تفسير الطبري تفسير الصفحة 453 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 453
454
452
 سورة ص مكية
وآياتها ثمان وثمانون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1 -2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ }.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي معنى قول الله عزّ وجلّ: ص, فقال بعضهم: هو من الـمصاداة, من صاديت فلانا, وهو أمر من ذلك, كأن معناه عندهم: صادٍ بعملك القرآن: أي عارضه به, ومن قال هذا تأويـله, فإنه يقرؤه بكسر الدال, لأنه أمر, وكذلك رُوي عن الـحسن ذكر الرواية بذلك:
22798ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الـحسن ص قال: حادث القرآن.
22799ـ وحُدثت عن علـيّ بن عاصم, عن عمرو بن عبـيد, عن الـحسن, فـي قوله: ص قال: عارض القرآن بعملك.
حدثت عن عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, فـي قوله: ص والقرآن قال: عارض القرآن, قال عبد الوهاب: يقول اعرضه علـى عملك, فـانظر أين عملك من القرآن.
حدثنـي أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن إسماعيـل, عن الـحسن أنه كان يقرأ: ص والقرآن بخفض الدال, وكان يجعلها من الـمصاداة, يقول: عارض القرآن.
وقال آخرون: هي حرف هجاء. ذكر من قال ذلك:
22800ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: أما ص فمن الـحروف.
وقال آخرون: هو قسم أقسم الله به. ذكر من قال ذلك:
22801ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ص قال: قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. ذكر من قال ذلك:
22802ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ص قال: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به.
وقال آخرون: معنى ذلك: صدق الله. ذكر من قال ذلك:
22803ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك, عن أبـي روق, عن الضحاك فـي قوله: ص قال: صدق الله.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبـي إسحاق وعيسى بن عمر, بسكون الدال, فأما عبد الله بن أبـي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتـماع الساكنـين, ويجعل ذلك بـمنزلة الاَداة, كقول العرب: تركته حاثِ بـاثِ, وخازِ بـازِ يخفضان من أجل أن الذي يـلـي آخر الـحروف ألف فـيخفضون مع الألف, وينصبون مع غيرها, فـيقولون حيث بـيث, ولأجعلنك فـي حيص بـيص: إذا ضيق علـيه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفّق بـين جميع ما كان قبل آخر الـحروف منه ألف, وما كان قبل آخره ياء أو واو فـيفتـح جميع ذلك وينصبه, فـيقول: ص وق ون ويس, فـيجعل ذلك مثل الاَداة كقولهم: لـيتَ, وأينَ وما أشبه ذلك.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا السكون فـي كل ذلك, لأن ذلك القراءة التـي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفـيضة فـيهم, وأنها حروف هجاء لأسماء الـمسميات, فـيعربن إعراب الأسماء والأدوات والأصوات, فـيسلك بهنّ مسالكهن,فتأويـلها إذ كانت كذلك تأويـل نظائرها التـي قد تقدم بـيانناها قبل فـيـما مضى.
وكان بعض أهل العربـية يقول: ص فـي معناها كقولك: وجب والله, نزل والله, وحقّ والله, وهي جواب لقوله: والقُرآنِ كما تقول: حقا والله, نزل والله.
وقوله: والقُرآنِ ذِي الذّكْرِوهذا قسم أقسمه الله تبـارك وتعالـى بهذا القرآن فقال: والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ذِي الذّكْرِ فقال بعضهم: معناه: ذي الشرف. ذكر من قال ذلك:
22804ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: حدثنا أبو أحمد, عن قـيس, عن أبـي حصين, عن سعيد ص والقُرآنِ ذِي الذّكْر قال: ذي الشرف.
22805ـ حدثنا نصر بن علـيّ وابن بشار, قالا: حدثنا أبو أحمد, عن مسعر, عن أبـي حصين ذِي الذكْرِ: ذي الشرف.
22806ـ قال: ثنا أبو أحمد, عن سفـيان, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح أو غيره ذِي الذّكْرِ: ذي الشرف.
22807ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ قال: ذي الشرف.
22808ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا معاوية بن هشام, عن سفـيان, عن يحيى بن عُمارة, عن سعيد بن جبـير عن ابن عبـاس ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف.
وقال بعضهم: بل معناه: ذي التذكير, ذكّركمُ الله به. ذكر من قال ذلك:
22809ـ حدثنا عن الـمسيب بن شريك, عن أبـي روق, عن الضحاك ذِي الذّكْرِ قال: فـيه ذكركم, قال: ونظيرتها: لَقَدْ أنْزَلْنا إلَـيْكُمْ كِتابـا فِـيهِ ذِكرُكُمْ.
22810ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ذي الذّكْرِ: أي ما ذكر فـيه.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم, لأن الله أتبع ذلك قولَه: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنـما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعبـاده ذكّرهم به, وأن الكفـار من الإيـمان به فـي عزّة وشقاق.
واختلف فـي الذي وقع علـيه اسم القسم, فقال بعضهم وقع القسم علـى قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ. ذكر من قال ذلك:
22811ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ قال: ها هنا وقع القسم.
