تفسير الطبري تفسير الصفحة 367 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 367
368
366
 سورة الشعراء مكية
وآياتها سبع وعشرون ومائتان
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1 - 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{طسَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـيـما فـي ابتداء فواتـح سور القرآن من حروف الهجاء, وما انتزع به كلّ قائل منهم لقوله ومذهبه من العلة. وقد بـيّنا الذي هو أولـى بـالصواب من القول فـيه فـيـما مضى من كتابنا هذا بـما أغنى عن إعادته, وقد ذكر عنهم من الاختلاف فـي قوله: طسم وطس, نظير الذي ذكر عنهم فـي: آلـم والـمر والـمص. وقد:
20186ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله طسم قال: فإنه قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.
20187ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله طسم قال: اسم من أسماء القرآن.
فتأويـل الكلام علـى قول ابن عبـاس والـجميع: إن هذه الاَيات التـي أنزلتها علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي هذه السورة لاَيات الكتاب الذي أنزلته إلـيه من قبلها الذي بـين لـمن تدبره بفهم, وفكّر فـيه بعقل, أنه من عند الله جلّ جلاله, لـم يتـخرّصه مـحمد صلى الله عليه وسلم, ولـم يتقوّله من عنده, بل أوحاه إلـيه ربه.
وقوله: لَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ أنْ لا يكُونُوا مُؤْمِنِـينَ يقول تعالـى ذكره: لعلك يا مـحمد قاتل نفسك ومهلكها إن لـم يؤمن قومك بك, ويصدقوك علـى ما جئتهم به. والبخْع: هو القتل والإهلاك فـي كلام العرب ومنه قول ذي الرّمة:
ألا أيّهَذَا البـاخعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُلشَيْءٍ نَـحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الـمَقادِرُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20188ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: بـاخِعٌ نَفْسَك: قاتل نفسك.
20189ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله لَعَلّكَ بـاخعٌ نَفْسَكَ أنْ لا يكُونُوا مُؤْمِنِـينَ قال: لعلك من الـحرص علـى إيـمانهم مخرج نفسك من جسدك, قال: ذلك البخع.
20190ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله لَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ علـيهم حرصا, وأنْ من قوله: أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنـينَ فـي موضع نصب ببـاخع, كما يقال: زرت عبد الله أن زارنـي, وهو جزاء ولو كان الفعل الذي بعد أنْ مستقبلاً لكان وجه الكلام فـي «أن» الكسر كما يقال أزور عبد الله إن يزورنـي.

الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ... الاَية, فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنزل علـيهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلّة. ذكر من قال ذلك:
20191ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد فـي قوله: فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعينَ قال: فظلوا خاضعة أعناقهم لها.
20192ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله خاضِعِينَ قال: لو شاء الله لنزّل علـيه آية يذلون بها, فلا يَـلْوِي أحد عنقه إلـى معصية الله.
20193ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِـينَ إنْ نَشأْ نُنَزّلْ عَلَـيْهِمْ مِنَ السّماءِ آيَةً قال: لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بـمعصية.
20194ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال: ملقـين أعناقهم.
20195ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال: الـخاضع: الذلـيـل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للاَية خاضعين, ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس.
واختلف أهل العربـية فـي وجه تذكير خاضعين, وهو خبر عن الأعناق, فقال بعض نـحويّـي البصرة: يزعمون أن قوله أعْناقُهُمْ علـى الـجماعات, نـحو: هذا عنق من الناس كثـير, أو ذُكّركما يذكّر بعض الـمؤنث, كما قال الشاعر:
تَـمَزّزْتها والدّيكُ يَدْعُو صَبـاحَهُإذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوّبُوا
فجماعات هذا أعناق, أو يكون ذكره لإضافته إلـى الـمذكر كما يؤنث لإضافته إلـى الـمؤنث, كما قال الأعشى:
ونَشْرَقُ بـالقَوْل الّذي قَدْ أذَعْتَهكمَا شَرقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدّم
وقال العجاج:
