تفسير الطبري تفسير الصفحة 342 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 342
343
341
 سورة الـمؤمنون مكية
وآياتها ثمانـي عشرة ومائة
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيـمِ

الآية : 1 -3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مّعْرِضُونَ }.
قال أبو جعفر: يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: قَدْ أفلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ: قد أدرك الذين صدقوا الله ورسوله مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وأقرّوا بـما جاءهم به من عند الله, وعملوا بـما دعاهم إلـيه مـما سمي فـي هذه الأيات, الـخـلودَ فـي جنّات ربهم وفـازوا بطَلِبتهم لديه. كما:
19228ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ قال: قال كعب: لـم يخـلق الله بـيده إلاّ ثلاثة: خـلق آدم بـيده, وكتب التوراة بـيده, وغرس جنة عَدْن بـيده, ثم قال لها: تكلـمي فقالت: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ لـما علـمت فـيها من الكرامة.
19229ـ حدثنا سهل بن موسى الرازيّ, قال: حدثنا يحيى بن الضريس, عن عمرو بن أبـي قـيس, عن عبد العزيز بن رفـيع, عن مـجاهد, قال: لـما غرس الله تبـارك وتعالـى الـجنة, نظر إلـيها فقال: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ.
19230ـ قال: ثنا حفص بن عمر, عن أبـي خـلدة, عن أبـي العالـية, قال: لـما خـلق الله الـجنة قال: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ فأنزل الله به قرآنا.
19231ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جبـير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: لـم يخـلق الله شيئا بـيده غير أربعة أشياء: خـلق آدم بـيده, وكتب الألواح بـيده, والتوراة بـيده, وغرس عدْنا بـيده, ثم قال: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ.
وقوله: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالـى ذكره: الذين هم فـي صلاتهم إذا قاموا فـيها خاشعون وخشوعهم فـيها تذللهم لله فـيها بطاعته, وقـيامهم فـيها بـما أمرهم بـالقـيام به فـيها. وقـيـل: إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فـيها إلـى السماء قبل نزولها, فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك. ذكر الرواية بذلك:
19232ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت خالدا, عن مـحمد بن سيرين, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّـى نظر إلـى السماء, فأنزلت هذه الاَية: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال: فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد.
19233ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة, عن أبـي جعفر, عن الـحجاج الصوّاف, عن ابن سيرين, قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم فـي الصلاة إلـى السماء حتـى نزلت: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا.
19234ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أيوب, عن مـحمد, قال: «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلـى رفع بصره إلـى السماء, فنزلت آية إن لـم تكن الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال: فطأطأ». قال: وقال مـحمد: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصْره مصّلاه, فإن كان قد استعاد رالنظر فلـيغْمِض.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, عن ابن عون, عن مـحمد نـحوه.
واختلف أهل التأويـل فـي الذي عنـي به فـي هذا الـموضع من الـخشوع, فقال بعضهم: عنـي به سكون الأطراف فـي الصلاة. ذكر من قال ذلك:
19235ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال: السكون فـيها.
19236ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهريّ: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال: سكون الـمرء فـي صلاته.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهريّ, مثله.
19237ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن الثوريّ, عن أبـي سفـيان الشيبـانـي, عن رجل, عن علـيّ, قال: سئل عن قوله: الّذِينَ فِـي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال: لا تلتفت فـي صلاتك.
19238ـ حدثنا عبد الـجبـار بن يحيى الرملـيّ, قال: قال ضَمْرة بن ربـيعة, عن أبـي شَوْذب, عن الـحسن, فـي قوله: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال: كان خشوعهم فـي قلوبهم, فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الـجَناح.
19239ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا معمر, عن إبراهيـم, فـي قوله: خاشعُونَ قال: الـخشوع فـي القلب, وقال: ساكنون.
قال: حدثنا الـحسن, قال: ثنـي خالد بن عبد الله, عن الـمسعوديّ, عن أبـي سنان, عن رجل من قومه, عن علـيّ رضي الله عنه, قال: الـخشوع فـي القلب, وأن تُلِـين للـمرء الـمسلـم كَنَفك, ولا تلتفت.
19240ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جرَيج, قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح, فـي قوله: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال: التـخشع فـي الصلاة. وقال لـي غير عطاء: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام فـي الصلاة نظر عن يـمينه ويساره ووُجاهه, حتـى نزلت: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلـى الأرض.
وقال آخرون: عنـي به الـخوف فـي هذا الـموضع. ذكر من قال ذلك:
19241ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الـحسن: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال: خائفون.
