تفسير الطبري تفسير الصفحة 418 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 418
419
417
 سورة الأحزاب مدنـيّة
وآياتها ثلاث وسبعون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1 -2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَـيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا أيّها النّبِـيّ اتّق اللّهَ بطاعته, وأداء فرائضه, وواجب حقوقه علـيك, والانتهاء عن مـحارمه, وانتهاك حدوده وَلا تُطِع الكافِرِينَ الذين يقولون لك: اطرد عنك أتبـاعك من ضعفـاء الـمؤمنـين بك حتـى نـجالسك وَالـمُنافِقِـينَ الذين يظهرون لك الإيـمان بـالله والنصيحة لك, وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبـالاً, فلا تقبل منهم رأيا, ولا تستشرهم مستنصحا بهم, فإنهم لك أعداء إنّ اللّهَ كانَ عَلِـيـما حَكِيـما يقول: إن الله ذو علـم بـما تضمره نفوسهم, وما الذي يقصدون فـي إظهارهم لك النصيحة, مع الذي ينطوون لك علـيه, حكيـم فـي تدبـير أمرك وأمر أصحابك ودينك, وغير ذلك من تدبـير جميع خـلقه. وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ يقول: واعمل بـما ينزل الله علـيك من وحيه, وآي كتابه إنّ اللّهَ كانَ بـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرا يقول: إن الله بـما تعمل به أنت وأصحابك من هذا القرآن, وغير ذلك من أموركم وأمور عبـاده خبـيرا أي ذا خبرة, لا يخفـى علـيه من ذلك شيء, وهو مـجازيكم علـى ذلك بـما وعدكم من الـجزاء. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21566ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ أي هذا القرآن إنّ اللّهَ كانَ بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبـيرا.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَوَكّلْ عَلَىَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: وفوّض إلـى الله أمرك يا مـحمد, وثق به وكَفَـى بـالله وَكِيلاً يقول: وحسيك بـالله فـيـما يأمرك وكيلاً, وحفـيظا بك.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمراد من قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْنِ فِـي جَوْفِهِ فقال بعضهم: عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفـاق, وصفوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبـين, فنفـى الله ذلك عن نبـيه, وكذّبهم. ذكر من قال ذلك:
21567ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا حفص بن نفـيـل, قال: حدثنا زهير بن معاوية, عن قابوس بن أبـي ظبـيان أن أبـاه حدثه, قال: قلنا لابن عبـاس: أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْن فِـي جَوْفِه ما عنى بذلك؟ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فصلـى, فخطر خطرة فقال الـمنافقون الذين يصلون معه: إن له قلبـين, قلبـا معكم, وقلبـا معهم, فأنزل الله: ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـين فـي جَوْفِهِ.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبـين من دِهْيه. ذكر من قال ذلك:
21568ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْنِ فِـي جَوْفِهِ قال: كان رجل من قريش يسمى من دهيه ذا القلبـين, فأنزل الله هذا فـي شأنه.
21569ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـين فِـي جَوْفِهِ قال: إن رجلاً من بنـي فهر, قال: إن فـي جوفـي قلبـين, أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل مـحمد «وكذب».
21570ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْنِ فِـي جَوْفِهِ قال قتادة: كان رجل علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذا القلبـين, فأنزل الله فـيه ما تسمعون.
21571ـ قال قتادة: وكان الـحسن يقول: كان رجل يقول لـي: نفس تأمرنـي, ونفس تنهانـي, فأنزل الله فـيه ما تسمعون.
21572ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن خصيف, عن عكرمة, قال: كان رجل يسمى ذا القلبـين, فنزلت ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْنِ فِـي جَوْفِه.