لَـمّا رأى مَتْنَ السّماء أبْعَدَتْ وقال الفرزدق:
إذَا الْقُنْبُضَات السّود طَوّفْنَ بـالضحىرَقَدْنَ عَلَـيْهِنّ الـحِجالُ الـمَسَجّفُ
وقال الأعشى:
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَـيْكِ وَدُونَهُمِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَـيْدَاءُ خَيْفَقُ
لَـمَـحْقُوقَةٌ أن تَسْتَـجِيبِـي لِصَوْتِهِوأنْ تَعْلَـمِي أنّ الـمُعانَ الـمُوَفّقُ
قال: ويقولون: بنات نعش وبنو نعش, ويقال: بنات عِرس, وبنو عِرس وقالت امرأة: أنا امرؤ لا أخبر السرّ, قال: وذكر لرؤبة رجل فقال: هو كان أحد بنات مساجد الله, يعنـي الـحَصَى. وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: هذا بـمنزلة قول الشاعر:
تَرَى أرْماحَهُمْ مُتَقَلدِيهاإذَا صَدِىءَ الـحَدِيدُ علـى الكُماةِ
فمعناه عنده: فظلت أعناقهم خاضعيها هم, كما يقال: يدك بـاسطها, بـمعنى: يدك بـاسطها أنت, فـاكتفـى بـما ابتدأ به من الاسم أن يكون, فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثانـي, وكذلك قوله: لـمـحقوقة أن تستـجيبـي لصوته إنـما هو لـمـحقوقة أنت, والـمـحقوقة: الناقة, إلا أنه عطفه علـى الـمرء لـما عاد بـالذكر. وكان آخر منهم يقول: الأعناق: الطوائف, كما يقال: رأيت الناس إلـى فلان عنقا واحدة, فـيجعل الأعناق الطوائف والعُصَب ويقول: يحتـمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء, فـيكون كأنه قـيـل: فظلت رؤوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين, وقال: أحبّ إلـيّ من هذين الوجهين فـي العربـية أن يقال: إن الأعناق إذا خضعت فأربـابها خاضعون, فجعلْت الفعل أوّلاً للأعناق, ثم جَعَلْتَ خاضعين للرجال, كما قال الشاعر:
عَلـى قَبْضَة مَرْجُوّة ظَهْرُ كَفّهِفَلا الـمَرْءُ مُسْتَـحْيٍ وَلا هُوَ طاعِمُ
فأنث فعل الظهر, لأن الكفّ تـجمع الظهر, وتكفـي منه, كما أنك تكتفـي بأن تقول: خضعت لك, من أن تقول: خَضَعَتْ لك رقبتـي, وقال: ألا ترى أن العرب تقول: كل ذي عين ناظر وناظرة إلـيك, لأن قولك: نظرتْ إلـيك عينـي, ونظرتُ إلـيك بـمعنى واحد بترك كل, وله الفعل وبرده إلـى العين, فلو قلت: فظلت أعناقهم لها خاضعة, كان صوابـا.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب وأشبهها بـما قال أهل التأويـل فـي ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال, وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذلـيـلة, للاَية التـي ينزلها الله علـيهم من السماء, وأن يكون قوله «خاضعين» مذكرا, لأنه خبر عن الهاء والـميـم فـي الأعناق, فـيكون ذلك نظير قول جرير:
أرَى مَرّ السّنِـينَ أخَذْنَ مِنّـيكمَا أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
وذلك أن قوله: مرّ, لو أسقط من الكلام, لأدى ما بقـي من الكلام عنه ولـم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه, وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله: فظلت أعناقهم, لأدى ما بقـي من الكلام عنها, وذلك أن الرجال إذا ذلّوا, فقد ذلت رقابهم, وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا.
فإن قـيـل فـي الكلام: فظلوا لها خاضعين, كان الكلام غير فـاسد, لسقوط الأعناق, ولا متغير معناه عما كان علـيه قبل سقوطها, فصرف الـخبر بـالـخضوع إلـى أصحاب الأعناق, وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لـما قد جرى به استعمال العرب فـي كلامهم, إذا كان الاسم الـمبتدأ به, وما أضيف إلـيه يؤدّي الـخبر كلّ واحد منهما عن الاَخر.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرّحْمَـَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وما يجيء هؤلاء الـمشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتـيتهم به يا مـحمد من عند ربك من تذكير وتنبـيه علـى مواضع حجج الله علـيهم علـى صدقك, وحقـيقة ما تدعوهم إلـيه مـما يحدثه الله إلـيك ويوحيه إلـيك, لتذكرهم به, إلا أعرضوا عن استـماعه, وتركوا إعمال الفكر فـيه وتدبره
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَقَدْ كَذّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فقد كذّب يا مـحمد هؤلاء الـمشركون بـالذكر الذي أتاهم من عند الله, وأعرضوا عنه فَسَيَأْتِـيهِمْ أنْبـاءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول: فسيأتـيهم أخبـار الأمر الذي كانوا يسخرون, وذلك وعيد من الله لهم أنه مـحلّ بهم عقابه علـى تـماديهم فـي كفرهم, وتـمرّدهم علـى ربهم.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }.
