تفسير الطبري تفسير الصفحة 50 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 50
051
049
 الآية : 1-2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الَمَ * اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ }
قال أبو جعفر: قد أتـينا علـى البـيان عن معنى قوله: {الـم} فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع, وكذلك البـيان عن قوله {اللّهُ}. وأما معنى قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ} فإنه خبر من الله جلّ وعزّ أخبر عبـاده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الاَلهة والأنداد, وأن العبـادة لا تصلـح ولا تـجوز إلا له لانفراده بـالربوبـية, وتوحده بـالألوهية, وأن كل ما دونه فملكه, وأن كل ما سواه فخـلقه, لا شريك له فـي سلطانه وملكه¹ احتـجاجا منه تعالـى ذكره علـيهم بأن ذلك إذ كان كذلك, فغير جائزة لهم عبـادة غيره, ولا إشراك أحد معه فـي سلطانه, إذ كان كل معبود سواه فملكه, وكل معظم غيره فخـلقه, وعلـى الـمـملوك إفراد الطاعة لـمالكه, وصرف خدمته إلـى مولاه ورازقه. ومعرفـا من كان من خـلقه يوم أنزل ذلك إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, بتنزيـله ذلك إلـيه, وإرساله به إلـيهم علـى لسانه صلوات الله علـيه وسلامه, مقـيـما علـى عبـادة وثن أو صنـم أو شمس أو قمر أو إنسي أو ملك أو غير ذلك من الأشياء التـي كانت بنو آدم مقـيـمة علـى عبـادته وإلاهته, ومتـخذته دون مالكه وخالقه إلها وربـا, أنه مقـيـم علـى ضلالة, ومنعزل عن الـمـحجة, وراكب غير السبـيـل الـمستقـيـمة بصرفه العبـادة إلـى غيره ولا أحد له الألوهية غيره.
وقد ذكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيـله فـاتـحتها بـالذي ابتدأ به من نفـي الألوهية أن يكون لغيره ووصفُه نفسه بـالذي وصفها به ابتدائها احتـجاجا منه بذلك علـى طائفة من النصارى قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نـجران, فحاجّوه فـي عيسى صلوات الله علـيه, وألـحدوا فـي الله, فأنزل الله عز وجل فـي أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نـيفـا وثلاثـين آية من أولها, احتـجاجا علـيهم وعلـى من كان علـى مثل مقالتهم لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, فأبوا إلا الـمقام علـى ضلالتهم وكفرهم, فدعاهم إلـى الـمبـاهلة, فأبوا ذلك وسألوا قبول الـجزية منهم, فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم, وانصرفوا إلـى بلادهم. غير أن الأمر وإن كان كذلك وإياهم قصد بـالـحِجاج, فإن من كان معناه من سائر الـخـلق معناهم فـي الكفر بـالله, واتـخاذ ما سوى الله ربـا وإلها ومعبودا, معمومون بـالـحجة التـي حجّ الله تبـارك وتعالـى بها من نزلت هذه الاَيات فـيه, ومـحجوجون فـي الفرقان الذي فرق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بـينه وبـينهم.