وقال آخرون: بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنّاه, فضرب الله بذلك مثلاً. ذكر من قال ذلك:
21573ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, فـي قوله: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَـيْنِ فِـي جَوْفِهِ قال: بلغنا أن ذلك كان فـي زيد بن حارثة, ضرب له مثلاً يقول: لـيس ابن رجل آخر ابنك.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: ذلك تكذيب من الله تعالـى قول من قال لرجل فـي جوفه قلبـان يعقل بهما, علـى النـحو الذي رُوي عن ابن عبـاس وجائز أن يكون ذلك تكذيبـا من الله لـمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, وأن يكون تكذيبـا لـمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبـين من دهيه, وأيّ الأمرين كان فهو نفـي من الله عن خـلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة.
وقوله: وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أمّهاتِكُمْ يقول تعالـى ذكره: ولـم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ: أنتن علـينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم, بل جعل ذلك من قـيـلكم كذبـا, وألزمكم عقوبة لكم كفّـارة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21574ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهاتِكُمْ: أي ما جعلها أمك فإذا ظاهر الرجل من امرأته, فإن الله لـم يجعلها أمه, ولكن جعل فـيها الكفّـارة.
وقوله: وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ يقول: ولـم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك, وهو ابن غيرك ابنك بدعواك. وذُكر أن ذلك نزل علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنـيه زيد بن حارثة. ذكر الرواية بذلك:
21575ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال: نزلت هذه الاَية فـي زيد بن حارثة.
21576ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال: كان زيد بن حارثة حين منّ الله ورسوله علـيه, يقال له: زيد بن مـحمد, كان تبنّاه, فقال الله: ما كانَ مُـحَمّدٌ أبـا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال: وهو يذكر الأزواج والأخت, فأخبره أن الأزواج لـم تكن بـالأمهات أمهاتكم, ولا أدعياءكم أبناءكم.
21577ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ وما جعل دعّيك ابنك, يقول: إذا ادّعى رجل رجلاً ولـيس بـابنه ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ... الاَية. وذُكر لنا أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من ادّعى إلـى غَير أبِـيهِ مُتَعَمّدا حَرّمَ اللّهُ عَلَـيْهِ الـجَنّةَ».
21578ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن أشعث, عن عامر, قال: لـيس فـي الأدعياء زيد.
وقوله ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ يقول تعالـى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته: أنت علـيّ كظهر أمي, ودعاؤه من لـيس بـابنه أنه ابنه, إنـما هو قولكم بأفواهكم لا حقـيقة له, لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادّعيت بنوّته, ولا تصير الزوجة أمّا بقول الرجل لها: أنت علـيّ كظهر أمي وَاللّهُ يقُولُ الـحَقّ يقول: والله هو الصادق الذي يقول الـحقّ, وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه, وبه تكون الـمرأة للـمولود, أمّا إذا حكم بذلك وَهُوَ يَهْدِي السّبِـيـلَ يقول تعالـى ذكره: والله يبـين لعبـاده سبـيـل الـحقّ, ويرشدهم لطريق الرشاد.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـَكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً }.
يقول الله تعالـى ذكره: انسبوا أدعياءكم الذين ألـحقتـم أنسابهم بكم لاَبـائهم. يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـحق نسب زيد بأبـيه حارثة, ولا تدعه زيدا بن مـحمد. وقوله هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله يقول: دعاؤكم إياهم لاَبـائهم هو أعدل عند الله, وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبـائهم ونسبتكموهم إلـى من تبنّاهم وادّعاهم ولـيسوا له بنـين. كما:
21579ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ادْعُوهُمْ لاَبـائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ: أي أعدل عند الله, وقوله: فإنْ لَـمْ تَعْلـمُوا آبـاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِـي الدّينِ وَمَوَالِـيكُمْ يقول تعالـى ذكره: فإن أنتـم أيها الناس لـم تعلـموا آبـاء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إلـيهم, ولـم تعرفوهم, فتلـحقوهم بهم, فإخوانكم فـي الدين يقول: فهم إخوانكم فـي الدين, إن كانوا من أهل ملّتكم, وموالـيكم إن كانوا مـحرّريكم ولـيسوا ببنـيكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21580ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ادْعُوهُمْ لاَبـائهمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ: أي أعدل عند الله فإنْ لَـمْ تَعْلَـمُوا آبـاءَهُمْ فإخْوَانَكُمْ فِـي الدّينِ وَمَوَالِـيكُمْ فإن لـم تعلـموا من أبوه فإنـما هو أخوك ومولاك.