يقول تعالـى ذكره: أَوَ لـم ير هؤلاء الـمشركون الـمكذّبون بـالبعث والنشر إلـى الأرض, كم أنبتنا فـيها بعد أن كانت ميتة لا نبـات فـيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيـمٍ يعنـي بـالكريـم: الـحسن, كما يقال للنـخـلة الطيبة الـحمل: كريـمة, وكما يقال للشاة أو الناقة إذا غزرتا, فكثرت ألبـانهما: ناقة كريـمة, وشاة كريـمة. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20196ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: ثنـي أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: أنْبَتْنا فِـيها منْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيـمٍ قال: من نبـات الأرض, مـما تأكل الناس والأنعام.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
20197ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله مِنْ كُلّ زَوْج كَرِيـمٍ قال: حسن.
الآية : 8 - 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره: إن فـي إنبـاتنا فـي الأرض من كلّ زوج كريـم لاَية. يقول: لدلالة لهؤلاء الـمشركين الـمكذّبـين بـالبعث, علـى حقـيقته, وأن القدرة التـي بها أنبت الله فـي الأرض ذلك النبـات بعد جُدُوبها, لن يُعجزه أن يُنْشِر بها الأموات بعد مـماتهم, أحياء من قبورهم. وقوله: وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِـينَ يقول: وما كان أكثر هؤلاء الـمكذّبـين بـالبعث, الـجاحدين نبوّتك يا مـحمد, بـمصدقـيك علـى ما تأتـيهم به من عند الله من الذكر. يقول جلّ ثناؤه: وقد سبق فـي عملـي أنهم لا يؤمنون, فلا يؤمن بك أكثرهم للسابق من علـمي فـيهم. وقوله: وَإنّ رَبّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرّحِيـمُ يقول: وإن ربك يا مـحمد لهو العزيز فـي نقمته, لا يـمتنع علـيه أحد أراد الانتقام منه. يقول تعالـى ذكره: وإنـي إن أحللت بهؤلاء الـمكذّبـين بك يا مـحمد, الـمعرِضين عما يأتـيهم من ذكر من عندي, عقوبتـي بتكذيبهم إياك, فلن يـمنعهم منـي مانع, لأنـي أنا العزيز الرحيـم, يعنـي أنه ذو الرحمة بـمن تاب من خـلقه من كفره ومعصيته, أن يعاقبه علـى ما سلف من جُرْمه بعد توبته. وكان ابن جُرَيج يقول فـي معنى ذلك, ما:
20198ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي الـحجاج, عن ابن جُرَيج قال: كلّ شيء فـي الشعراء من قوله «عَزِيزٌ رَحِيـمٌ» فهو ما أهلك مـمن مضى من الأمـم, يقول عزيز, حين انتقم من أعدائه, رحيـم بـالـمؤمنـين, حين أنـجاهم مـما أهلك به أعداءه.
قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك فـي هذا الـموضع, لأن قوله: وَإنّ رَبّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرّحِيـمُ عقـيب وعيد الله قوما من أهل الشرك والتكذيب بـالبعث, لـم يكونوا أهلكوا, فـيوجه إلـى أنه خبر من الله عن فعله بهم وإهلاكه. ولعلّ ابن جُرَيج بقوله هذا أراد ما كان من ذلك عقـيب خبر الله عن إهلاكه من أهلك من الأمـم, وذلك إن شاء الله إذا كان عقـيب خبرهم كذلك.

الآية : 10 - 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ نَادَىَ رَبّكَ مُوسَىَ أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتّقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: واذكر يا مـحمد إذ نادى ربك موسى بن عمران أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِـمِينَ يعنـي الكافرين قوم فرعون, ونصب القوم الثانـي ترجمة عن القوم الأوّل, وقوله ألا يَتّقُونَ يقول: ألا يتقون عقاب الله علـى كفرهم به. ومعنى الكلام: قوم فرعون فقل لهم: ألا يتقون. وترك إظهار فقل لهم لدلالة الكلام علـيه. وإنـما قـيـل: ألا يتقون بـالـياء, ولـم يقل ألا تتقون بـالتاء, لأن التنزيـل كان قبل الـخطاب, ولو جاءت القراءة فـيها بـالتاء كان صوابـا, كما قـيـل: قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سيُغلبونَ و«ستُغلبونَ».

الآية : 12 - 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ }.