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله فـي نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل فـي الذين وصفنا صفتهم من النصارى:
5264ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر, قال: قدم علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نـجران, ستون راكبـا, فـيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم, فـي الأربعة عشر ثلاثة نفر إلـيهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم, وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه, واسمه عبد الـمسيح. والسيد ثمالهم, وصاحب رحلهم ومـجتـمعهم, واسمه الأيهم. وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل, أسقـفّهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْرَاسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فـيهم ودرس كتبهم حتـى حسن علـمه فـي دينهم, فكانت ملوك الروم من أهل النصرانـية قد شرفوه وموّلوه وأخدموه, وبنوا له الكنائس, وبسطوا علـيه الكرامات, لـما يبلغهم عنه من علـمه واجتهاده فـي دينه. قال ابن إسحاق قال مـحمد بن جعفر بن الزبـير: قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة, فدخـلوا علـيه فـي مسجده حين صلـى العصر, علـيهم ثـياب الـحِبَرات جُبب وأردية فـي بلـحرث بن كعب. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم, فقاموا يصلون فـي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُمْ»! فَصَلّوا إلـى الـمَشْرِقِ. قال: وكانت تسمية الأربع عشر منهم الذين يؤول إلـيهم أمرهم: العاقب وهو عبد الـمسيح, والسيد وهو الأيهم, وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل, وأوس, والـحارث, وزيد, وقـيس, ويزيد, ونبـيه, وخويـلد بن عمرو, وخالد, وعبد الله, ويُحَنّس¹ فـي ستـين راكبـا. فكلـم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة, والعاقب عبد الـمسيح, والأيهم السيد, وهم من النصرانـية علـى دين الـملك مع اختلاف من أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هوَ ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة, وكذلك قول النصرانـية. فهم يحتـجون فـي قولهم: هو الله, بأنه كان يحيـي الـموتـى, ويبرىء الأسقام, ويخبر بـالغيوب, ويخـلق من الطين كهيئة الطير, ثم ينفخ فـيه فـيكون طائرا, وذلك كله بإذن الله, لـيجعله آية للناس. ويحتـجون فـي قولهم: إنه ولد الله, أنهم يقولون: لـم يكن له أب يعلـم, وقد تكلـم فـي الـمهد بشيء لـم يصنعه أحد من ولد آدم من قبله. ويحتـجون فـي قولهم: إنه ثالث ثلاثة, بقول الله عز وجل: «فعلنا» و«أمرنا» و«خـلقنا» و«قضينا», فـيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا «فعلتُ» و«أمرتُ» و«قضيتُ» و«خـلقتُ», ولكنه هو وعيسى ومريـم. ففـي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن, وذكر الله لنبـيه صلى الله عليه وسلم فـيه قولهم. فلـما كلـمه الـحبران, قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسْلِـما»! قالا: قد أسلـمنا. قال: «إنّكُمَا لَـمْ تُسْلِـما, فأسْلِـما»! قالا: بلـى قد أسلـمنا قبلك. قال: «كَذَبْتُـمَا, يَـمْنَعُكُما مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُما لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَدا, وَعِبـادَتُكُما الصّلِـيبَ, وأكْلُكُما الـخِنْزِيرَ». قالا: فمن أبوه يا مـحمد, فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما, فلـم يجبهما, فأنزل الله فـي ذلك من قولهم, واختلاف أمرهم كله, صَدْرَ سورة آل عمران إلـى بضع وثمانـين آية منها, فقال: {اللّهُ لا إلَه إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ} فـافتتـح السورة بتبرئة نفسه تبـارك وتعالـى مـما قالوا, وتوحيده إياها بـالـخـلق والأمر, لا شريك له فـيه, وردّا علـيهم ما ابتدعوا من الكفر, وجعلوا معه من الأنداد, واحتـجاجا علـيهم بقولهم فـي صاحبهم, لـيعرفهم بذلك ضلالتهم, فقال: {اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ} أي لـيس معه شريك فـي أمره.
5265ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {الـم اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ} قال: إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخاصموه فـي عيسى ابن مريـم, وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا علـى الله الكذب والبهتان, لا إله إلا هو, لـم يتـخذ صاحبة ولا ولدا. فقال لهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلاّ وهُوَ يُشْبِهُ أبـاهُ؟» قالوا: بلـى. قال: «ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنَا حَيّ لاَ يَـمُوتُ, وأنّ عِيسَى يَأتِـي عَلَـيْهِ الفَنَاءُ؟». قالوا: بلـى. قال: «ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنا قَـيّـمٌ عَلـى كُلّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ؟». قال: بلـى. قال: «فَهَلْ يَـمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا؟». قالوا: لا. قال: «أفَلَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لاَ يَخْفَـى عَلَـيْهِ شَيْءٌ فِـي الأرْضِ وَلا فِـي السّمَاءِ؟». قالوا: بلـى. قال: «فَهَلْ يَعْلَـمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ ما عُلّـمَ؟» قالوا: لا. قال: «فإنّ رَبّنَا صَوّرَ عِيسَى فِـي الرّحِمِ كَيْفَ شاءَ, فَهَلْ تَعْلَـمُونَ ذَلِكَ؟». قالوا: بلـى. قال: «ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنَا لاَ يَأْكُلُ الطّعامَ ولا يَشْرَبُ الشّرابَ ولا يُحْدِثُ الـحَدث؟». قالوا: بلـى. قال: «ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ عِيسى حَمَلَتْهُ امْرأةٌ كَما تَـحْمِلُ الـمَرأةُ, ثُمّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الـمَرأةُ وَلَدها, ثُمّ غُدّيَ كَما يُغَذّى الصّبِـيّ, ثُمّ كانَ يَطْعَمُ الطّعَامَ وَيَشْرَبُ الشّراب ويُحْدِثُ الـحَدث؟». قالوا: بلـى. قال: «فَكَيْفَ يَكونُ هَذَا كمَا زعَمْتُـمْ؟». قال: فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا, فأنزل الله عز وجل: {الـم اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الـحَيّ القَـيّومُ}.
