تفسير الطبري تفسير الصفحة 499 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 499
500
498
 سورة الجاثية مكية
وآياتها سبع وثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1-3
القول في تأويل قوله تعالى: {حمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ }.
قد تقدم بياننا في معنى قوله: حم. وأما قوله: تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ فإن معناه: هذا تنزيل القرآن من عند الله العَزِيزِ في انتقامه من أعدائه الحَكِيمِ في تدبيره أمر خلقه.
وقوله: إنّ فِي السّمَواتِ والأرْضِ لاََياتٍ للْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره: إن في السموات السبع اللاتي منهنّ نزول الغيث, والأرض التي منها خروج الخلق أيها الناس لاََياتٍ للْمُؤْمِنِينَ يقول: لأدلة وحججا للمصدّقين بالحجج إذا تبيّنوها ورأوها.
الآية : 4
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَآبّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وفي خلق الله إياكم أيها الناس, وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدبّ عليها من غير جنسكم آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني: حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء, فيقرّون بها, ويعلمون صحتها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة آياتٌ رفعا على الابتداء, وترك ردّها على قوله: لاََياتٍ للْمُؤْمِنِينَ, وقرأته عامة قرّاء الكوفة «آياتٍ» خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله: لاََياتٍ للْمُؤْمِنِينَ. وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك, لأنه في قراءة أُبيّ في الاَيات الثلاثة «لاََياتٍ» باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلاً لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض, وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة, لأن لا رواية بذلك عن أُبي صحيحة, وأبيّ لو صحّت به عنه رواية, ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرأه خفضا, بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرأه رفعا, إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها «إن», مع ابتدائهم إياه, كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ:
إنّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌوَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمَمّا أحْقُرُ
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه «إن» إذ كان الكلام, وإن ابتدىء منويا فيه إن.
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال: إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
الآية : 5
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مّن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
يقول تبارك وتعالى: وفي اخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ أيها الناس, تعاقبهما عليكم, هذا بظلمته وسواده وهذا بنوره وضيائه وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ رِزْقٍ وهو الغيث الذي به تخرج الأرض أرزاق العباد وأقواتهم, وإحيائه الأرض بعد موتها: يقول: فأنبت ما أنزل من السماء من الغيْث ميت الأرض, حتى اهتزّت بالنبات والزرع من بعد موتها, يعني: من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها دائرة لا نبت فيها ولا زرع.
وقوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ يقول: وفي تصريفه الرياح لكم شمالاً مرّة, وجنوبا أخرى, وصبّا أحيانا, ودبورا أخرى لمنافعكم.
وقد قيل: عنى بتصريفها بالرحمة مرّة, وبالعذاب أخرى. ذكر من قال ذلك:
24109ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ قال: تصريفها إن شاء جعلها رحمة وإن شاء جعلها عذابا.
وقوله: آياتٌ لِقَوْم يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره: في ذلك أدلة وحجج لله على خلقه, لقوم يعقلون عن الله حججه, ويفهمون عنه ما وعظه به من الاَيات والعِبر.
الآية : 6
القول في تأويل قوله تعالى:{تَلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: هذه الاَيات والحجج يامحمد من ربك على خلقه نتلوها عليك بالحقّ: يقول: نخبرك عنها بالحقّ لا بالباطل, كما يخبر مشركو قومك عن آلهتهم بالباطل, أنها تقرّبهم إلى الله زُلْفَى, فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون: يقول تعالى ذكره للمشركين به: فبأيّ حديث أيها القوم بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم, وبعد حججه عليكم وأدلته التي دلكم بها على وحدانيته من أنه لا ربّ لكم سواه, تصدّقون, إن أنتم كذّبتم لحديثه وآياته. وهذا التأويل على مذهب قراءة من قرأ «تُؤْمِنُونَ» على وجه الخطاب من الله بهذا الكلام للمشركين, وذلك قراءة عامة قرّاء الكوفيين. وأما على قراءة من قرأه يُؤْمِنون بالياء, فإن معناه: فبأيّ حديث يا محمد بعد حديث الله الذي يتلوه عليك وآياته هذه التي نبه هؤلاء المشركين عليها, وذكّرهم بها, يؤمن هؤلاء المشركون, وهي قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة, ولكلتا القراءتين وجه صحيح, وتأويل مفهوم, فبأية القراءتين قرأ ذلك القارىء فمصيب عندنا, وإن كنت أميل إلى قراءته بالياء إذ كانت في سياق آيات قد مضين قبلها على وجه الخبر, وذلك قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ و لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
الآية : 7-8
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىَ عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: الوادي السائل من صديد أهل جهنم, لكلّ كذّاب ذي إثم بربه, مفتر عليه, يَسْمَعُ آياتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ يقول: يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه ثُمّ يُصِرّ على كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه, ولا راجع عنه مُسْتَكْبِرا على ربه أن يذعن لأمره ونهيه كأنْ لَمْ يَسْمَعْها يقول: كأن لم يسمع ما تلي عليه من آيات الله بإصراره على كفره فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ يقول: فبشر يا محمد هذا الأفّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له. أليم: يعني موجع في نار جهنم يوم القيامة.