19242ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, فـي قوله: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الـحسن: خائفون. وقال قتادة: الـخشوع فـي القلب.
19243ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: الّذِينَ هُمْ فِـي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول: خائفون ساكنون.
وقد بـيّنا فـيـما مضى قبل من كتابنا أن الـخشوع التذلل والـخضوع بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وإذ كان ذلك كذلك, ولـم يكن الله تعالـى ذكره دلّ علـى أن مراده من ذلك معنى دون معنى فـي عقل ولا خبر, كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويـل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه: والذين هم فـي صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبـادته, وإذا تذلل لله فـيها العبد رؤيت ذلة خضوعه فـي سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فـيها.
وقوله: وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ يقول تعالـى ذكره: والذين هم عن البـاطل وما يكرهه الله من خـلقه معرضون.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19244ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ يقول: البـاطل.
19245ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الـحسن: عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ قال: عن الـمعاصي.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الـحسن, مثله.
19246ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغو مُعْرِضُونَ قال: النبـيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته, مـمن آمن به واتبعه وصدقه, كانوا عن اللغْوِ معرضين.

الآية : 4 -7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ }.
يقول تعالـى ذكره:والذين هم لزكاة أموالهم التـي فرضها الله علـيهم فـيها مؤدّون, وفعلهم الذي وصفوا به هو أداؤهموها. وقوله: وَالّدِينَ هُمْ لِفُرُوجهِمْ حافِظُونَ إلاّ عَلـى أزْوَاجِهِمْ يقول: والذين هم لفروج أنفسهم. وعنى بـالفروج فـي هذا الـموضع: فروج الرجال, وذلك أقبـالهم. حَافِظُونَ يحفظونها من أعمالها فـي شيء من الفروج. إلاّ عَلـى أزْوَاجِهمْ يقول: إلاّ من أزواجهم اللاتـي أحلهنّ الله للرجال بـالنكاح. أوْ ما مَلَكَتْ أيْـمَانُهُمْ يعنـي بذلك: إماءهم. و «ما» التـي فـي قوله: أوْ ما مَلَكَتْ أيْـمَانُهُمْ فـي مـحلّ خفض عطفـا علـى الأزواج. فإنّهُمْ غيرُ مَلُومِينَ يقول: فإن من لـم يحفظ فرجه عن زوجه وملك يـمينه, وحفظه عن غيره من الـخـلق, فإنه غير مُوَبّخ علـى ذلك ولا مذموم ولا هو بفعله ذلك راكب ذنبـا يلام علـيه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19247ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلاّ عَلـى أَزْوَاجِهِم أَوْ ما مَلَكَتْ أيْـمَانُهُمْ فإنّهُمْ غيرُ مَلُومِينَ يقول: رضي الله لهم إتـيانهم أزواجهم وما ملكت أيـمانهم.
وقوله: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ يقول: فمن التـمس لفرجه مَنكَحا سوى زوجته وملك يـمينه, فأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ يقول: فهم العادون حدود الله, الـمـجاوزون ما أحلّ الله لهم إلـى ما حرّم علـيهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19248ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: نهاهم الله نهيا شديدا, فقال: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ فأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ فسمى الزانـي من العادين.
19249ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ قال: الذين يتعدّون الـحلال إلـى الـحرام.
19250ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن أبـي عبد الرحمن, فـي قوله: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ فأُولَئكَ هُمُ العادُونَ قال: من زنى فهو عادٍ.

الآية : 8 -10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَالّذِينَ هُمْ لأَماناتِهمْ التـي ائتـمنوا علـيها وعهدهم, وهو عقودهم التـي عاقدوا الناس راعُونَ يقول: حافظون لا يضيعون, ولكنهم يوفون بذلك كله.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار إلا ابن كثـير: وَالّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ علـى الـجمع. وقرأ ذلك ابن كثـير: «لأَمانَتِهِم» علـى الواحدة.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: لأَماناتِهِمْ لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها.
وقوله: وَالّذِينَ هُمْ عَلـى صَلَوَاتِهمْ يُحافِظُونَ يقول: والذين هم علـى أوقات صلاتهم يحافظون, فلا يضيعونها ولا يشتغلون عنها حتـى تفوتهم, ولكنهم يراعونها حتـى يؤدّوها فـيها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19251ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي الضحى, عن مسروق: وَالّذِينَ هُمْ عَلـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ قال: علـى وقتها.
حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلـم, عن مسروق: وَالّذينَ هُمْ عَلـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافظُونَ علـى ميقاتها.
