تفسير الطبري تفسير الصفحة 415 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 415
416
414
 سورة السجدة مكية
وآياتها ثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1 -3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الَـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
قال أبو حعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل قوله الـم بـما فـيه الكفـاية. وقوله: تَنزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ يقول تعالـى ذكره: تنزيـل الكتاب الذي نزّل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم, لا شكّ فـيه من ربّ العالـمين: يقول: من ربّ الثقلـين: الـجنّ, والإنس. كما:
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: الـم تَنْزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ لا شكّ فـيه. وإنـما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أُنزل علـى مـحمد لا شكّ فـيه أنه من عند الله, ولـيس بشعر ولا سجع كاهن, ولا هو مـما تـخرّصه مـحمد صلى الله عليه وسلم, وإنـما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين قالُوا أساطِيرُ الأوّلِـينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُـمْلَـى عَلَـيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً وقول الذين قالوا: إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.
وقوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ يقول تعالـى ذكره: يقول الـمشركون بـالله: اختلق هذا الكتاب مـحمد من قِبل نفسه, وتكذّبه و «أم» هذه تقرير, وقد بـيّنا فـي غير موضع من كتابنا, أن العرب إذا اعترضت بـالاستفهام فـي أضعاف كلام قد تقدّم بعضه أن يستفهم بأم. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك: ويقولون. وقال: أم بـمعنى الواو, بـمعنى بل فـي مثل هذا الـموضع, ثم أكذبهم تعالـى ذكره فقال: ما هو كما تزعمون وتقولون من أن مـحمدا افتراه, بل هو الـحقّ والصدق من عند ربك يا مـحمد, أنزله إلـيك, لتنذر قوما بأس الله وسطوته, أن يحلّ بهم علـى كفرهم به ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ منْ قَبْلكَ يقول: لـم يأت هؤلاء القوم الذين أرسلك ربك يا مـحمد إلـيهم, وهم قومه من قريش, نذير ينذرهم بأس الله علـى كفرهم قبلك. وقوله: لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ يقول: لـيتبّـينوا سبـيـل الـحقّ فـيعرفوه ويؤمنوا به. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21465ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة لِتُنْذِرَ قَوْما ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ قال: كانوا أمّة أُمّيّة, لـم يأتهم نذير قبل مـحمد صلى الله عليه وسلم.

الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: الـمعبود الذي لا تصلـح العبـادة إلاّ له أيها الناس الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَـيْنَهُما من خـلق فِـي سِتّةِ أيّامٍ ثم استوى علـى عرشه فـي الـيوم السابع بعد خـلقه السموات والأرض وما بـينهما. كما:
21466ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة اللّهُ الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَـيْنَهُما فِـي سِتّةِ أيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلـى العَرْشِ فـي الـيوم السابع. يقول: مالكم أيها الناس إله إلاّ من فعل هذا الفعل, وخـلَق هذا الـخَـلْق العجيب فـي ستة أيام.
وقوله: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلـيّ وَلا شَفِـيعٍ يقول: ما لكم أيها الناس دونه ولـيّ يـلـي أمركم وينصركم منه إن أراد بكم ضرّا, ولا شفـيع يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم علـى معصيتكم إياه, يقول: فإياه فـاتـخذوا ولـيا, وبه وبطاعته فـاستعينوا علـى أموركم فإنه يـمنعكم إذا أراد منعكم مـمن أرادكم بسوء, ولا يقدر أحد علـى دفعه عما أراد بكم هو, لأنه لا يقهره قاهر, ولا يغلبه غالب أفَلا تَتَذَكّرُونَ يقول تعالـى ذكره: أفلا تعتبرون وتتفكّرون أيها الناس, فتعلـموا أنه لـيس لكم دونه ولـيّ ولا شفـيع, فتفردوا له الألوهة, وتـخـلصوا له العبـادة, وتـخـلعوا ما دونه من الأنداد والاَلهة.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ }.
يقول تعالـى ذكره: الله هو الذي يدبر الأمر من أمر خـلقه من السماء إلـى الأرض, ثم يعرُج إلـيه.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ فقال بعضهم: معناه: أن الأمر ينزل من السماء إلـى الأرض, ويصعد من الأرض إلـى السماء فـي يوم واحد, وقدر ذلك ألف سنة مـما تعدّون من أيام الدنـيا, لأن ما بـين الأرض إلـى السماء خمس مئة عام, وما بـين السماء إلـى الأرض مثل ذلك, فذلك ألف سنة. ذكر من قال ذلك:
21467ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن معروف, عن لـيث, عن مـجاهد فِـي يَوْمٍ كان مقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ يعنـي بذلك نزول الأمر من السماء إلـى الأرض, ومن الأرض إلـى السماء فـي يوم واحد, وذلك مقداره ألف سنة, لأن ما بـين السماء إلـى الأرض مسيرة خمس مئة عام.
