عن أنس, فـي قوله: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ قال: عن شهادة أن لا إله إلاّ الله.
16167ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن لـيث, عن بشير بن نهيك, عن أنس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ قال: «عَنْ لا إله إلاّ الله».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن بشير, عن أنس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم نـحوه.
16168ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قولفَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: عن لا إله إلاّ الله.
16169ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن هلال, عن عبد الله بن عُكَيْـم, قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره, ما منكم أحد إلاّ سيخـلو الله به يوم القـيامة كما يخـلو أحدكم بـالقمر لـيـلة البدر, فـيقول: ابن آدم ماذا غرّك منـي بـي ابن آدم؟ ماذا عملت فـيـما علـمت ابن آدم؟ ماذا أجبت الـمرسلـين؟
16170ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: يُسأل العبـاد كلهم عن خَـلّتـين يوم القـيامة: عما كانوا يعبدون, وعما أجابوا الـمرسلـين.
16171ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا الـحسين الـجعفـي, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية العوفـي عن ابن عمر: لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: عن لا إله إلاّ الله.
16172ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال: فَـيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جانّ قال: لا يسألهم هل عملتـم كذا وكذا؟ لأنه أعلـم بذلك منهم, ولكن يقول لهم: لِـمَ عملتـم كذا وكذا؟
16173ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: أنزل الله تعالـى ذكره: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ فإنه أمر من الله تعالـى ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم بتبلـيغ رسالته قومه وجميع من أرسل إلـيه.
ويعنـي بقوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ: فأمض وافرُق, كما قال أبو ذُؤَيب:
وكأنّهُنّ رِبـابَةٌ وكأنّهُيَسَرٌ يُفـيضُ علـى القِداح ويَصْدَعُ
يعنـي بقوله: «يَصْدَع» يُفَرّق بـالقداح.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16174ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ يقول: فـامْضِهْ.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ يقول: افعل ما تؤمر.
16175ـ حدثنـي الـحسين بن يزيد الطحان, قال: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: بـالقرآن.
حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ, قال: حدثنا يحيى بن إبراهيـم, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: هو القرآن.
حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: بـالقرآن.
حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: الـجهر بـالقرآن فـي الصلاة.
حدثنا أحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا شريك, عن لـيث, عن مـجاهد: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: بـالقرآن فـي الصلاة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: اجهر بـالقرآن فـي الصلاة.
16176ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو أسامة, قال: حدثنا موسى بن عبـيدة, عن أخيه عبد الله بن عبـيدة قال: ما زال النبـيّ صلى الله عليه وسلم مستـخفـيا حتـى نزلت: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَر وأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكِينَ فخرج هو وأصحابه.
16177ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ قال: بـالقرآن الذي يوحى إلـيه أن يبلغهم إياه.
وقال تعالـى ذكره: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ ولـم يقل: بـما تؤمر به, والأمر يقتضي البـاء لأن معنى الكلام: فـاصدع بأمرنا, فقد أمرناك أن تدعو إلـى ما بعثناك به من الدين خَـلقـي وأذنّا لك فـي إظهاره.
ومعنى «ما» التـي فـي قوله بِـمَا تُؤْمَرُ معنى الـمصدر, كما قال تعالـى ذكره يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ معناه: افعل الأمر الذي تؤمر به. وكان بعض نـحويّـي أهل الكوفة يقول فـي ذلك: حذفت البـاء التـي يوصل بها تؤمر من قوله: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ علـى لغة الذين يقولون: أمرتك أمرا. وكان يقول: للعرب فـي ذلك لغتان: إحداهما أمرتك أمرا, والأخرى أمرتك بأمر, فكان يقول: إدخال البـاء فـي ذلك وإسقاطها سواء. واستشهد لقولك ذلك بقول حصين بن الـمنذر الرقاشي لـيزيد بن الـمهلّب:
أمَرْتُكَ أمْرا جازِما فَعَصَيْتَنِـيفأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما
فقال: أمرتك أمرا, ولـم يقل: أمرتك بأمر, وذلك كما قال تعالـى ذكره: ألا إنّ عادا كَفَرُوا رَبّهُمْ.
ولـم يقل: بربهم, وكما قالوا: مددت الزمام, ومددت بـالزمام, وما أشبه ذلك من الكلام.