19252ـ حدثنا ابن عبد الرحمن البرقـيّ, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا يحيى بن أيوب, قال: أخبرنا ابن زَحْر, عن الأعمش, عن مسلـم بن صبـيح, قال: الّذِينَ هُمْ عَلـى صَلَوَاتِهمْ يُحافِظُونَ قال: إقام الصلاة لوقتها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: علـى صلواتهم دائمون. ذكر من قال ذلك:
19253ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم: عَلـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ قال: دائمون. قال: يعنـي بها الـمكتوبة.
وقوله: أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم فـي الدنـيا, هم الوارثون يوم القـيامة منازل أهل النار من الـجنة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, رُوي الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتأوّله أهل التأويـل. ذكر الرواية بذلك:
19254ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ وَلَهُ مَنْزِلانِ: مَنْزِلٌ فِـي الـجَنّةِ, ومَنْزِلٌ فِـي النّارِ, وَإنْ ماتَ وَدَخَـلَ النّارِ وَرِثَ أهْلُ الـجَنّةِ مَنْزِلَهُ» فذلك قوله: أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ.
19255ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, فـي قوله: أولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التـي أعدّت لهم لو أطاعوا الله.
حدثنـي ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الأعمش, عن أبـي هريرة: أولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم الذين أعدّت لهم لو أطاعوا الله.
19256ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُريَج, قال: الوارثون الـجنة أورثتـموها, والـجنة التـي نورث من عبـادنا, هن سواء. قال ابن جريج: قال مـجاهد: يرث الذي من أهل الـجنة أهله وأهل غيره, ومنزل الذين من أهل النار هم يرثون أهل النار, فلهم منزلان فـي الـجنة وأهلان. وذلك أنه منزل فـي الـجنة ومنزل فـي النار, فأما الـمؤمن فَـيْبِنى منزله الذي فـي الـجنة ويهدم منزله الذي فـي النار, وأما الكافر فـيهدم منزله الذي فـي الـجنة ويبنى منزله الذي فـي النار. قال ابن جُرَيج عن لـيث بن أبـي سلـيـم, عن مـجاهد, أنه قال مثل ذلك.

الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: الّذِينَ يَرِثُونَ البستان ذا الكَرْم, وهو الفِرْدَوْسُ عند العرب. وكان مـجاهد يقول: هو بـالرومية.
19257ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: الّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ قال: الفردوس: بستان بـالرومية.
19258ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قال: عدن حديقة فـي الـجنة قصرها فـيها عدنها خـلقها بـيده, تفتـح كل فجر فـينظر فـيها ثم يقول: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ, قال: هي الفردوس أيضا تلك الـحديقة, قال مـجاهد: غرسها الله بـيده فلـما بلغت قال: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ ثم أمر بها تغلق, فلا ينظر فـيها خـلق ولا ملك مقرّب, ثم تفتـح كل سحر فـينظر فـيها فـيقول: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنونَ ثم تغلق إلـى مثلها.
19259ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, قال: قتل حارثة بن سُراقة يوم بدر, فقالت أمه: يا رسول الله, إن كان ابنـي من أهل الـجنة لـم أبك علـيه, وإن كان من أهل النار بـالغت فـي البكاء. قال: «يا أُمّ حارِثَةَ, إنّها جَنّتانِ فِـي جَنّةٍ, وَإنّ ابْنَكِ قَدْ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَـى مِنَ الـجَنّةِ».
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19260ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, عن كعب, قال: خـلق الله بـيده جنة الفردوس, غرسها بـيده, ثم قال: تكلـمي قالت: قَدْ أفْلَـحَ الـمُؤْمِنُونَ.
19261ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن حُسام بن مِصَكّ, عن قَتادة أيضا, مثله, غير أنه قال: تكلـمي, قالت: طوبـي للـمتّقـين.
19262ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن يزيد, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي داود نفـيع, قال: لـما خـلقها الله, قال لها: تزينـي فتزينت ثم قال لها: تكلـمي فقالت: طوبـي لـمن رضيت عنه.
وقوله: هُمْ فِـيها خالِدُونَ يعنـي ماكثون فـيها, يقول: هؤلاء الذين يرثون الفردوس خالدون, يعنـي ماكثون فـيها أبدا لا يتـحوّلون عنها.

الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ خَـلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أسللناه منه, فـالسلالة هي الـمستلة من كلّ تربة ولذلك كان آدم خـلق من تربة أخذت من أديـم الأرض.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي الـمعنـيّ بـالإنسان فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عنـي به آدم. ذكر من قال ذلك:
19263ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مِنْ طِينٍ قال: استلّ آدم من الطين.