الآية : 9
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ }.
يقول تعالى ذكره: وَإِذَا عَلِمَ هذا الأفّاك الأثيم مِنْ آيات الله شَيْئا اتّخَذَها هُزُوا: يقول: اتخذ تلك الاَيات التي علمها هزوا, يسخر منها, وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت إنّ شَجَرَةَ الزّقّوم طَعامُ الأثِيمِ إذ دعا بتمر وزبد فقال: تزقموا من هذا, ما يعدكم محمد إلاّ شهدا, وما أشبه ذلك من أفعالهم.
وقوله: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل, وهم الذين يسمعون آيات الله تُتلى عليهم ثم يصرّون على كفرهم استكبارا, ويتخذون آيات الله التي علموها هزوا, لهم يوم القيامة من الله عذاب مهين يهينهم ويذلهم في نار جهنم, بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته, وإنما قال تعالى ذكره: أُولَئِكَ فجمع. وقد جرى الكلام قبل ذلك ردّا للكلام إلى معنى الكلّ في قوله: وَيْلٌ لِكُلّ أفّاكٍ أثِيمٍ.
الآية : 10
القول في تأويل قوله تعالى: {مّن وَرَآئِهِمْ جَهَنّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن وراء هؤلاء المستهزئين بآيات الله, يعني من بين أيديهم. وقد بيّنا العلة التي من أجلها قيل لما أمامك, هو وَرَاءك, فيما مضى بما أغنى عن إعادته يقول: من بين أيديهم نار جهنم هم واردوها, ولا يغنيهم ما كسبوا شيئا: يقول: ولا يغني عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذّبوا به ما كسبوا في الدنيا من مال وولد شيئا.
وقوله: وَلا ما اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياءَ يقول: ولا آلهتهم التي عبدوها من دون الله, ورؤساؤهم, وهم الذين أطاعوهم في الكفر بالله, واتخذوهم نُصراء في الدنيا, تغني عنهم يومئذٍ من عذاب جهنم شيئا ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يقول: ولهم من الله يومئذٍ عذاب في جهنم عظيم.
الآية : 11
القول في تأويل قوله تعالى: {هَـَذَا هُدًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنزلناه على محمد هدى: يقول: بيان ودليل على الحقّ, يهدي إلى صراط مستقيم, من اتبعه وعمل بما فيه وَالّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ رَبهِمْ يقول: والذين جحدوا ما في القرآن من الاَيات الدالات على الحقّ, ولم يصدّقوا بها, ويعملوا بها, لهم عذاب أليم يوم القيامة موجع.
الآية : 12
القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: الله أيها القوم, الذي لا تنبغي الألوهة إلاّ له, الذي أنعم عليكم هذه النعم, التي بيّنها لكم في هذه الاَيات, وهو أنه سَخّرَ لَكُم الْبَحْر لِتَجْرِيَ السفن فيه بأمره لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها, ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به, وينهاكم عنه.
الآية : 13
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَسَخّرَ لَكُمْ ما في السّمَوَاتِ من شمس وقمر ونجوم وَما فِي الأرْضِ من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم جَمِيعا منه. يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم, نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم, وفضل منه تفضّل به عليكم, فإياه فاحمدوا لا غيره, لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك, بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه, ومن نعمه فلا تجعلوا له في شكركم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة, وأخلصوا له الألوهة, فإنه لا إله لكم سواه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24110ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَسَخّرَ لَكُمْ ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ جَمِيعا مِنْهُ يقول: كل شيء هو من الله, وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه, فذلك جميعا منه, ولا ينازعه فيه المنازعون, واستيقن أنه كذلك.
وقوله: إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْم يَتَفَكّرُونَ يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله لكم ما أنبأكم أيها الناس أنه سخره لكم في هاتين الاَيتين لاَياتٍ يقول: لعلامات ودلالات على أنه لا إله لكم غيره, الذي أنعم عليكم هذه النعم, وسخر لكم هذه الأشياء التي لا يقدر على تسخيرها غيره لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته, فيعتبرون بها ويتعظون إذا تدبروها, وفكّروا فيها