21581ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن عُيـينة بن عبد الرحمن, عن أبـيه, قال: قال أبو بكرة: قال الله ادْعُوهُمْ لاَبـائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ, فإنْ لَـمْ تَعْلَـمُوا آبـاءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِـي الدّينِ وَمَوَالِـيكُمْ فأنا مـمن لا يُعرف أبوه, وأنا من إخوانكم فـي الدين, قال: قال أبـي: والله إنـي لأظنه لو علـم أن أبـاه كان حمّارا لانتـمى إلـيه.
وقوله: وَلَـيْسَ عَلـيْكُمْ جُناحٌ فِـيـما أخْطأْتُـمْ بِهِ يقول: ولا حرج علـيكم ولا وزر فـي خطأ يكون منكم فـي نسبة بعض من تنسبونه إلـى أبـيه, وأنتـم ترونه ابن من ينسبونه إلـيه, وهو ابن لغيره وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول: ولكن الإثم والـحرج علـيكم فـي نسبتكموه إلـى غير أبـيه, وأنتـم تعلـمونه ابن غير من تنسبونه إلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21582ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ فِـيـما أخْطأْتُـمْ بِهِ يقول: إذا دعوت الرجل لغير أبـيه, وأنت ترى أنه كذلك وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول الله: لا تدعه لغير أبـيه متعمدا. أما الـخطأ فلا يؤاخذكم الله به وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِـمَا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
21583ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ قال: فـالعمد ما أتـى بعد البـيان والنهي فـي هذا وغيره.
و «ما» التـي فـي قوله وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا علـى «ما» التـي فـي قوله فِـيـما أخْطأْتُـمْ بِهِ وذلك أن معنى الكلام: لـيس علـيكم جناح فـيـما أخطأتـم به, ولكن فـيـما تعمدت قلوبكم.
وقوله: وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيـما يقول الله تعالـى ذكره: وكان الله ذا ستر علـى ذنب من ظاهر زوجته فقال البـاطل والزور من القول, وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له, إذا تابـا وراجعا أمر الله, وانتهيا عن قـيـل البـاطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما علـى ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما.
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {النّبِيّ أَوْلَىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَن تَفْعَلُوَاْ إِلَىَ أَوْلِيَآئِكُمْ مّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: النبـيّ مـحمد أولـى بـالـمؤمنـين, يقول: أحقّ بـالـمؤمنـين به من أنفسهم, أن يحكم فـيهم بـما يشاء من حكم, فـيجوز ذلك علـيهم. كما:
21584ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد النّبِـيّ أوْلَـى بـالـمُؤْمِنِـينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ كما أنت أولـى بعبدك ما قضى فـيهم من أمر جاز, كما كلـما قضيت علـى عبدك جاز.
21585ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد النّبِـيّ أولـى بـالـمُؤْمِنـينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ قال: هو أب لهم.
21586ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عثمان بن عمر, قال: حدثنا فلـيح, عن هلال بن علـيّ, عن عبد الرحمن بن أبـي عمرة, عن أبـي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وأنا أوْلَـى النّاسِ بِهِ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ, اقْرَءُوا إنْ شِئْتُـمْ النّبِـيّ أوْلَـى بـالـمُؤْمِنِـينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأيّـمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا, وَإنْ تَرَكَ دَيْنا أوْ ضِياعا فَلْـيأْتِنـي وأنا مَوْلاهُ».