19264ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال: استلّ آدم من طين, وخُـلقت ذرّيته من ماء مهين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد خـلقنا ولد آدم, وهو الإنسان الذي ذكر فـي هذا الـموضع, من سلالة, وهي النطفة التـي استُلّت من ظهر الفحل من طين, وهو آدم الذي خُـلق من طين. ذكر من قال ذلك:
19265ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن أبـي يحيى, عن ابن عبـاس: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال: صفوة الـماء.
19266ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: مِنْ سُلالَةٍ من منـيّ آدم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: ولقد خـلقنا ابن آدم من سُلالة آدم, وهي صفة مائة وآدم هو الطين, لأنه خُـلق منه.
وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويـلـين بـالاَية, لدلالة قوله: ثُمّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِـي قَرَارٍ مَكِينٍ علـى أن ذلك كذلك لأنه معلوم أنه لـم يَصِرْ فـي قرار مكين إلاّ بعد خـلقه فـي صلب الفحل, ومن بعد تـحوّله من صلبه صار فـي قرار مكين والعرب تسمي ولد الرجل ونطفته: سلـيـله وسلالته, لأنهما مسلولان منه ومن السّلالة قول بعضهم:
حَمَلَتْ بِهِ عَضْبَ الأدِيـمِ غَضَنْفَر اسُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ
وقول الاَخر:
وَهَلْ كُنْتُ إلاّ مُهْرَةً عَرَبِـيّةً سُلالَةَ أفْرَاسٍ تَـجَلّلَها بَغْلُ
فمن قال: سلالة جمعها سلالات, وربـما جمعوها سلائل, ولـيس بـالكثـير, لأن السلائل جمع للسلـيـل ومنه قول بعضهم:
إذا أُنْتِـجَتْ مِنْها الـمَهارَى تَشابَهَ تْعَلـى القَوْدِ إلاّ بـالأُنُوفِ سَلائلُهْ
وقول الراجز:
يَقْذِفْنَ فِـي أسْلابِها بـالسّلائِل

الآية : 13 -14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ثُمّ جَعَلْناهُ نطْفَةً فِـي قَرَارٍ مَكِينٍ ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين, نطفة فـي قرار مكين, وهو حيث استقرّت فـيه نطفة الرجل من رحم الـمرأة. ووصفه بأنه مكين, لأنه مُكّن لذلك وهيىء له لـيستقرّ فـيه إلـى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا. وقوله: ثُمّ خَـلَقْنا النطْفَةَ عَلَقَةً يقول: ثم صيرنا النطفة التـي جعلناها فـي قرار مكين علقة, وهي القطعة من الدم. فَخَـلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً يقول: فَجعلنا ذلك الدم مضغة, وهي القطعة من اللـحم. وقوله: فخَـلَقْنا الـمُضْغَةَ عِظاما يقول: فجعلنا تلك الـمضغة اللـحم عظاما.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق سوى عاصم: فخَـلَقْنا الـمُضْغَةَ عِظاما علـى الـجماع, وكان عاصم وعبد الله يقرآن ذلك: «عَظْما» فِـي الـحرفـين علـى التوحيد جميعا.
والقراءة التـي نـختار فـي ذلك الـجماع, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.
وقوله: فَكَسَوْنا العِظامَ لَـحْما يقول: فألبسنا العظام لـحما. وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «ثُمّ خَـلَقْنا النطْفَةَ عَظْما وعصبـا فَكَسَوْنَاه لَـحْما». وقوله: ثُمّ أنْشأْناهُ خَـلْقا آخَرَ يقول: ثم أنشأنا هذا الإنسان خـلقا آخر. وهذه الهاء التـي فـي: أنْشَأْناهُ عائدة علـى «الإنسان» فـي قوله: وَلَقَدْ خَـلَقْنا الإنْسانَ قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والـمضغة, جعل ذلك كله كالشيء الواحد, فقـيـل: ثم أنشأنا ذلك خـلقا آخر.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ فقال بعضهم: إنشاؤه إياه خـلقا آخر: نفخه الروح فـيه, فـيصير حينئذٍ إنسانا, وكان قبل ذلك صورة. ذكر من قال ذلك:
19267ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء, عن ابن عبـاس فـي قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: نفخ الروح فـيه.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا هشيـم عن الـحجاج بن أرطأة عن عطاء, عن ابن عبـاس, بـمثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: الروح.
19268ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد الرحمن بن الأصبهانـي عن عكرمة, فـي قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: نفخ الروح فـيه.
19269ـ حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى, قالا: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سلـمة, عن داود بن أبـي هند, عن الشعبـيّ: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: نفخ فـيه الروح.