وكان بعض أهل العربـية يقول: «بل» دلـيـل علـى تكذيبهم, فـاكتفـى ببل من جواب القسم, وكأنه قـيـل: ص, ما الأمر كما قلتـم, بل أنتـم فـي عزّة وشقاق. وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم فـي قوله: إنْ كُلٌ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ. وقال بعض نـحويـي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب والقُرآنِ قوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ تَـخاصُمُ أهْلِ النّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله: والقُرآنِ تأخرا شديدا, وجرت بـينهما قصص مختلفة, فلا نـجد ذلك مستقـيـما فـي العربـية, والله أعلـم.
قال: ويقال: إن قوله: والقُرآنِ يـمين اعترض كلام دون موقع جوابها, فصار جوابها للـمعترض وللـيـمين, فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر, لَكَمْ أهلكنا, فلـما اعترض قوله بَل الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عزّةٍ صارت كم جوابـا للعزّة والـيـمين. قال: ومثله قوله: والشّمْسِ وضُحاها اعترض دون الـجواب قوله: وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلْهَمَها فصارت قد أفلـح تابعة لقوله: فألهمها, وكفـى من جواب القسم, فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلـح.
والصواب من القول فـي ذلك عندي, القول الذي قاله قتادة, وأن قوله: بَلْ لـما دلّت علـى التكذيب وحلّت مـحلّ الـجواب استغنـي بها من الـجواب, إذ عُرف الـمعنى, فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ما الأمر, كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم فـي عزّة وشقاق.
وقوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ يقول تعالـى ذكره: بل الذين كفروا بـالله من مشركي قريش فـي حمية ومشاقة, وفراق لـمـحمد وعداوة, وما بهم أن لا يكونوا أهل علـم, بأنه لـيس بساحر ولا كذّاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22812ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ قال: مُعازّين.
22813ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ: أي فـي حَمِيّة وفراق.
22814ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ قال: يعادون أمر الله ورسله وكتابه, ويشاقون, ذلك عزّة وشِقاق, فقلت له: الشقاق: الـخلاف, فقال: نعم.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }.
يقول تعالـى ذكره: كثـيرا أهلكنا من قبل هؤلاء الـمشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـيـما جاءهم به من عندنا من الـحقّ مِنْ قَرْنٍ يعنـي: من الأمـم الذين كانوا قبلهم, فسلكوا سبـيـلهم فـي تكذيب رسلهم فـيـما أتوهم به من عند الله فَنادَوْا يقول: فعجوا إلـى ربهم وضجوا واستغاثوا بـالتوبة إلـيه, حين نزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه, وهربـا من ألـيـم عذابه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: ولـيس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بـالتوبة, وقد حقّت كلـمة العذاب علـيهم, وتابوا حين لا تنفعهم التوبة, واستقالوا فـي غير وقت الإقالة. وقوله: مَناصٍ مفعل من النّوص, والنوص فـي كلام العرب: التأخر, والـمناص: الـمفرّ ومنه قول امرىء القـيس:
أمِنْ ذِكْرِ سَلْـمَى إذْ نأَتْكَ تَنُوصُفَتقْصِرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبوصُ
يقول: أو تقدّم يقال من ذلك: ناصنـي فلان: إذا ذهب عنك, وبـاصنـي: إذا سبقك, وناض فـي البلاد: إذا ذهب فـيها, بـالضاد. وذكر الفراء أن العقـيـلـي أنشده:
إذا عاشَ إسْحاقٌ وَشَيْخُهُ لَـمْ أُبَلْفَقِـيدا ولَـمْ يَصْعُبْ عَلـيّ مَناضُ
وَلَوْ أشْرَفَتْ مِنْ كُفّةِ السّتْرِ عاطِلاًلَقُلْتُ غَزَالٌ ما عَلَـيْهِ خُضَاضُ
والـخضاض: الـحلـيّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22815ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق عن التـميـمي, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس بحين نزو, ولا حين فرار.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, قال: قلت لابن عبـاس: أرأيت قول الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبـي إسحاق الهمدانـي, عن التـميـمي, قال: سألت ابن عبـاس, قول الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس حين نزو ولا فرار.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس حين نزو ولا فرار.
22816ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: لـيس حين مَغاث.
22817ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن. قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس هذا بحين فرار.
22818ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَنادُوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: نادى القوم علـى غير حين نداء, وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله فلـم يقبل منهم ذلك.
22819ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: حين نزل بهم العذاب لـم يستطيعوا الرجوع إلـى التوبة, ولا فرارا من العذاب.
22820ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: ولـيس حين فرار.
22821ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ولات حين مَنْـجًى ينـجون منه, ونصب حين فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ تشبـيها للات بلـيس, وأضمر فـيها اسم الفـاعل.