يقول تعالـى ذكره: قالَ موسى لربه رَبّ إنّـي أخافُ من قوم فرعون الذين أمرتنـي أن آتـيهم أنْ يُكَذّبُونِ بقـيـلـي لهم: إنك أرسلتنـي إلـيهم وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم إياي إن كّذبونـي. ورفع قوله: وَيَضيقُ صَدْرِي عطفـا به علـى أخاف, وبـالرفع فـيه قرأته عامة قرّاء الأمصار, ومعناه: وإنـي يضيق صدري. وقوله: وَلا يَنْطَلقُ لسانِـي يقول: ولا ينطلق بـالعبـارة عما ترسلنـي به إلـيهم, للعلة التـي كانت بلسانه. وقوله: وَلا يَنْطَلق لِسانِـي كلام معطوف به علـى يضيق.) وقوله: فأَرْسِلْ إلـى هارُونَ يعنـي هارون أخاه, ولـم يقل: فأرسل إلـيّ هارون لـيؤازرنـي ولـيعيننـي, إذ كان مفهوما معنى الكلام, وذلك كقول القائل: لو نزلت نازلة لفزعنا إلـيك, بـمعنى: لفزعنا إلـيك لعتـيننا.) وقوله: ولَهُمْ عَلـيّ ذَنْبٌ يقول: ولقوم فرعون علـيّ دعوى ذنب أذنبت إلـيهم, وذلك قتله النفس التـي قتلها منهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل.) ذكر من قال ذلك:
20199ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ولَهُمْ عَلـيّ ذَنْبٌ فأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ قال: قتل النفس التـي قتل منهم.
حدثنا القاسم, قال: ثنـي الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قال: قتْل موسى النفس.
20200ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة, قوله وَلهُمْ عَلـيّ ذَنْبٌ قال: قتل النفس. وقوله: فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ يقول: فأخاف أن يقتلونـي قودا بـالنفس التـي قتلت منهم.

الآية : 15 - 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا مَعَكُمْ مّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولآ إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ }.
يقول تعالـى ذكره: كَلاّ: أي لن يقتلك قوم فرعون فـاذْهَبـا بآياتِنا يقول: فـاذهب أنت وأخوك بآياتنا, يعنـي بأعلامنا وحججنا التـي أعطيناك علـيهم. وقوله: إنّا مَعَكُمْ مُسْتَـمعُون من قوم فرعون ما يقولون لكم, ويجيبونكم به. وقوله: فَأْتِـيا فِرْعَوْنَ فَقُولا... الاَية, يقول: فأت أنت يا موسى وأخوك هارون فرعون فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبّ العالَـمينَ إلـيك بأنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِـي إسْرائِيـلَ وقال رسول ربّ العالـمين, وهو يخاطب اثنـين بقوله فقولا, لأنه أراد به الـمصدر من أرسلت, يقال: أرسلت رسالة ورسولاً, كما قال الشاعر:
لقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِندَهمْ بِسُوءٍ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُول
يعنـي برسالة, وقال الاَخر:
ألا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّـي خُفـافـا رَسُولاً بَـيْتُ أَهْلِكَ مُنْتَهاها
يعنـي بقوله: رسولاً: رسالة, فأنث لذلك الهاء.

الآية : 18 - 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }.
وفـي هذا الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة ما ظهر علـيه منه, وهو: فأتـيا فرعون فأبلغاه رسالة ربهما إلـيه, فقال فرعون: ألـم نر بك فـينا يا موسى ولـيدا, ولبثت فـينا من عمرك سنـين؟ وذلك مكثه عنده قبل قتل القتـيـل الذي قتله من القبط, (وفعلت فعلتك التـي فعلت) يعنـي: قتله النفس التـي قتل من القبط. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20201ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَفَعَلْتَ فعْلَتَكَ التـي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ قال فعلتها إذا وأنا من الضالـين. قال: قتل النفس.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وإنـما قـيـل وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ لأنها مرّة واحدة, ولا يجوز كسر الفـاء إذا أريد بها هذا الـمعنى. وذُكر عن الشعبـي أنه قرأ ذلك: «وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ» بكسر الفـاء, وهي قراءة لقرّاءة القرّاء من أهل الأمصار مخالفة.
وقوله: وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنت من الكافرين بـالله علـى ديننا. ذكر من قال ذلك:
20202ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التـي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ يعنـي علـى ديننا هذا الذي تعيب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت من الكافرين نعمتنا علـيك. ذكر من قال ذلك:
20203ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التـي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ قال: ربـيناك فـينا ولـيدا, فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسا, وكفرت نعمتنا
20204ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ يقول: كافرا للنعمة لأن فرعون لـم يكن يعلـم ما الكفر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد أشبه بتأويـل الاَية, لأن فرعون لـم يكن مقرّا لله بـالربوبـية وإنـما كان يزعم أنه هو الربّ, فغير جائز أن يقول لـموسى إن كان موسى كان عنده علـى دينه يوم قتل القتـيـل علـى ما قاله السديّ: فعلت الفعلة وأنت من الكافرين, الإيـمان عنده: هو دينه الذي كان علـيه موسى عنده, إلا أن يقول قائل: إنـما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى, علـى قولك الـيوم, فـيكون ذلك وجها يتوجه. فتأويـل الكلام إذن: وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا علـيك, وإحساننا إلـيك فـي قتلك إياه. وقد قـيـل: معنى ذلك: وأنت الاَن من الكافرين لنعمتـي علـيك, وتربـيتـي إياك