وأما قوله: وأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكِينَ ويقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: بلغ قومك ما أرسلتَ به, واكفف عن حرب الـمشركين بـالله وقتالهم. وذلك قـيـل أن يفرض علـيه جهادهم, ثم نَسَخَ ذلك بقوله: فَـاقْتُلُو الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ, كما:
16178ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكِينَ وهو من الـمنسوخ.
16179ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: اخبرنا ابن الـمبـارك, عن جويبر, عن الضحاك, فـي قوله: وأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكِينَ قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفروا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ وهذا النـحو كله فـي القرآن أمر الله تعالـى ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه, ثم أمره بـالقتال, فنَسَخَ ذلك كله, فقال: خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ... الاَية.
الآية : 95-96
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إنا كفـيناك الـمستهزئين يا مـحمد, الذين يستهزئون بك ويسخرون منك, فـاصدع بأمر الله, ولا تَـخَفْ شيئا سوى الله, فإن الله كافـيك من ناصبك وآذاك كما كفـاك الـمستهزئين. وكان رؤساء الـمستهزئين قوما من قريش معروفـين. ذكر أسمائهم:
16180ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد,, قال: كان عظماء الـمستهزئين كما حدثنـي يزيد بن رومان عن عُروة بن الزّبـير خمسة نَفَر من قومِه, وكانوا ذوي أسنان وشرف فـي قومهم من بنـي أسد بن عبد العُزّي بن قُصَيّ: الأسود بن الـمطلب أبو زَمْعة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنـي قد دعا علـيه لـما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: «اللهمّ أعم بصره, وأثْكِلْهُ وَلَدَهُ». ومن بنـي زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة. ومن بنـي مخزوم: الولـيدُ بن الـمغيرة بن عبد الله بن مخزوم. ومن بنـي سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سَهْم. ومن خُزاعة: الـحارث بن الطّلاطلة بن عمرو بن الـحارث بن عمرو بن مَلْكان. فلـما تـمادَوْا فـي الشرّ وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء, أنزل الله تعالـى ذكره: فـاصْدَعْ بِـمَا تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكينَ إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ... إلـى قوله: فَسَوْفَ يَعْلَـمُونَ. قال مـحمد بن إسحاق: فحدثنـي يزيد بن رومان, عن عُروة بن الزبـير أو غيره من العلـماء: أن جبرئيـل أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بـالبـيت فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى جنبه, فمرّ به الأسود بن الـمطلب, فرمى فـي وجهه بورقة خضراء, فعَمِي. ومرّ به الأسود بن عبد يغوث, فأشار إلـى بطنه فـاسْتَسْقَـى بطنه فمات منه حبنا. ومرّ به الولـيد بن الـمُغيرة, فأشار إلـى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتـين, وهو يجرّ سَبَلَهُ, يعنـي إزاره وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الـخدش ولـيس بشيء, فـانتقَضَ به فقتله. ومرّ به العاص بن وائل السّهمِيّ, فأشار إلـى أخمص رجله, فخرج علـى حمار له يريد الطائف فوُقِصَ علـى شِبْرِقة, فدخـل فـي أخمص رجله منها شوكة, فقتلته قال أبو جعفر: الشّبرقة: الـمعروف بـالـحَسَك, منه حَبَنا, والـحَبَن: الـماء الأصفر ومرّ به الـحارث بن الطّلاطلة, فأشار إلـى رأسه, فـامتـخض قـيحا فقتله.
16181ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد القرشيّ, عن رجل, عن ابن عبـاس, قال: كان رأسهم الولـيد بن الـمُغيرة, وهو الذي جمعهم.
16182ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن زياد, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: كان الـمستهزؤون: الولـيد بن الـمغيرة, والعاص بن وائل, وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث, والـحارث بن عيطلة. فأتاه جبرئيـل, فأومأ بأصبعه إلـى رأس الولـيد, فقال: «ما صَنَعْتَ شيئا», قال: كُفِـيت. وأومأ بـيده إلـى أخمص العاص, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما صَنَعْتَ شَيْئا». فقال: كُفِـيت. وأومأ بـيده إلـى عين أبـي زمعة, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا, قال: كُفِـيت.وأومأ بأصبعه إلـى رأس الأسود, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْ لـي خالـي» فقال: كُفِـيت. وأومأ بأصبعه إلـى بطن الـحارث, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما صَنَعْتَ شَيْئا» فقال كُفِـيت. قال: فمرّ الولـيد علـى قـين لـخزاعة وهو يجرّ ثـيابه, فتعلقت بثوبه بروة أو شررة, وبـين يديه نساء, فجعل يستـحي أن يطأ من ينتزعها, وجعلت تضرب ساقه فخدشته, فلـم يزل مريضا حتـى مات. وركب العاص بن وائل بغلة له بـيضاء إلـى حاجة له بأسفل مكة, فذهب ينزل, فوضع أخمص قدمه علـى شبرقة فحكت رجله, فلـم يزل يحكها حتـى مات. وعمي أبو زمعة وأخذت الأكلة فـي رأس الأسود وأخذ الـحارث الـماء فـي بطنه.