وحكى بعض نـحوّيـي أهل البصرة الرفع مع لات فـي حين زعم أن بعضهم رفع «وَلاتَ حِينُ مناصٍ» فجعله فـي قوله لـيس, كأنه قال: لـيس وأضمر الـحين قال: وفـي الشعر:
طَلَبُوا صُلْـحَنا وَلاتَ أوَانٍفَأَجَبنا أنْ لَـيْسَ حِينَ بَقاءِ
فجرّ «أوانٍ» وأضمر الـحين إلـى أوان, لأن لات لا تكون إلا مع الـحين قال: ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نـحويـي الكوفة: من العرب من يضيف لات فـيخفض بها, وذكر أنه أنشد:
(«لاتَ ساعَةِ مَنْدَمٍ» )
بخفض الساعة قال: والكلام أن ينصب بها, لأنها فـي معنى لـيس, وذُكر أنه أنشد:
تَذَكّرَ حُبّ لَـيْـلَـى لاتَ حِيناوأضْحَى الشّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا
قال: وأنشدنـي بعضهم:
طَلَبُوا صُلْـحَنا وَلاتَ أوَانٍفأَجَبْنا أنْ لَـيْسَ حِينَ بَقاءِ
بخفض «أوانِ» قال: وتكون لات مع الأوقات كلها.
واختلفوا فـي وجه الوقـف علـى قراءة: لاتَ حِينَ فقال بعض أهل العربـية: الوقـف علـيه ولاتّ بـالتاء, ثم يبتدأ حين مناص, قالوا: وإنـما هي «لا» التـي بـمعنى: «ما», وإن فـي الـجحد وُصلت بـالتاء, كما وُصِلت ثم بها, فقـيـل: ثمت, وكما وصلت ربّ فقـيـل: ربت.
وقال آخرون منهم: بل هي هاء زيدت فـي لا, فـالوقـف علـيها لاه, لأنها هاء زيدت للوقـف, كما زيدت فـي قولهم:
العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍوالـمُطْعِمُونَةَ حِينَ أيْنَ الـمَطْعِمُ
فإذا وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم: الوقـف علـى «لا», والابتداء بعدها تـحين, وزعم أن حكم التاء أن تكون فـي ابتداء حين, وأوان, والاَن ويستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:
تَوَلّـيْ قَبْلَ يَوْمِ سَبْـيٍ جُماناوَصِلِـينا كما زَعَمْتِ تَلانا
وأنه لـيس ههنا «لا» فـيوصل بها هاء أو تاء ويقول: إن قوله: لاتَ حِينَ إنـما هي: لـيس حين, ولـم توجد لات فـي شيء من الكلام.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن «لا» حرف جحد كما, وإن وُصلت بها تصير فـي الوصل تاء, كما فعلت العرب ذلك بـالأدوات, ولـم تستعمل ذلك كذلك مع «لا» الـمُدّة إلا للأوقات دون غيرها, ولا وجه للعلة التـي اعتلّ بها القائل: إنه لـم يجد لات فـي شيء من كلام العرب, فـيجوز توجيه قوله: وَلاتَ حِينَ إلـى ذلك, لأنها تستعمل الكملة فـي موضع, ثم تستعملها فـي موضع آخر بخلاف ذلك, ولـيس ذلك بأبعد فـي القـياس من الصحة من قولهم: رأيت بـالهمز, ثم قالوا: فأنا أراه بترك الهمز لـما جرى به استعمالهم, وما أشبه ذلك من الـحروف التـي تأتـي فـي موضع علـى صورة, ثم تأتـي بخلاف ذلك فـي موضع آخر للـجاري من استعمال العرب ذلك بـينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر: «كما زعمت تلانا», فإن ذلك منه غلط فـي تأويـل الكلـمة وإنـما أراد الشاعر بقوله: «وصِلِـينا كما زَعمْتِ تَلانا»: وصِلـينا كما زعمت أنتِ الاَن, فأسقط الهمزة من أنت, فلقـيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة, فسقطت من اللفظ, وبقـيت التاء من أنت, ثم حذفت الهمزة من الاَن, فصارت الكلـمة فـي اللفظ كهيئة تلان, والتاء الثانـية علـى الـحقـيقة منفصلة من الاَن, لأنها تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى فـي الـمصحف الذي يقال له «الإمام» التاء متصلة بحين, فإن الذي جاءت به مصاحف الـمسلـمين فـي أمصارها هو الـحجة علـى أهل الإسلام, والتاء فـي جميعها منفصلة عن حين, فلذلك اخترنا أن يكون الوقـف علـى الهاء فـي قوله: وَلاتَ حِينَ.
الآية : 4 -5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ * أَجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلَـَهاً وَاحِداً إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.
يقول تعالـى ذكره: وعجب هؤلاء الـمشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله علـى كفرهم به من أنفسهم, ولـم يأتهم مَلك من السماء بذلك وَقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ يقول: وقال الـمنكرون وحدانـية الله: هذا, يعنون مـحمدا صلى الله عليه وسلم, ساحر كذّاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22822ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَعَجِبْوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم فقالَ الكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذّابٌ.