19270ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, بـمثله.
19271ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, فـي قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: نفخ فـيه الروح, فهو الـخـلق الاَخر الذي ذكر.
19272ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا يعنـي الروح تنفخ فـيه بعد الـخـلق.
19273ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: الروح الذي جعله فـيه.
وقال آخرون: إنشاؤه خـلقا آخر تصريفه إياه فـي الأحوال بعد الولادة: فـي الطفولة, والكهولة, والاغتذاء, ونبـات الشعر, والسنّ, ونـحو ذلك من أحوال الأحياء فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
19274ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنا أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ يقول: خرج من بطن أمه بعدما خـلق, فكان من بدء خـلقه الاَخر أن استهلّ, ثم كان من خـلقه دُلّ علـى ثدي أمه, ثم كان من خـلقه أن علـم كيف يبسط رجلـيه, إلـى أن قعد, إلـى أن حبـا, إلـى أن قام علـى رجلـيه, إلـى أن مشى, إلـى أن قُطِم, فعلـم كيف يشرب ويأكل من الطعام, إلـى أن بلغ الـحلـم, إلـى أن بلغ أن يتقلّب فـي البلاد.
19275ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: يقول بعضهم: هو نبـات الشعر, وبعضهم يقول: هو نفخ الروح.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر عن قَتادة, مثله.
19276ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: يقال الـخـلق الاَخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره.
وقال آخرون: بل عَنَى بإنشائه خـلقا آخر: سوّى شبـابه. ذكر من قال ذلك:
19277ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ثُمّ أنْشَأْناهُ خَـلْقا آخَرَ قال: حين استوى شبـابه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال مـجاهد: حين استوى به الشبـاب.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بذلك نفخ الروح فـيه وذلك أنه بنفخ الروح فـيه يتـحوّل خـلقا آخر إنسانا, وكان قبل ذلك بـالأحوال التـي وصفه الله أنه كان بها, من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فـيه, يتـحوّل عن تلك الـمعانـي كلها إلـى معنى الإنسانـية, كما تـحوّل أبوه آدم بنفخ الروح فـي الطينة التـي خـلق منها إنسانا وخـلقا آخر غير الطين الذي خـلق منه.
وقوله: فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه فتبـارك الله أحسن الصانعين. ذكر من قال ذلك:
19278ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن لـيث, عن مـجاهد: فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ قال: يصنعون ويصنع الله, والله خير الصانعين.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ لأن عيسى ابن مريـم كان يخـلق, فأخبر جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يخـلق أحسن مـما كان يخـلق. ذكر من قال ذلك:
19279ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, فـي قوله: فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ قال: عيسى ابن مريـم يخـلق.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول مـجاهد, لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ومنه قول زهير:
وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَـلَقْتَ وَبَعْضُ القَوْمِ يَخْـلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي
ويروى:
وَلأَنْتَ تَـخْـلُقُ ما فَريْتَ وَبَعْضُ القَوْمِ يَخْـلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي

الآية : 15 -16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خـلقا آخـل وتصيـيرناكم إنسانا سويّا ميتون وعائدون ترابـا كما كنتـم, ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفـاتا بـالـيا مبعوثون من التراب خـلقا جديدا كما بدأناكم أوّل مرّة. وإنـما قـيـل: ثُمّ إنّكُمْ بَعْدَ ذلكَ لَـمَيّتُونَ لأنه خبر عن حال لهم يحدث لـم يكن. وكذلك تقول العرب لـمن لـم يـمت: هو مائت وميت عن قلـيـل, ولا يقولون لـمن قد مات مائت, وكذلك هو طَمِع فـيـما عندك إذا وصف بـالطمع, فإذا أخبر عنه أنه سيفعل ولـم يفعل قـيـل هو طامع فـيـما عندك غدا, وكذلك ذلك فـي كلّ ما كان نظيرا لـما ذكرناه.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد خـلقنا فوقكم أيها الناس سبع سموات بعضهنّ فوق بعض والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وإنـما قـيـل للسموات السبع سبع طرائق, لأن بعضهنّ فوق بعض, فكل سماء منهنّ طريقة.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19280ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: وَلَقَدْ خَـلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ قال: الطرائق: السموات.
وقوله: وَما كُنّا عَنِ الـخَـلْقِ غافِلـينَ يقول: وما كنا فـي خـلقنا السموات السبع فوقكم عن خـلقنا الذي تـحتها غافلـين, بل كنا لهم حافظين من أن تسقط علـيهم فتهلكهم