16183ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: هم خمسة رهط من قريش: الولـيدُ بن الـمغيرة, والعاصُ بن وائل, وأبو زمعة, والـحارث بن عيطلة, والأسود بن قـيس.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: الولـيد بن الـمغيرة, والعاص بن وائل السّهْمِيّ, والأسود بن عبد يغوث, والأسود بن الـمطلب, والـحارث بن عيطلة.
16184ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, فـي قوله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: هم خمسة كلهم هلك قبل بَدْر: العاص بن وائل, والولـيد بن الـمغيرة, وأبو زمعة بن عبد الأسود, والـحارث بن قـيس, والأسود بن عبد يغوث.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيـينة عن عمرو, عن عكرمة: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: الولـيد بن الـمغيرة, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد يغوث, والـحارث بن عيطلة.
16185ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن أبـي بكر الهذلـي, قال: قلت للزّهريّ: إن سعيد بن جبـير وعكرمة اختلفـا فـي رجل من الـمستهزئين, فقال سعيد: هو الـحارث بن عيطلة, وقال عكرمة: هو الـحارث بن قـيس؟ فقال: صدقا, كانت أمه تسمى عيطلة وأبوه قـيس.
16186ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن حصين, عن الشعبـيّ, قال: الـمستهزئين سبعة. وسَمّى منهم أربعة.
16187ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن جابر, عن عامر: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: كانوا من قريش خمسة نفر: العاص بن وائل السهمي, كُفِـي بصُداع أخذه فـي رأسه, فسال دماغه حتـى كان يتكلـم من أنفه. والولـيد بن الـمغيرة الـمخزومي, كفـي برجل من خزاعة أصلـح سهما له, فندرت منه شظية, فوطىء علـيها فمات. وهبـار بن الأسود, وعبد يغوث بن وهب, والـحارث بن عيطلة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن جابر, عن عامر: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال: كلهم من قريش: العاص بن وائل, فكفـي بأنه أصابه صداع فـي رأسه, فسال دماغه حتـى لا يتكلـم إلاّ من تـحت أنفه. والـحارث بن عيطلة بصفر فـي بطنه وابن الأسود فكفـي بـالـجدري والولـيد بأن رجلاً ذهب لـيصلـح سهما له, فوقعت شظية فوطىء علـيها وعبد يغوث فكفـي بـالعمي, ذهب بصره.
16188ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, وعن مقْسم: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ قال هم الولـيد بن الـمغيرة, والعاص بن وائل, وعديّ بن قـيس, والأسود بن عبد يغوث, والأسود بن الـمطلب, مرّوا رجلاً رجلاً علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم ومعه جبرئيـل, فإذا مرّ به رجل منهم قال جبرئيـل: كيف تـجد هذا؟ فـيقول: «بئس عدوّ الله» فـيقول جبرئيـل: كفـاكه.
فأما الولـيد بن الـمغيرة فتردّى, فتعلق سهم بردائه, فذهب يجلس فقطع أكحله فنُزِف فمات. وأما الأسود بن عبد يغوث, فأُتِـي بغصن فـيه شوك, فضرب به وجهه, فسالت حدقتاه علـى وجهه, فكان يقول: دعوت علـى مـحمد دعوة, ودعا علـيّ دعوة, فـاستـجيب لـي, واستـجيب له دعا علـيّ أن أعمَى فعميت, ودعون علـيه أن يكون وحيدا فريدا فـي أهل يثرب فكان كذلك. وأما العاص بن وائل, فوطىء علـى شوكة فتساقط لـحمه عن عظامه حتـى هلك. وأما الأسود بن الـمطلب وعديّ بن قـيس, فإن أحدهما قام من اللـيـل وهو ظمآن, فشرب ماء من جَرّة, فلـم يزل يشرب حتـى انفتق بطنه فمات وأما الاَخر فلدغته حية فمات.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وعثمان, عن مِقْسم مولـى ابن عبـاس, فـي قوله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ ثم ذكر نـحو حديث ابن عبد الأعلـى, عن ابن ثور.