22823ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: ساحِرٌ كَذّابٌ يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلها وَاحِدا يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: مـحمد ساحر كذّاب: أجعل مـحمد الـمعبودات كلها واحدا, يسمع دعاءنا جميعنا, ويعلـم عبـادة كل عابد عبدَه منا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ: أي إن هذا لشيء عجيب, كما:
22824ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ قال: عجب الـمشركون أن دُعوا إلـى الله وحده, وقالوا: يسمع لـحاجاتنا جميعا إله واحد ما سمعنا بهذا فـي الـملة الاَخرة.
وكان سبب قـيـل هؤلاء الـمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه, من ذلك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أسْأَلُكُمْ أنْ تُـجِيبُونِـي إلـى وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِها العَرَبُ, وَتُعْطِيكُمْ بِها الـخَرَاجَ العَجَمُ» فقالوا: وما هي؟ فقال: «تقولون لا إلَهَ إلاّ اللّهُ», فعند ذلك قالوا: أجَعَلَ الاَلَهَةَ إلَها وَاحِدا تعجبـا منهم من ذلك. ذكر الرواية بذلك:
22825ـ حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع, قالا: حدثنا أبو أُسامة, قال: حدثنا الأعمش, قال: حدثنا عبـاد, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما مرض أبو طالب دخـل علـيه رهط من قريش فـيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتـم آلهتنا, ويفعل ويفعل, ويقول ويقول, فلو بعثت إلـيه فنهيته فبعث إلـيه, فجاء النبـيّ صلى الله عليه وسلم فدخـل البـيت, وبـينهم وبـين أبـي طالب قدر مـجلس رجل, قال: فخشي أبو جهل إن جلس إلـى جنب أبـي طالب أن يكون أرق له علـيه, فوثب فجلس فـي ذلك الـمـجلس, ولـم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مـجلسا قرب عمه, فجلس عند البـاب, فقال له أبو طالب: أي ابن أخي, ما بـال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتـم آلهتهم, وتقول وتقول قال: فأكثروا علـيه القول, وتكلـم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عَمّ إنّـي أُرِيدُهُمْ عَلـى كَلِـمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا, تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ, وَتُؤَدّي إلَـيْهِمْ بِها العَجَمُ الـجِزْيَةَ», ففزعوا لكلـمته ولقوله, فقال القوم: كلـمة واحدة؟ نعم وأبـيك عَشْرا فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلـمة هي يا ابن أخي؟ قال: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ» قال: فقاموا فِزعين ينفضون ثـيابهم, وهم يقولون: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ قال: ونزلت من هذا الـموضع إلـى قوله: لـمّا يَذُوقُوا عَذَابِ اللفظ لأبـي كريب.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا معاوية بن هشام, عن سفـيان, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَـير عن ابن عبـاس, قال: مرض أبو طالب, فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده, وهم حوله جلوس, وعند رأسه مكان فـارغ, فقام أبو جهل فجلس فـيه, فقال أبو طالب: يا ابن أخي ما لقومك يشكونك؟ قال: «يا عَمّ أُرِيدُهُمْ عَلـى كَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ, وتُؤَدّي إلَـيْهِمْ بِها العَجَمُ الـجِزْيَةَ» قال: ما هي؟ قال: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ» فقاموا وهم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذَا فـي الـمِلّةِ الاَخرةِ إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ ونزل القرآن: ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ حتـى قوله: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفـيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس, قال: مرض أبو طالب, ثم ذكر نـحوه, إلا أنه لـم يقل ذي الشرف, وقال: إلـى قوله: إنّ هَذَا لَشْيءٌ عُجابٌ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَـير, قال: مرض أبو طالب, قال: فجاء النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعوده, فكان عند رأسه مقعدُ رجل, فقام أبو جهل, فجلس فـيه, فشكَوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى أبـي طالب, وقالوا: إنه يقع فـي آلهتنا, فقال: يا ابن أخي ما تريد إلـى هذا؟ قال: «يا عمّ إنّـي أُريدُهُمْ علـى كَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ, وتُؤَدّي إلَـيْهِمُ العَجَمُ الـجِزْيَةَ» قال: وما هي؟ قال: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ», فقالوا: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ.
الآية : 6 -7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِى الْمِلّةِ الاَخِرَةِ إِنْ هَـَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ }.
يقول تعالـى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش, القائلـين: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلها وَاحِدا بأنِ امضُوا فـاصبروا علـى دينكم وعبـادة آلهتكم. فأن من قوله: أن امْشُوا فـي موضع نصب يتعلق انطلقوا بها, كأنه قـيـل: انطلقوا مشيا, ومضيا علـى دينكم. وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ يَـمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلـى آلِهَتِكُمْ». وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبة ابن أبـي مُعِيط. ذكر من قال ذلك:
22826ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن إبراهيـم بن مهاجر, عن مـجاهد: وَانْطَلَق الـمَلأُ مِنْهُمْ قال: عقبة بن أبـي معيط.
وقوله: إنّ هَذَا لَشْيءٌ يُرَادُ: أي إن هذا القول الذي يقول مـحمد, ويدعونا إلـيه, من قول لا إله إلا الله, شيء يريده منا مـحمد يطلب به الاستعلاء علـينا, وأن نكون له فـيه أتبـاعا ولسنا مـجيبـيه إلـى ذلك.
وقوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إلـيه مـحمد من البراءة من جميع الاَلهة إلا من الله تعالـى ذكره, وبهذا الكتاب الذي جاء به فـي الـملّة النصرانـية, قالوا: وهي الـملة الاَخرة.ذكر من قال ذلك:
22827ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ يقول: النصرانـية.
22828ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ يعنـي النصرانـية فقالوا: لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.
22829ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا يحيى بن معين, قال: حدثنا ابن عُيـينة, عن ابن أبـي لبـيد, عن القُرَظِي فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة عيسى.
22830ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قلا: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ النصرانـية.
وقال آخرون: بل عَنَوا بذلك: ما سمعنا بهذا فـي ديننا دين قريش. ذكر من قال ذلك:
22831ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة قريش.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قا: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة قريش.
22832ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ: أي فـي ديننا هذا, ولا فـي زماننا قطّ.
22833ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: الـملة الاَخرة: الدين الاَخر. قال: والـملة الدين.
وقـيـل: إن الـملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش, منهم أبو جهل, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد يغوث. ذكر من قال ذلك:
22834ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ أن أناسا من قُرَيش اجتـمعوا, فـيهم أبو جهل بن هشام, والعاص بن وائل, والأسود بن الـمطلب, والأسود بن عبد يغوث فـي نفر من مشيخة قريش, فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلـى أبـي طالب, فلنكلـمه فـيه, فلـينصفنا منه, فـيأمره فلـيكفّ عن شتـم آلهتنا, ونَدَعَه وإلهه الذي يَعبُد, فإنا نـخاف أن يـموت هذا الشيخ, فـيكون منا شيء, فتعيرنا العرب فـيقولون: تركوه حتـى إذا مات عمه تناولوه, قال: فبعثوا رجلاً منهم يُدعى الـمطّلب, فـاستأذن لهم علـى أبـي طالب, فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم يستأذنون علـيك, قال: أدخـلهم فلـما دخـلوا علـيه قالوا: يا أبـا طالب أنت كبـيرنا وسيدنا, فأنصفنا من ابن أخيك, فمُره فلـيكفّ عن شتـم آلهتنا, ونَدَعَه وإلهه قال: فبعث إلـيه أبو طالب فلـما دخـل علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم, وقد سألوك النّصف أن تكفّ عن شتـم آلهتهم, ويَدَعُوك وإلهك قال: فقال: «أيْ عَمّ أوَلا أدْعُوهُمْ إلـى ما هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْها؟» قال: وإلام تدعوهم؟ قال: «أدعوهم إلـى أنْ يَتَكَلّـمُوا بِكَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ ويَـمْلِكُونَ بِها العَجَمَ» قال: فقال أبو جهل من بـين القوم: ما هي وأبـيك لنعطينكها وعشر أمثالها, قال: «تَقُولونَ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ». قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه, قال: «لَوْ جِئْتُـمُونِـي بـالشّمْسِ حتـى تَضَعُوها فِـي يَدِي ما سأَلْتُكُمْ غَيَرها» قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابـا وقالوا: والله لنشتـمنك والذي يأمرك بهذا وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا علـى آلِهَتِكُمْ إنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ... إلـى قوله: إلاّ اخْتِلاقٌ وأقبل علـى عمه, فقال له عمه: يا ابن أخي ما شططت علـيهم, فأقبل علـى عمه فدعاه, فقال: «قلْ كَلِـمَةً أشْهَدُ لَكَ بِها يَوْمَ القـيامَةِ, تَقُولُ: لا إلَهَ إلاّ اللّهُ», فقال: لولا أن تعيبكم بها العرب يقولون جزع من الـموت لأعطيتكها, ولكن علـى ملّة الأشياخ قال: فنزلت هذه الاَية إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
22835ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا علـى آلهَتِكُمْ إنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلـى أبـي طالب فكلـموه فـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الـمشركين فـي القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاق: أي كذب اختلقه مـحمد وتـخرّصه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22836ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ يقول: تـخريص.
22837ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ قال: كذب.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ: يقول: كذب.
22838ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ إلا شيء تـخْـلُقه.
22839ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ اختلقه مـحمد صلى الله عليه وسلم.
22840ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتلاقٌ قالوا: إن هذا إلا كذب.
الآية : 8 -9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهّابِ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الـمشركين من قريش: أأُنزل علـى مـحمد الذكر من بـيننا فخُصّ به, ولـيس بأشرف منا حسبـا. وقوله: بَلْ هُمْ فِـي شَكّ مِنْ ذِكرِي يقول تعالـى ذكره: ما بهؤلاء الـمشركين أن لا يكونوا أهل علـم بأن مـحمدا صادق, ولكنهم فـي شكّ من وحينا إلـيه, وفـي هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيه أنه من عندنا بَلْ لَـمّا يَذُوقُوا عَذَابِ يقول بل لـم ينزل بهم بأسنا, فـيذوقوا وبـال تكذيبهم مـحمدا, وشكهم فـي تنزيـلنا هذا القرآن علـيه, ولو ذاقوا العذاب علـى ذلك علـموا وأيقنوا حقـيقة ما هم به مكذّبون, حين لا ينفعهم علـمهم أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ يقول تعالـى ذكره: أم عند هؤلاء الـمشركين الـمنكرين وحي الله إلـى مـحمد خزائن رحمة ربك, يعنـي مفـاتـيح رحمة ربك يا مـحمد, العزيز فـي سلطانه, الوهاب لـمن يشاء من خـلقه, ما يشاء من مُلك وسلطان ونبوّة, فـيـمنعوك يا مـحمد, ما منّ الله به علـيك من الكرامة, وفضّلك به من الرسالة.
الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ لَهُم مّلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسْبَابِ * جُندٌ مّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحَزَابِ }.
يقول تعالـى ذكره: أم لهؤلاء الـمشركين الذين هم فـي عزّة وشقاق مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضِ وَما بَـيْنَهُما فإنه لا يُعازّنـي ويُشاقّنـي من كان فـي مُلكي وسلطانـي. وقوله: فَلْـيَرتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: وإن كان لهم مُلك السموات والأرض وما بـينهما, فلـيصعدوا فـي أبواب السماء وطرقها, فإن كان له مُلك شيء لـم يتعذّر علـيه الإشراف علـيه, وتفقّده وتعهّده.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الأسبـاب التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عُنِـي بها أبواب السماء. ذكر من قال ذلك:
22841ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَلْـيَرْتَقُوا فـي الأسْبـابِ قال: طرق السماء وأبوابها.
22842ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فـي أبواب السماء.
22843ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: فِـي الأَسْبـابِ قال: أسبـاب السموات.
22844ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ قال: طرق السموات.
22845ـ حُدثت عن الـمـحاربـي, عن جُوَيبر, عن الضحاك أمْ لَهُمْ مُلْكٌ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: إن كان لَهُمْ مُلكُ السّمَوَاتِ والأرضِ وَما بَـيْنَهُما فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فلـيرتقوا إلـى السماء السابعة.
22846ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَلْـيرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فـي السماء. وذكر عن الربـيع بن أنس فـي ذلك ما:
22847ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن الربـيع بن أنس, قال: الأسبـاب: أدقّ من الشعر, وأشدّ من الـحديد, وهو بكلّ مكان, غير أنه لا يرى.
وأصل السبب عند العرب: كل ما تسبّب به إلـى الوصول إلـى الـمطلوب من حبل أو وسيـلة, أو رحم, أو قرابة أو طريق, أو مـحجة وغير ذلك.
وقوله: جُنْدٌ مّا هنالك مَهزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ يقول تعالـى ذكره: هم جُنْدٌ يعنـي الذين فـي عزة وشقاق هنالك, يعنـي: ببدر مهزوم. وقوله: هُنالكَ من صلة مهزوم وقوله: مِنَ الأحْزَابِ يعنـي من أحزاب إبلـيس وأتبـاعه الذين مضوا قبلهم, فأهلكهم الله بذنوبهم. و«مِنْ» من قوله: مِنَ الأحْزَابِ من صلة قوله جند, ومعنى الكلام: هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك, وما فـي قوله: جُنْدٌ ما هُنالكَ صلة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22848ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد جُنْدٌ مّا هُنالكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ قال: قُريش من الأحزاب, قال: القرون الـماضية.
22849ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة جُنْدٌ مّا هُنالكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ قال: وعده الله وهو بـمكة يومئذٍ أنه سيهزم جندا من الـمشركين, فجاء تأويـلها يوم بدر.
وكان بعض أهل العربـية يتأوّل ذلك جُنْدٌ مّا هُنالكَ مغلوب عن أن يصعد إلـى السماء.
الآية : 12 -14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُوْلَـَئِكَ الأحْزَابُ * إِن كُلّ إِلاّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ عِقَابِ }.
يقول تعالـى ذكره: كذّبت قبل هؤلاء الـمشركين من قريش, القائلـين: أجعل الاَلهة إلها واحدا, رسلها, قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.
واختلف أهل العلـم فـي السبب الذي من أجله قـيـل لفرعون ذو الأوتاد, فقال بعضهم: قـيـل ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد, يُـلْعَب له علـيها. ذكر من قال ذلك:
22850ـ حُدثت عن علـيّ بن الهيثم, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس وَفِرْعُوْنَ ذِي الأوْتادِ قال: كانت ملاعب يـلعب له تـحتها.
22851ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَفِرْعُونَ ذُو الأوْتادِ قال: كان له أوتاد وأرسان, وملاعب يـلعب له علـيها.
وقال آخرون: بل قـيـل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بـالأوتاد. ذكر من قال ذلك:
22852ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: ذُو الأوْتادِ قال: كان يعذّب الناسَ بـالأوتاد, يعذّبهم بأربعة أوتاد, ثم يرفع صخرة تُـمَدّ بـالـحبـال, ثم تُلْقـى علـيه فتشدخه.