21468ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة يُدَبّرُ الأَمْرَ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْض ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ من أيامكم كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سنة مِـمّا تَعُدّونَ يقول: مقدار مسيره فـي ذلك الـيوم ألف سنة مـما تعدّون من أيامكم من أيام الدنـيا خمس مئة سنة نزوله, وخمس مئة صعوده فذلك ألف سنة.
21469ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن جُوَيبر, عن الضحاك ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: تعرج الـملائكة إلـى السماء, ثم تنزل فـي يوم من أيامكم هذه, وهو مسيرة ألف سنة.
21470ـ قال: ثنا أبـي, عن سفـيان, عن سماك, عن عكرمة ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: من أيام الدنـيا.
21471ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبـي الـحارث, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قوله: يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ من أيامكم هذه, مسيرة ما بـين السماء إلـى الأرض خمس مئة عام.
وذكر عن عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قال: تنـحدر الأمور وتصعد من السماء إلـى الأرض فـي يوم واحد, مقداره ألف سنة, خمس مئة حتـى ينزل, وخمس مئة حتـى يعرُج.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض, ثم يعرج إلـيه فـي يوم من الأيام الستة التـي خـلق الله فـيهنّ الـخـلق, كان مقدار ذلك الـيوم ألف سنة مـما تعدّون من أيامكم. ذكر من قال ذلك:
21472ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: ذلك مقدار الـمسير قوله كألف سنة مـما تعدّون, قال: خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام, وكلّ يوم من هذه كألف سنة مـما تعدّون أنتـم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدونَ قال: الستة الأيام التـي خـلق الله فـيها السموات والأرض.
21473ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدونَ يعنـي هذا الـيوم من الأيام الستة التـي خـلق الله فـيهنّ السموات والأرض وما بـينهما.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض بـالـملائكة, ثم تعرج إلـيه الـملائكة, فـي يَوْمٍ كان مقداره ألف سنة من أيام الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
21474ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ قال: هذا فـي الدنـيا تعرج الـملائكة إلـيه فـي يوم كان مقداره ألف سنة.
21475ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن شعبة, عن سماك, عن عكرمة فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ قال: ما بـين السماء والأرض مسيرة ألف سنة مـما تعدّون من أيام الاَخرة.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, عن عكرمة أنه قال فـي هذه الاَية: يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: ما بـين السماء والأرض مسيرة ألف سنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض فـي يوم كان مقدار ذلك التدبـير ألف سنة مـما تعدّون من أيام الدنـيا, ثم يعرج إلـيه ذلك التدبـير الذي دبره. ذكر من قال ذلك:
21476ـ ذُكر عن حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, أنه قال: يقضي أمر كل شيء ألف سنة إلـى الـملائكة ثم كذلك حتـى تـمضي ألف سنة, ثم يقضي أمر كل شيء ألفـا, ثم كذلك أبدا, قال: يوم كان مقداره, قال: الـيوم أن يقال لـما يقضي إلـى الـملائكة ألف سنة, كن فـيكون, ولكن سماه يوما. سماه كما بـيّنا كل ذلك عن مـجاهد, قال: وقوله: إنّ يَوْما عِنْدَ رَبّك كألْفِ سَنَةِ مِـمّا تَعُدّون قال: هو هوسواء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض, ثم يعرج إلـى الله فـي يوم كان مقداره ألف سنة, مقدار العروج ألف سنة مـما تعدّون. ذكر من قال ذلك:
21477ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةِ مِـمّا تَعُدّونَ قال بعض أهل العلـم: مقدار ما بـين الأرض حين يعرج إلـيه إلـى أن يبلغ عروجه ألف سنة, هذا مقدار ذلك الـمعراج فـي ذلك الـيوم حين يعرج فـيه.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: معناه: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض, ثم يعرج إلـيه فـي يوم, كام مقدار ذلك الـيوم فـي عروج ذلك الأمر إلـيه, ونزوله إلـى الأرض ألف سنة مـما تعدون من أيامكم خمس مئة فـي النزول, وخمس مئة فـي الصعود, لأن ذلك أظهر معانـيه, وأشبهها بظاهر التنزيـل.