16189ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: كمَا أنْزَلْنا علـى الـمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ هم رهط خمسة من قريش عضهوا القرآن, زعم بعضهم أنه سحر وزعم بعضهم أنه شعر وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلـين. أما أحدهم: فـالأسود بن عبد يغوث, أتـى علـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو عند البـيت, فقال له الـملَك: كيف تـجد هذا؟ قال: «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ علـى أنّهُ خالـي» قال: كفـيناك. ثم أتـى علـيه الولـيد بن الغيرة, فقال له الـملَك: كيف تـجد هذا؟ قال: «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ» قال: كفـيناك. ثم أتـى علـيه عديّ بن قـيس أخو بنـي سهم, فقال الـملك: كيف تـجد هذا؟ قال: «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ» قال: كَفـيناك. ثم أتـى علـيه الأسود بن الـمطلب, فقال له الـملك: كيف تـجد هذا؟ قال: «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ» قال: كفـيناك. ثم أتـى علـيه العاص بن وائل, فقال له الـملك: كيف تـجد هذا؟ قال: «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ» قال: كفـيناك. فأما الأسود بن عبد يغوث, فأتـي بغصن من شوك فضرب به وجهه حتـى سالت حدقتاه علـى وجهه, فكان بعد ذلك يقول: دعا علـيّ مـحمد بدعوة ودعوت علـيه بأخرى, فـاستـجاب الله له فـيّ واستـجاب الله لـي فـيه دعا علـيّ أن أثكل وأن أعمى, فكان كذلك ودعوت علـيه أن يصير شريدا طريدا, فطردناه مع يهود يثرب وسرّاق الـحجيج, وكان كذلك. وأما الولـيد بن الـمغيرة, فذهب يرتدي, فتعلق بردائه سهم غرب, فأصاب أكحله أو أبجله, فأتـي فـي كلّ ذلك, فمات. وأما العاص بن وائل, فوطىء علـى شوكة, فأتـي فـي ذلك, جعل يتساقط لـحمه عضوا عضوا فمات وهو كذلك. وأما الأسود بن الـمطلب وعديّ بن قـيس, فلا أدري ما أصابهما. ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر, نهى أصحابه عن قتل أبـي البختري, وقال: «خُذُوهُ أخْذا, فإنه قد كَانَ له بَلاء» فقال له أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا أبـا البختري إنا قد نهينا عن قتلك فهلـمّ إلـى الأمنة والأمان فقال أبو البختري: وابن أخي معي؟ فقالوا: لـم نؤمر إلاّ بك. فراودوه ثلاث مرّات, فأبى إلا وابن أخيه معه, قال: فأغلظ للنبـيّ صلى الله عليه وسلم الكلام, فحمل علـيه رجل من القوم فطعنه فقتله, فجاء قاتله وكأنـما علـى ظهره جبل أوثقه مخافة أن يـلومه النبـيّ صلى الله عليه وسلم فلـما أخبر بقوله: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «أبْعَدَهُ اللّهُ وأسْحَقَهُ» وهم الـمستهزِئُونَ الّذِينَ قال الله: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ وهم الـخمسة الذين قـيـل فـيهم: إنّا كَفَـيْناكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ استهزءوا بكتاب الله, ونبـيه صلى الله عليه وسلم.
16190ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنّا كَفَـيْناك الـمُسْتَهْزِئِينَ هم من قريش.
16191ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, وزعم ابن أبـي بَزّة أنهم العاص بن وائل السهمي والولـيد بن الـمغيرة الوحيد, والـحارث بن عديّ بن سهم بن العيطلة, والأسود بن الـمطلب بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصّي, وهو أبو زمعة, والأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16192ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس, نـحو حديث مـحمد بن عبد الأعلـى, عن مـحمد بن ثور, غير أنه قال: كانوا ثمانـية. ثم عدّهم وقال: كلهم مات قبل بدر.
وقوله: الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ آلَها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَـمُونَ وعيد من الله تعالـى ذكره, وتهديد للـمستهزئين الذين أخبر نبـيه صلى الله عليه وسلم أنه قد كفـاه أمرهم بقوله تعالـى ذكره: إنا كفـيناك يا مـحمد الساخرين منك, الـجاعلـين مع الله شريكا فـي عبـادته, فسوف يعلـمون ما يـلقون من عذاب الله عند مصيرهم إلـيه فـي القـيامة, وما يَحُلّ بهم من البلاء.