22853ـ حُدثت عن علـيّ بن الهيثم, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: كان يعذّب الناس بـالأوتاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: ذو البنـيان, قالوا: والبنـيان: هو الأوتاد. ذكر من قال ذلك:
22854ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ذُو الأوْتادِ قال: ذو البنـيان.
وأشبه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عُنِـي بذلك الأوتاد, إما لتعذيب الناس, وإما للعب, كان يُـلْعَب له بها, وذلك أن ذلك هو الـمعروف من معنى الأوتاد, وثمودُ وقومُ لوطٍ وقد ذكرنا أخبـار كلّ هؤلاء فـيـما مضى قبلُ من كتابنا هذا وأصحَابُ الأيْكَةِ يعنـي: وأصحاب الغَيْضة. وكان أبو عمرو بن العلاء فـيـما:
22855ـ حُدثت عن معمر بن الـمثنى, عن أبـي عمرو يقول: الأيكة: الـحَرَجة من النبع والسدر, وهو الـملتفّ منه, قال الشاعر:
أَفَمِنْ بُكاءِ حَمامَةٍ فـي أَيْكَةٍيَرْفَضّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهر الـمَـحمِلِ
يعنـي: مِـحْمَل السيف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22856ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأصْحابُ الأيْكَةِ قال: كانوا أصحاب شجر, قال: وكان عامّة شجرهم الدّوْم.
22857ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وأصحَابُ الأَيْكَةِ قال: أصحاب الغَيْضة.
وقوله: أُولَئِكَ الأحْزَابُ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الـجماعات الـمـجتـمعة, والأحزاب الـمتـحزّبة علـى معاصي الله والكفر به, الذين منهم يا مـحمد مشركو قومك, وهم مسلوك بهم سبـيـلهم إنْ كُلّ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ يقول: ما كلّ هؤلاء الأمـم إلا كذّب رسل الله وهي فـي قراءة عبد الله كما ذكر لـي: «إنْ كُلّ لَـمّا كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ عِقابِ» يقول: يقول: فوجب علـيهم عقاب الله إياهم, كما:
22858ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنْ كُلّ إلاّ كَذّبَ الرُسُلَ فَحَقّ عِقابِ قال: هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل, فحقّ علـيهم العذاب.
الآية : 15-16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا يَنظُرُ هَـَؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُواْ رَبّنَا عَجّل لّنَا قِطّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ }.
يقول تعالـى ذكره: وَما يَنْظرُ هَؤُلاءِ الـمشركون بـالله من قُريش إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعنـي بـالصيحة الواحدة: النفخة الأولـى فـي الصور ما لَهَا مِنْ فَوَاقِ يقول: ما لتلك الصيحة من فـيقة, يعنـي من فتور ولا انقطاع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22859ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعنـي: أمة مـحمد ما لهَا مِنْ فَوَاقٍ.
22860ـ حدثنا أبو كُرَيْب, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن إسماعيـل بن رافع, عن يزيد بن زياد, عن رجل من الأنصار, عن مـحمد بن كعب القرظي, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ لـمّا فَرَغَ مِنْ خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَـلَقَ الصّورَ, فَأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ, فَهُوَ وَاضِعُهُ علـى فِـيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلـى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتـى يُؤْمَرُ». قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: «قَرْنٌ», قال: كيف هو؟ قال: «قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فِـيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ الأُولـى, والثّانِـيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ, والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِـيامِ لِرَبّ العالَـمِينَ, يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافـيـلَ بـالنّفْخَةِ الأُولـى, فَـيَقُولُ: انْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَـيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ, وَيَأْمُرُهُ اللّهُ فَـيُدِيـمُها وَيُطَوّلَها, فَلا يَفْتَرُ وَهِيَ التـي يَقُولُ اللّهُ وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَها مِنْ فَوَاقٍ».
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فقال بعضهم: يعنـي بذلك: ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع. ذكر من قال ذلك:
22861ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: من تَرداد.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: ما لها من رجعة.
22862ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ قال: من رجوع.
22863ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يعنـي الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء الـمشركين بعد ذلك إفـاقة ولا رجوع إلـى الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
22864ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: لـيس لهم بعدها إفـاقة ولا رجوع إلـى الدنـيا.
وقال آخرون: الصيحة فـي هذا الـموضع: العذاب. ومعنى الكلام: ما ينتظر هؤلاء الـمشركون إلا عذابـا يهلكهم, لا إفـاقة لهم منه. ذكر من قال ذلك:
22865ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ قال: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق, يا لها من صيحة لا يفـيقون فـيها كما يفـيق الذي يغشى علـيه وكما يفـيق الـمريض تهلكهم, لـيس لهم فـيها إفـاقة.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة مِنْ فَوَاقٍ بفتـح الفـاء. وقرأته عامة أهل الكوفة: «مِنْ فُوَاقٍ» بضم الفـاء.
واختلف أهل العربـية فـي معناها إذا قُرئت بفتـح الفـاء وضمها, فقال بعض البصريـين منهم: معناها, إذا فتـحت الفـاء: ما لها من راحة, وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بـين الـحلبتـين. وكان بعض الكوفـيـين منهم يقول: معنى الفتـح والضمّ فـيها واحد, وإنـما هما لغتان مثل السّوَاف والسّواف, وجَمام الـمكوك وجُمامة, وقَصاص الشعر وقُصاصة.