21587ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حسن بن علـيّ, عن أبـي موسى إسرائيـل بن موسى, قال: قرأ الـحسن هذه الاَية النّبِـيّ أوْلَـى بـالـمُؤْمِنِـينَ مِنْ أنْفُسِهمْ, وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ قال: قال الـحسن: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «أنا أوْلَـى بكُلّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِه» قال الـحسن: وفـي القراءة الأولـى: «أوْلَـى بـالـمُؤْمنـينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ, وَهُوَ أبٌ لَهُمْ».
21588ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال فـي بعض القراءة: «النّبِـيّ أوْلَـى بـالـمُؤْمِنِـينَ مِنْ أنْفُسِهمْ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ» وذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّـمَا رَجُلٍ تَرَكَ ضِياعا فَأنا أوْلَـى بِهِ, وَإنْ تَرَكَ مالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ».
وقوله: وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ يقول: وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم علـيهم, فـي أنهن يحرم علـيهن نكاحهن من بعد وفـاته, كما يحرمُ علـيهم نكاح أمهاتهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21589ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة النّبِـيّ أولَـى بـالـمُؤْمِنـينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ, وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ يعظّم بذلك حقهنّ, وفـي بعض القراءة: «وَهُوَ أبٌ لَهُمْ».
21590ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ مـحرّمات علـيهم.
وقوله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ وَالـمُهاجِرِينَ يقول تعالـى ذكره: وأولوا الأرحام الذين وَرّثْتُ بعضهم من بعض, هم أولـى بـميراث بعض من الـمؤمنـين والـمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا, بـالهجرة والإيـمان دون الرحم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21591ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَـى ببَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ والـمُهاجرِينَ لبث الـمسلـمون زمانا يتوارثون بـالهجرة, والأعرابـيّ الـمسلـم لا يرث من الـمهاجرين شيئا, فأنزل الله هذه الاَية, فخـلط الـمؤمنـين بعضهم ببعض, فصارت الـمواريث بـالـملل.
21592ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مِنَ الـمُؤْمِنـينَ والـمُهاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد آخَى بـين الـمهاجرين والأنصار أوّل ما كانت الهجرة, وكانوا يتوارثون علـى ذلك, وقال الله وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِـيَ مـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْربُونَ والّذِينَ عَقَدَتْ أيـمَانُكُمْ, فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قال: إذا لـم يأت رحم لهذا يحول دونهم, قال: فكان هذا أوّلاً, فقال الله: إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائكُمْ مَعْرُوفـا يقول: إلاّ أن تُوصُوا لهم كانَ ذلكَ فِـي الكِتابِ مَسْطُورا أنّ أولـي الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله, قال: وكان الـمؤمنون والـمهاجرون لا يتوارثون إن كانوا أولـي رحم, حتـى يهاجروا إلـى الـمدينة, وقرأ قال الله: وَالّذِينَ آمَنُوا ولَـمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهمْ مِنْ شَيْءٍ حتـى يُهاجِرُوا... إلـى قوله وَفَسادٌ كَبِـيرٌ, فكانوا لا يتوارثون, حتـى إذا كان عام الفتـح, انقطعت الهجرة, وكثر الإسلام, وكان لا يُقْبل من أحد أن يكون علـى الذي كان علـيه النبـيّ ومن معه إلاّ أن يهاجر قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمن بَعَث: «اغْدُوا عَلـى اسْمِ اللّهِ لا تَغُلّوا وَلا تُوَلّوا, ادْعُوهُمْ إلـى الإسْلامِ, فإنْ أجابُوكُمْ فـاقْبَلُوا وَادْعُوهُمْ إلـى الهِجْرَةِ, فإنْ هاجَرُوا مَعَكُمْ, فَلَهُمْ ما لَكُمْ, وَعَلَـيْهِمْ ما عَلَـيْكُمْ, فإنْ أبَوْا ولَـمْ يُهاجِرُوا وَاخْتارُوا دَارَهُمْ فَأقِرّوهُمْ فِـيها, فَهُمْ كالأعْرابِ تَـجْرِي عَلَـيْهمْ أحْكامُ الإسْلامِ, ولَـيْسَ لَهُمْ فِـي هَذَا الفَـيْءِ نَصِيبٌ». قال: فلـما جاء الفتـح, وانقطعت الهجرة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْـحِ» وكثر الإسلام, وتوارث الناس علـى الأرحام حيث كانوا, ونسخ ذلك الذي كان بـين الـمؤمنـين والـمهاجرين, وكان لهم فـي الفـيء نصيب, وإن أقاموا وأبَوا, وكان حقهم فـي الإسلام واحد, الـمهاجر وغير الـمهاجر والبدوي وكلّ أحد, حين جاء الفتـح.