الآية : 97-98
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولقد نعلـم يا مـحمد أنك يضيق صدرك بـما يقول هؤلاء الـمشركون من قومك من تكذيبهم إياك واستهزائهم بك وبـما جئتهم به, وأن ذلك يُحْرِجك. فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يقول: فـافزع فـيـما نابك من أمر تكرهه منهم إلـى الشكر لله والثناء علـيه والصلاة, يكفك الله من ذلك ما أهمّك. وهذا نـحو الـخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا حزَبَه أمر فَزِع إلـى الصلاة».
الآية : 99
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: واعبد ربك حتـى يأتـيك الـموت, الذي هو مُوقَن به. وقـيـل: يقـين, وهو موقَن به, كما قـيـل: خمر عتـيق, وهي معتّقَة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16193ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعد, عن سفـيان, قال: ثنـي طارق بن عبد الرحمن, عن سالـم بن عبد الله: واعْبُدْ رَبّكَ حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: الـموت.
16194ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, حميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, قال: ابن جريج: أخبرنـي ابن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: الـموت.
16195ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: واعْبُدْ رَبّكَ حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: يعنـي الـموت.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: الـيقـين: الـموت.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
16196ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن مبـارك بن فضالة, عن الـحسن, فـي قوله: حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: الـموت.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن طارق, عن سالـم, مثله.
16197ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: واعْبُدْ رَبّكَ حتـى يَأْتِـيكَ الـيَقِـينُ قال: الـموت إذا جاءه الـموت جاءه تصديق ما قال الله له وحدّثه من أمر الاَخرة.
16198ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس بن يزيد, عن ابن شهاب: أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بـايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنهم اقتسموا الـمهاجرين قُرْعة, قالت: وطار لنا عثمان بن مظعون, فأنزلناه فـي أبـياتنا, فوَجع وجعه الذي مات فـيه. فلـما تُوفّـي وغَسّل وكُفّن فـي أثوابه, دخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله علـيك أبـا السائب, فشهادتـي علـيك لقد أكرمك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومَا يُدْرِيكَ أنّ اللّهَ أكْرَمَهُ؟» قالت يا رسول الله فَمَهْ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هُوَ فَقَدْ جاءَه الـيَقِـينُ, وَوَاللّهِ إنّـي لأَرْجُو لَهُ الـخَيْرَ».
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مالك بن إسماعيـل, قال: حدثنا إبراهيـم بن سعد, قال: حدثنا ابن شهاب, عن خارجة بن زيد, عن أمّ العلاء امرأة عن نسائهم, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: أخبرنا إبراهيـم بن إسماعيـل, عن مـحمد بن شهاب, أن خارجة بن زيد, حدثه عن أمّ العلاء امرأة منهم, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, بنـحوه, إلا أنه قال فـي حديثه: فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا هُوَ فَقَدْ عايَنَ الـيَقِـينَ».

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الحجر

سورة النـحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أتـى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا، فلا تستعجلوا وقوعه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الأمر الذي أعلـم الله عبـاده مـجيئه وقُربه منهم ما هو، وأيّ شيء هو؟ فقال بعضهم: هو فرائضه وأحكامه. ذكر من قال ذلك:
16199ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك، فـي قوله: أتَـى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال: الأحكام والـحدود والفرائض.
وقال آخرون: بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا. ذكر من قال ذلك:
16200ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما نزلت هذه الاَية، يعنـي: أتَـى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من الـمنافقـين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتـى، فأمسِكوا عن بعض ما كنتـم تعملون حتـى تنظروا ما هو كائن فلـما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نراه نزل شيء فنزلت: اقْتَرَبَ للنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فـي غَفْلَة مُعْرِضُون فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا. فلـما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نراه نزل شيء فنزلت: وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلـى أُمّة مَعْدُودَةٍ لَـيَقُولُنّ ما يَحْبَسُهُ ألا يَوْمَ يأتِـيهِمْ لَـيْسَ مَصْرُوفـا عَنْهُمْ وَحاقَ بِهمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
16201ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل، عن أبـي بكر بن حفص، قال: لـما نزلت: أتَـى أمْرُ اللّهِ رفعوا رءوسهم، فنزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
16202ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو بكر بن شعيب، قال: سمعت صادق أبـا يقرأ: «يا عِبـادَي أتَـى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ».