اختلفت القراء فـي ذلك, فقرأته قراء الأمصار: {الـحَيّ القَـيّومُ}. وقرأ ذلك عمر بن الـخطاب وابن مسعود فـيـما ذكر عنهما: «الـحَيّ القَـيّامُ». وذكر عن علقمة بن قـيس أنه كان يقرأ: «الـحَيّ القَـيّـم».
5266ـ حدثنا بذلك أبو كريب, قال: حدثنا عثام بن علـيّ, قال: حدثنا الأعمش, عن إبراهيـم, عن أبـي معمر, قال: سمعت علقمة يقرأ: «الـحَيّ القَـيّـمُ» قلت: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا الأعمش, عن إبراهيـم, عن أبـي معمر, عن علقمة, مثله.
وقد روي عن علقمة خلاف ذلك, وهو ما:
5267ـ حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا شيبـان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن أبـي معمر, عن علقمة أنه قرأ: «الـحَيّ القَـيّام».
والقراءة التـي لا يجوز غيرها عندنا فـي ذلك, ما جاءت به قراءة الـمسلـمين نقلاً مستفـيضا عن غير تشاعُر ولا تواطؤ وراثةً, وما كان مثبتا فـي مصاحفهم, وذلك قراءة من قرأ {الـحَيّ القَـيّوم}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الـحَيّ}.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: {الـحَيّ} فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالـى ذكره: أنه وصف نفسه بـالبقاء, ونفـى الـموت الذي يجوز علـى من سواه من خـلقه عنها. ذكر من قال ذلك:
5268ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {الـحَيّ} الذي لا يـموت, وقد مات عيسى وصلب فـي قولهم, يعنـي فـي قول الأحبـار الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نـجران.
5269ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {الـحَيّ} قال: يقول: حي لا يـموت.
وقال آخرون: معنى {الـحَيّ} الذي عناه الله عز وجلّ فـي هذه الاَية ووصف به نفسه, أنه الـمتـيسر له تدبـير كل ما أراد وشاء, لا يـمتنع علـيه شيء أراده, وأنه لـيس كمن لا تدبـير له من الاَلهة والأنداد.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الـحياة الدائمة التـي لـم تزل له صفة, ولا تزال كذلك. وقالوا: إنـما وصف نفسه بـالـحياة, لأن له حياة كما وصفها بـالعلـم لأن لها علـما, وبـالقدرة لأن لها قدرة.
ومعنى ذلك عندي: (أنه وصف نفسه بـالـحياة الدائمة التـي لا فناء لها ولا انقطاع, ونفـى عنها ما هو حال يكل ذي حياة من خـلقه, من الفناء, وانقطاع الـحياة عند مـجيء أجله, فأخبر عبـاده أنه الـمستوجب علـى خـلقه العبـادة والألوهة, والـحيّ الذي لا يـموت, ولا يبـيد كما يـموت كل من اتـخذ من دونه ربـا, ويبـيد كلّ من ادّعى من دونه إلها, واحتـجّ علـى خـلقه بأن من كان يبـيد فـيزول ويـموت فـيفنى, فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبـيد ولا يـموت, وأن الإله: هو الدائم الذي لا يـموت ولا يبـيد ولا يفنى, وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {القَـيّوم}. قد ذكرنا اختلاف القراءة فـي ذلك والذي نـختار منه, وما العلة التـي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
فأما تأويـل جميع الوجوه التـي ذكرنا أن القراء قرأت بها فمتقارب, ومعنى ذلك كله: القـيـم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبـيره وتصريفه فـيـما شاء وأحب من تغيـير وتبديـل وزيادة ونقص. كما:
5270ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جل ثناؤه: {الـحَيّ القَـيّومُ} قال: القائم علـى كل شيء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5271ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {القَـيّوم} قـيـم علـى كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه.