الآية : 6 -8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ * الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: هذا الذي يفعل ما وصفت لكم فـي هذه الاَيات, هو عالـم الغيب, يعنـي عالـم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس, فلا تبصرونه مـما تكنه الصدور, وتـخفـيه النفوس, وما لـم يكن بعد مـما هو كائن, والشهادة: يعنـي ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود العَزِيزُ يقول: الشديد فـي انتقامه مـمن كفر به وأشرك معه غيره, وكذّب رسله الرّحِيـمُ بـمن تاب من ضلالته, ورجع إلـى الإيـمان به وبرسوله, والعمل بطاعته, أن يعذّبه بعد التوبة.
وقوله: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعض قراء مكة والـمدينة والبصرة: «أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ» بسكون اللام. وقرأه بعض الـمدنـيـين وعامة الكوفـيـين: أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ بفتـح اللام.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء صحيحتا الـمعنى, وذلك أن الله أحكم خـلقه, وأحكم كل شيء خـلَقه, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معناه: أتقن كلّ شيء وأحكمه. ذكر من قال ذلك:
21478ـ حدثنـي العبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا الـحسين بن إبراهيـم إشكاب, قال: حدثنا شريك, عن خَصيف عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قوله: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أما إن است القرد لـيست بحسنة, ولكن أحكم خـلقها.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو النضر, قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدّب, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, أنه كان يقرؤها: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أما إن است القرد لـيست بحسنة, ولكنه أحكمها.
21479ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أتقن كلّ شيء خـلقه.
21480ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, قال: حدثنا إسرائيـل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ: أحصى كلّ شيء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حسن خـلق كل شيء. ذكر من قال ذلك:
21481ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ حسن علـى نـحو ما خـلق.
21482ـ وذُكر عن الـحجاج, عن ابن جُرَيج, عن الأعرج, عن مـجاهد قال: هو مثل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثم هَدَى قال: فلـم يجعل خـلق البهائم فـي خـلق الناس, ولا خـلق الناس فـي خـلق البهائم ولكن خـلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلـم كل شيء خـلقه, كأنهم وجهوا تأويـل الكلام إلـى أنه ألهم خـلقه ما يحتاجون إلـيه, وأن قوله أحْسَنَ إنـما هو من قول القائل: فلان يحسن كذا إذا كان يعلـمه. ذكر من قال ذلك:
21483ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن شريك, عن خصيف, عن مـجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أعطى كلّ شيء خـلقه, قال: الإنسان إلـى الإنسان, والفرس للفرس, والـحمار للـحمار. وعلـى هذا القول, الـخَـلْق والكلّ منصوبـان بوقوع أحسن علـيهما.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب علـى قراءة من قرأه الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ بفتـح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن, لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلاّ أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التـحسين الذي هو فـي معنى الـجمال والـحُسن فلـما كان فـي خـلقه ما لا يشكّ فـي قُبحه وسماجته, علـم أنه لـم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خـلق, ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وأما علـى القراءة الأخرى التـي هي بتسكين اللام, فإن أولـى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك أعلـم وألهم كلّ شيء خـلقه, هو أحسنهم, كما قال الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى لأن ذلك أظهر معانـيه. وأما الذي وجه تأويـل ذلك إلـى أنه بـمعنى: الذي أحسن خـلق كلّ شيء, فإنه جعل الـخـلق نصبـا بـمعنى التفسير, كأنه قال: الذي أحسن كلّ شيء خـلقا منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من الـمقدّم الذي معناه التأخير, ويوجهه إلـى أنه نظير قول الشاعر:
وَظَعْنِـي إلَـيْك اللّـيْـل حِضْنَـيْهِ أنّنِـيلِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ
يعنـي: وظعنـي حضنـي اللـيـل إلـيك ونظير قول الاَخر:
كأنّ هِنْدا ثَناياها وبَهْجَتَهايَوْمَ الْتَقَـيْنا عَلـى أدْحالِ دَبّـاب
أي كأن ثنايا هند وبهجتها.