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب، قول من قال: هو تهديد من أهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله سبحانه وتعالـى: عَمّا يُشْرِكُونَ فدلّ بذلك علـى تقريعه الـمشركين ووعيده لهم. وبعد، فإنه لـم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض علـيهم فـيقال لهم من أجل ذلك: قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. وأما مستعجلو العذاب من الـمشركين، فقد كانوا كثـيرا.
وقوله سبحانه وتعالـى: عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالـى ذكره: تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب علـى مثل ما هم علـيه يَدين به.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله تعالـى: عَمّا يُشْرِكُونَ فقرأ ذلك أهل الـمدينة وبعض البصريـين والكوفـيـين: عَمّا يُشْرِكُونَ بـالـياء علـى الـخبر عن أهل الكفر بـالله وتوجيه للـخطاب بـالاستعجال إلـى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قرءوا الثانـية بـالـياء. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة بـالتاء علـى توجيه الـخطاب بقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ إلـى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله تعالـى: «عَمّا تُشْرِكُونَ» إلـى الـمشركين. والقراءة بـالتاء فـي الـحرفـين جميعا علـى وجه الـخطاب للـمشركين أولـى بـالصواب لـما بـيّنت من التأويـل أن ذلك إنـما هو وعيد من الله للـمشركين ابتدأ أوّل الاَية بتهديدهم وختـم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم علـى وجه الـخطاب لهم.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ }.
اختلفت القراء فـي قراءة قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والكوفة: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالـياء وتشديد الزاي ونصب الـملائكة، بـمعنى يُنَزّل الله الـملائكة بـالروح. وقرأ ذلك بعض البصريـين وبعض الـمكيـين: «يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ» بـالـياء وتـخفـيف الزاي ونصب الـملائكة. وحُكي عن بعض الكوفـيـين أنه كان يقرؤه: «تَنَزّلُ الـمَلائِكَةَ» بـالتاء وتشديد الزاي والـملائكة بـالرفع، علـى اختلاف عنه فـي ذلك. وقد رُوي عنه موافقة سائر قرّاء بلده.
وأولـى القراءات بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـمعنى: ينزّل الله ملائكة. وإنـما اخترت ذلك، لأن الله هو الـمنزّل ملائكته بوحيه إلـى رسله، فإضافة فعل ذلك إلـيه أولـى وأحقّ واخترت «ينزّل» بـالتشديد علـى التـخفـيف، لأنه تعالـى ذكره كان ينزّل من الوحي علـى من نزّله شيئا بعد شيء، والتشديد به إذ كان ذلك معناه أولـى من التـخفـيف.
فتأويـل الكلام: ينزّل الله ملائكته بـما يحيا به الـحقّ ويضمـحلّ به البـاطل من أمره علـى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَـادِهِ يعنـي علـى من يشاء من رسله أنْ أنْذِرُوا ف «أنْ» الأولـى فـي موضع خفض، ردّا علـى «الروح»، والثانـية فـي موضع نصب ب «أنْذِرُوا». ومعنى الكلام: ينزل الـملائكة بـالروح من أمره علـى من يشاء من عبـاده، بأن أنذروا عبـادي سطوتـي علـى كُفرهم بـي وإشراكهم فـي اتـخاذهم معي الاَلهة والأوثان، فإنه لا إله إلاّ أنا يقول: لا تنبغي الأولوهة إلا لـي، ولا يصلـح أن يُبعد شيء سواي، فـاتّقُونِ يقول: فـاحذرونـي بأداء فرائضي وإفراد العبـادة وإخلاص الربوبـية لـي، فإن ذلك نـجاتكم من الهلكة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16203ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ يقول: بـالوحي.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ يقول: ينزل الـملائكة....
16204ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله: بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ إنه لا ينزل ملَك إلا ومعه روح.
16205ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ قال: لا ينزل ملك إلا معه روح يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ قال بـالنبوّة. قال ابن جريج: وسمعت أن الروح خـلق من الـملائكة نزل به الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحِ مِنْ أمْرِ رَبّـي.
16206ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، فـي قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنّهُ لا إلَهَ إلاّ أنَا فـاتّقُونِ قال: كل كَلِـم تكلـم به ربنا فهو روح منه، وكذلكَ أوْحَيْنا إلَـيْكَ رُوحا منْ أمْرِنا... إلـى قوله: ألا إلـى اللّهِ تَصِيرُ الأمُورُ.
16207ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ يقول: ينزّل بـالرحمة والوحي من أمره، علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَـادِهِ فـيصطفـي منهم رسلاً.