والصواب من القول فـي ذلك أنهما لغتان, وذلك أنا لـم نـجد أحدا من الـمتقدمين علـى اختلافهم فـي قراءته يفرّقون بـين معنى الضمّ فـيه والفتـح, ولو كان مختلف الـمعنى بـاختلاف الفتـح فـيه والضم, والضم, لقد كانوا فرقوا بـين ذلك فـي الـمعنى. فإذ كان ذلك كذلك, فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب وأصل ذلك من قولهم: أفـاقت الناقة, فهي تفـيق إفـاقة, وذلك إذا رَدّت ما بـين الرضعتـين ولدها إلـى الرضعة الأخرى, وذلك أن ترضع البهيـمة أمها, ثم تتركها حتـى ينزل شيء من اللبن, فتلك الإفـاقة يقال إذا اجتـمع ذلك فـي الضرع فـيقة, كما قال الأعشى:
حتـى إذَا فِـيْقَةٌ فِـي ضَرْعِها اجْتَـمَعَتْجاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقّ النّفْسِ لوْ رَضِعا
وقوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يوْم الـحِسابِ يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الـمشركون بـالله من قريش: يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القـيامة. والقِطّ فـي كلام العرب: الصحيفة الـمكتوبة ومنه قول الأعشى:
وَلا الـمَلِكُ النّعْمانُ يَوْمَ لَقِـيتُهُبنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأْفِقُ
يعنـي بـالقُطوط: جمع القِط, وهي الكتب بـالـجوائز.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أراد هؤلاء الـمشركون بـمسألتهم ربهم تعجيـل القطّ لهم, فقال بعضهم: إنـما سألوا ربهم تعجيـل حظهم من العذاب الذي أعدّ لهم فـي الاَخرة فـي الدنـيا, كما قال بعضهم: إنْ كانَ هَذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أو أئْتِنا بَعَذَابٍ ألِـيـمٍ. ذكر من قال ذلك:
22866ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا يقول: العذاب.
حدثنـي مـحمد بن سعيد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنا يَوْمَ الـحِسابِ قال: سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القـيامة.
22867ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: عذابنا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: عذابنا.
22868ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسابِ: أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القـيامة, قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهمّ إن كان ما يقول مـحمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ... الاَية.
وقال آخرون: بل إنـما سألوا ربهم تعجيـل أنصبـائهم ومنازلهم من الـجنة حتـى يروها فـيعلـموا حقـيقة ما يعدهم مـحمد صلى الله عليه وسلم فـيؤمنوا حينئذٍ به ويصدّقوه. ذكر من قال ذلك:
22869ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قالوا: أرنا منازلنا فـي الـجنة حتـى نتابعك.
وقال آخرون: مسألتهم نصيبهم من الـجنة, ولكنهم سألوا تعجيـله لهم فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
22870ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ثابت الـحدّاد, قال: سمعت سعيد بن جُبَـير يقول فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسابِ قال: نصيبنا من الـجنة.
وقال آخرون: بل سألوا ربهم تعجيـل الرزق. ذكر من قال ذلك:
22871ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ, قال: حدثنا أشعث السجستانـي, قال: حدثنا شعبة, عن إسماعيـل بن أبـي خالد فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: رزقنا.
وقال آخرون: سألوا أن يعجل لهم كتبهم التـي قال الله فأمّا مَنْ أوتِـيَ كِتابَهُ بـيَـمِينِهِ. وَأمّا مَنْ أُوتِـيَ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ فـي الدنـيا, لـينظروا بأيـمانهم يُعْطَوْنها أم بشمائلهم؟ ولـينظروا مِن أهل الـجنة هم, أم من أهل النار قبل يوم القـيامة استهزاء منهم بـالقرآن وبوعد الله.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيـل صكاكهم بحظوظهم من الـخير أو الشرّ الذي وعد الله عبـاده أن يؤتـيهموها فـي الاَخرة قبل يوم القـيامة فـي الدنـيا استهزاء بوعيد الله.
وإنـما قلنا إن ذلك كذلك, لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بـالـجوائز والـحظوظ, وقد أخبر الله عن هؤلاء الـمشركين أنهم سألوه تعجيـل ذلك لهم, ثم أتبع ذلك قوله لنبـيه: اصْبِرْ علـى ما يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم لو لـم تكن علـى وجه الاستهزاء منهم لـم يكن بـالذي يتبع الأمر بـالصبر علـيه, ولكن لـما كان ذلك استهزاء, وكان فـيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذى, أمره الله بـالصبر علـيه حتـى يأتـيه قضاؤه فـيهم, ولـما لـم يكن فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا بـيان أيّ القطوط إرادتهم, لـم يكن لـما توجيه ذلك إلـى أنه معنـيّ به القُطوط ببعض معانـي الـخير أو الشرّ, فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بـما ذكرت من حظوظهم من الـخير والشرّ