وقوله: وَبَدأَ خَـلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ يقول تعالـى ذكره: وبدأ خـلق آدم من طين ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعنـي ذرّيته من سلالة, يقول: من الـماء الذي انسلّ فخرج منه. وإنـما يعنـي من إراقة من مائه, كما قال الشاعر:
فجاءتْ بهِ عَضْبَ الأدِيـمِ غَضَنْفَراسُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ
وقوله: مِنْ ماءٍ مَهينٍ يقول: من نطفة ضعيفة رقـيقة. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21484ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَبَدأَ خَـلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ وهو خـلق آدم, ثم جعل نسله: أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين, والسلالة: هي الـماء الـمهين الضعيف.
21485ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن أبـي يحيى الأعرج, عن ابن عبـاس, فـي قوله مِنْ سُلالَةِ قال: صفو الـماء.
21486ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قال: ضعيف نطفة الرجل, ومهين: فعيـل من قول القائل: مهن فلان, وذلك إذا زلّ وضعف.

الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم سوّى الإنسان الذي بدأ خـلقه من طين خـلقا سويا معتدلاً, ونَفَخَ فِـيهِ مِنْ رُوحِهِ فصار حيا ناطقا وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ, قَلِـيلاً ما تشْكُرُونَ يقول: وأنعم علـيكم أيها الناس ربكم بأن أعطاكم السمع تسمعون به الأصوات, والأبصار تبصرون بها الأشخاص والأفئدة, تعقلون بها الـخير من السوء, لتشكروه علـى ما وهب لكم من ذلك. وقوله: قَلِـيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول: وأنتـم تشكرون قلـيلاً من الشكر ربكم علـى ما أنعم علـيكم.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقال الـمشركون بـالله, الـمكذّبون بـالبعث: أئِذَا ضَلَلْنا فـي الأرْض أي صارت لـحومنا وعظامنا ترابـا فـي الأرض وفـيها لغتان: ضَلَلْنا, وضَلِلْنا, بفتـح اللام وكسرها والقراءة علـى فتـحها, وهي الـجوداء, وبها نقرأ. وذكر عن الـحسن أنه كان يقرأ: «أئِذَا صَلَلْنا» بـالصاد, بـمعنى: أنتنا, من قولهم: صلّ اللـحم وأصلّ: إذا أنتن. وإنـما عنى هؤلاء الـمشركون بقولهم: أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ أي إذا هلكت أجسادنا فـي الأرض, لأن كلّ شيء غلب علـيه غيره حتـى خفـي فـيـما غلب, فإنه قد ضلّ فـيه, تقول العرب: قد ضلّ الـماء فـي اللبن: إذا غلب علـيه حتـى لا يتبـين فـيه ومنه قول الأخطل لـجرير:
كُنْتَ القَذَى فـي مَوْج أكْدَرَ مُزْبدٍقَذَفَ الأَتِـيّ به فَضَلّ ضَلالاَ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21487ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن لـيث, عن مـجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ يقول: أئذا هلكنا.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ هلكنا.
21488ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد: قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ يقول: أئذا كنا عظاما ورفـاتا أنبعث خـلقا جديدا؟ يكفرون بـالبعث.
21489ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, وَقالُوا أئِذَا ضلَلْنا فـي الأرْض أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: قالوا: أئذا كنا عظاما ورفـاتا أئنا لـمبعوثون خـلقا جديدا؟.
وقوله: بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبّهِمْ كافِرُونَ يقول تعالـى ذكره: ما بهؤلاء الـمشركين جحود قدرة الله علـى ما يشاء, بل هم بلقاء ربهم كافرون, حذرا لعقابه, وخوف مـجازاته إياهم علـى معصيتهم إياه, فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم فـي الـمعاد.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـالله: يتوفـاكم ملك الـموت, يقول: يستوفـي عددكم بقبض أرواحكم ملك الـموت الذي وكل بقبض أرواحكم ومنه قول الراجز:
إنّ بَنِـي الأَدْرَمِ لَـيْسُوا مِنْ أحَدْوَلا تَوَفّـاهُمْ قُرَيْشٌ فِـي العَدَدْ
ثُمّ إلـى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ يقول: من بعد قبض ملك الـموت أرواحكم إلـى ربكم يوم القـيامة تردّون أحياء كهيئتكم قبل وفـاتكم, فـيجازى الـمـحسن منكم بإحسانه, والـمُسيء بإساءته.
21490ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة قُلْ يَتَوَفّـاكُمْ مَلَكُ الـمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ قال: ملك الـموت يتوفـاكم, ومعه أعوان من الـملائكة.
21491ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله يَتَوَفّـاكُمْ مَلَكُ الـمَوْتِ قال: حُوِيَت له الأرض, فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد, بنـحوه