16208ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: يُنَزّلُ الـمَلائِكَةَ بـالرّوحِ مِنْ أمْرِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ قال: بـالوحي والرحمة.
وأما قوله: أنْ انْذِرُوا أنّهُ لا إلهَ إلاّ أنا فـاتّقُونِ فقد بـيّنا معناه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16205حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أنْ أنْذِرُوا أنّهُ لا إلهَ إلاّ أنا فـاتّقُونِ إنـما بعث الله الـمرسلـين أن يوحّدَ الله وحده، ويُطاع أمره، ويجتنب سخطه. (
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول تعالـى ذكره معرّفـا خـلقه حجته علـيهم فـي توحيده، وأنه لا تصلـح الألوهة إلا له: خـلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بـالعدل وهو الـحقّ منفردا بخـلقها لـم يشركه فـي إنشائها وإحداثها شريك ولـم يعنه علـيه معين، فأنّى يكون له شريك. تَعالـى عَمّا يُشْرِكُونَ يقول جلّ ثناؤه: علا ربكم أيها القوم عن شرككم ودعواكم إلها دونه، فـارتفع عن أن يكون له مثل أو شريك أو ظهير، لأنه لا يكون إلها إلا من يخـلق وينشىء بقدرته مثل السموات والأرض ويبتدع الأجسام فـيحدثها من غير شيء، ولـيس ذلك فـي قُدرة أحد سوى الله الواحد القهّار الذي لا تنبغي العبـادة إلا له ولا تصلـح الألوهة لشيء سواه.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ومن حججه علـيكم أيضا الناس، أنه خـلق الإنسان من نطفة، فأحدث من ماء مهين خـلقا عجيبـا، قلبه تاراتٍ خـلقا بعد خـلق فـي ظلـمات ثلاث، ثم أخرجه إلـى ضياء الدنـيا بعد ما تـمّ خـلقه ونفخ فـيه الروح، فغذّاه ورزقه القوت ونـماه، حتـى إذا استوى علـى سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضرّ ولا ينفع وخاصم إلهه فقال مَنْ يُحْيِـي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيـمٌ ونسي الذي خـلقه فسوّاه خـلقا سويّا من ماء مهين. ويعنـي بـالـمبـين: أنه يبـين عن خصومته بـمنطقه ويجادل بلسانه، فذلك إبـانته. وعنى بـالإنسان: جميع الناس، أخرج بلفظ الواحد وهو فـي معنى الـجميع.


الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ومن حججه علـيكم أيها الناس ما خـلق لكم من الأنعام، فسخّرها لكم، وجعل لكم من أصوافها وأوبـارها وأشعارها ملابس تدفئون بها ومنافع من ألبـانها وظهورها تركبونها. وَمِنْها تَأْكُلُونَ يقول: ومن الأنعام ما تأكلون لـحمه كالإبل والبقر والغنـم وسائر ما يؤكل لـحمه. وحذفت «ما» من الكلام لدلالة من علـيها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16209ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قال: الـمثنى أخبرنا، وقال ابن داود: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ يقول: الثـياب.
16210ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعنـي بـالدفء: الثـياب، والـمنافع: ما ينتفعون به من الأطعمة والأشربة.
16211ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله تعالـى: لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ قال: لبـاس ينسج، ومنا مركب ولبن ولـحم.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لَكُمْ فِـيهَا دفْءٌ لبـاس ينسج ومنافع، مركب ولـحم ولبن.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
16212ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، قوله: لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافعُ قال: نسل كلّ دابة.
حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل بإسناده، عن ابن عبـاس، مثله.
16213ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافعُ يقول: لكم فـيها لبـاس ومنفعة وبلغة،
16214ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، قال: قال ابن عبـاس: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ قال: هو منافع ومآكل.
16215ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافعُ قال: دفء اللـحف التـي جعلها الله منها.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغنـي، عن مـجاهد: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ قال: نتاجها وركوبها وألبـانها ولـحومها.