فمعنى الكلام علـى هذا التأويـل: وأولوا الأرحام بعضهم أولـى ببعض من الـمؤمنـين والـمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بـالهِجرة, وقد يحتـمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من الـمؤمنـين والـمهاجرين, أوْلـى بـالـميراث, مـمن لـم يؤمن, ولـم يهاجر.
وقوله: إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى ذلك: إلاّ أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيـمان والهجرة. ذكر من قال ذلك:
21593ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن حجّاج, عن سالـم, عن ابن الـحنفـية إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قالوا: يوصي لقرابته من أهل الشرك.
21594ـ قال: ثنا عبدة, قال: قرأت علـى ابن أبـي عروبة, عن قتادة إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قال: للقرابة من أهل الشرك وصية, ولا ميراث لهم.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قال: إلـى أولـيائكم من أهل الشرك وصية, ولا ميراث لهم.
21595ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري ويحيى بن آدم, عن ابن الـمبـارك, عن معمر, عن يحيى بن أبـي كثـير, عن عكرِمة إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قال: وصية.
21596ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي مـحمد بن عمرو, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا فقال: العطاء, فقلت له: الـمؤمن للكافر بـينهما قرابة؟ قال: نعم عطاؤه إياه حبـاء ووصية له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلاّ أن تـمسكوا بـالـمعروف بـينكم بحقّ الإيـمان والهجرة والـحلف, فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم. ذكر من قال ذلك:
21597ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا قال: حلفـاؤكم الذين والـى بـينهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم من الـمهاجرين والأنصار, إمساك بـالـمعروف والعقل والنصر بـينهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن توصوا إلـى أولـيائكم من الـمهاجرين وصية. ذكر من قال ذلك:
21598ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـا يقول: إلاّ أن توصوا لهم.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: معنى ذلك إلاّ أن تفعلوا إلـى أولـيائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بـينهم وبـينكم من الـمهاجرين والأنصار, معروفـا من الوصية لهم, والنصرة والعقل عنهم, وما أشبه ذلك, لأن كلّ ذلك من الـمعروف الذي قد حثّ الله علـيه عبـاده.
وإنـما اخترت هذا القول, وقلت: هو أولـى بـالصواب من قـيـل من قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك, لأن القريب من الـمشرك, وإن كان ذا نسب فلـيس بـالـمولـى, وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بـين الـمؤمن والـمشرك, وقد نهى الله الـمؤمنـين أن يتـخذوا منهم ولـيا بقوله: لا تَتّـخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِـياءَ وغير جائز أن ينهاهم عن اتـخاذهم أولـياء, ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولـياء. وموضع «أن» من قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا نصب علـى الاستثناء. ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله من الـمؤمنـين والـمهاجرين, إلاّ أن تفعلوا إلـى أولـيائكم الذين لـيسوا بأولِـي أرحام منكم معروفـا.
وقوله: كانَ ذلكَ فِـي الكِتابِ مَسْطُورا يقول: كان أولوا الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله: أي فـي اللوح الـمـحفوظ مسطورا أي مكتوبـا, كما قال الراجز:
(فـي الصّحُفِ الأُولـى التـي كانَ سَطَرْ )
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21599ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله كانَ ذلكَ فِـي الكِتابِ مَسْطُورا: أي أن أولـي الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: كان ذلك فـي الكتاب مسطورا: لا يرث الـمشرك الـمؤمن