الآية : 6 -7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولكم فـي هذه الأنعام والـمواشي التـي خـلقها لكم جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ يعنـي: تردّونها بـالعشيّ من مسارحها إلـى مراحها ومنازلها التـي تأوي إلـيها ولذلك سمي الـمكان الـمراح، لأنها تراح إلـيه عشيّا فتأوي إلـيه، يقال منه: أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة. وقوله: وَحِينَ تَسْرَحُونَ يقول: وفـي وقت إخراجكموها غدوة من مُراحها إلـى مسارحها، يقال منه: سَرّح فلان ماشيته يُسَرّحُها تسريحا، إذا أخرجها للرعي غدوة، وسرَحَتِ الـماشيةُ: إذا خرجت للـمرعى تَسْرَحُ سَرْحا وسُرُوحا، فـالسرح بـالغداة والإراحة بـالعشي، ومنه قوله الشاعر:
كأنّ بَقايا الأُتْنِ فَوْقَ مُتُونِهِمدَبّ الدّبَى فَوْقَ النّقا وَهْوَ سارِحُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16216ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَكُمْ فِـيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالاً أسنـمتها، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَلَكُمْ فِـيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ قال: إذا راحت كأعظم ما تكون أسنـمة، وأحسن ما تكون ضروعا.
وقوله: وَتـحْمِلُ أثقالَكُمْ إلـى بَلَدٍ لَـمْ تَكُونُوا بـالغِيهِ إلاّ بِشِقّ الأنْفُس يقول: وتـحمل هذه الأنعام أثقالكم إلـى بلد آخر لـم تكونوا بـالغِيهِ إلا بجهد من أنفسكم شديد ومشقة عظيـمة. كما:
16217ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن جابر، عن عكرمة: وَتَـحْمِلُ أثْقالَكُمْ إلـى بَلَدٍ لَـمْ تَكُونُوا بـالِغِيهِ إلاّ بِشِقّ الأنْفُسِ قال: لو تكلفونه لـم تبلغوه إلا بجهد شديد.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة: إلـى بَلَدٍ لَـمْ تَكُونُوا بـالِغيهِ إلاّ بِشِقّ الأنْفُسِ قال: لو كلفتـموه لـم تبلغوه إلا بشقّ الأنفس.
16218ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحِمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة: إلـى بَلَدٍ لَـمْ تَكُونوا بـالِغِيهِ إلاّ بِشقّ الأنْفُسِ قال: البلد: مكة.
16219ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله: إلاّ بِشِقّ الأنْفُسِ قال: مشقة علـيكم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
16220ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَتـحْمِلُ أثْقالَكُمْ إلـى بَلَدٍ لَـمْ تَكُونُوا بـالِغيهِ إلاّ بِشِقّ الأنْفُسِ يقول: بجهد الأنفس.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنـحوه.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار بكسر الشين: إلاّ بِشِقّ الأنْفُسِ سوى أبـي جعفر القارىء، فإن:
16221ـ الـمثنى حدثنـي، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد، قال: ثنـي أبو سعيد الرازي، عن أبـي جعفر قارىء الـمدينة، أنه كان يقرأ: «لَـمْ تَكُونُوا بـالِغيهِ إلاّ بِشَقّ الأنْفُسِ» بفتـح الشين، وكان يقول: إنـما الشقّ: شقّ النفس. وقال ابن أبـي حماد: وكان معاذ الهرّاء يقول: هي لغة، تقول العرب بشقّ وبشِقّ، وبرَق وبرِق.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وشذوذ ما خالفه. وقد يُنشد هذا البـيت بكسر الشين وفتـحها، وذلك قول الشاعر:
وذِي إبِلِ يَسْعَى وَيحْسِبُها لَهُأخِي نَصَبٍ مِنْ شَقّها ودُءُوبِ
و «من شِقّـيها» أيضا بـالكسر والفتـح وكذلك قول العجاج:
(أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقّا )
و «شِقّا» بـالفتـح والكسر. ويعنـي بقوله: «يوازي شَقّا»: يقاسي مشقة. وكان بعض أهل العربـية يذهب بـالفتـح إلـى الـمصدر من شققت علـيه أشقّ شقّا، وبـالكسر إلـى الاسم. وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بـالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتـى لا يبلغه إلا بعد نقصها، فـيكون معناه عند ذلك: لـم تكونوا بـالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم وذهاب شقها الاَخر. ويحكى عن العرب: خذ هذا الشّقّ: لشقة الشاة بـالكسر، فأما فـي شقت علـيك شَقّا فلـم يحك فـيه إلا نصب.
وقوله: إنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ يقول تعالـى ذكره: إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ورحمة من رحمته بكم، خـلق لكم الأنعام لـمنافعكم ومصالـحكم، وخـلق السموات والأرض أدلة لكم علـى وحدانـية ربكم ومعرفة إلهكم، لتشكروه علـى نعمة علـيكم، فـيزيدكم من فضله