وقال آخرون: معنى ذلك القـيام علـى مكانه, ووجهوه إلـى القـيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال, وأن الله عز وجل إنـما نفـى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلـى مكان وحدوث التبدل الذي يحدث فـي الاَدميـين وسائر خـلقه غيرهم. ذكر من قال ذلك:
5272ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن عمر بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {القَـيّوم} القائم علـى مكانه من سلطانه فـي خـلقه لا يزول, وقد زال عيسى فـي قولهم ـ يعنـي فـي قول الأحبـار الذين حاجوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم من أهل نـجران فـي عيسى ـ عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلـى غيره.
وأولـى التأويـلـين بـالصواب, ما قاله مـجاهد والربـيع, وأن ذلك وصف من الله تعالـى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء فـي رزقه والدفع عنه, وكلاءته وتدبـيره وصرفه فـي قدرته, من قول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة, يُعنى بذلك: الـمتولـي تدبـير أمرها. فـالقـيّوم إذ كان ذلك معناه «الفَـيعول» من قول القائل: الله يقول بأمر خـلقه, وأصله القـيووم, غير أن الواو الأولـى من القـيوم لـما سبقتها ياء ساكنة وهي متـحركة قلبت ياء, فجعلت هي والـياء التـي قبلها ياء مشددة, لأن العرب كذلك تفعل بـالواو الـمتـحركة إذا تقدمتها ياء ساكنة. وأما القـيّام, فإن أصله القـيوام, وهو الفَـيْعال, من قام يقوم, سبقت الواو الـمتـحركة من قـيوام ياء ساكنة, فجعلتا جميعا ياء مشددة. ولو أن القـيّوم فعّول, كان القوّوم, ولكنه الفـيعول, وكذلك القـيّام لو كان الفَعّال لكان القوّام, كما قـيـل: الصوّام والقوام, وكما قال جل ثناؤه: {كُونُوا قَوّامِين لِلّهِ شُهَداء بـالقِسْطِ}, ولكنه الفَـيْعال فقال: القـيّام. وأما القـيّـم فهو الفَـيْعِل من قام يقوم, سبقت الواو الـمتـحركة ياء ساكنة فجعلتا ياء مشددة, كما قـيـل: فلان سيد قومه, من ساد يسود, وهذا طعام جيد من جاد يجود, وما أشبه ذلك. وإنـما جاء ذلك بهذه الألفـاظ لأنه قصد به قصد الـمبـالغة فـي الـمدح, فكان القـيّوم والقـيّام والقـيّـم أبلغ فـي الـمدح من القائم. وإنـما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته إن شاء الله «القـيّام», لأن ذلك الغالب علـى منطق أهل الـحجاز فـي ذوات الثلاثة من الـياء والواو, فـيقولون للرجل الصوّاغ: الصيّاغ, ويقولون للرجل الكثـير الدوران الديّار. وقد قـيـل إن قول الله جل ثناؤه: {لا تَذرْ علـى الأرْضِ من الكافرِين ديّار} إنـما هو «دوّارا» «فعّالاً» من دار يدور, ولكنها نزلت بلغة أهل الـحجاز, وأقرّت كذلك فـي الـمصحف.
الآية : 3-4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
يقول جلّ ثناؤه: يا مـحمد إن ربك وربّ عيسى ورب كل شيء, هو الرب الذي أنزل علـيك {الكِتَابَ} يعنـي بـالكتاب: القرآن. {بـالـحقّ} يعنـي بـالصدق فـيـما اختلف فـيه أهل التوراة والإنـجيـل, وفـيـما خالفك فـيه مـحاجوك من نصارى أهل نـجران, وسائر أهل الشرك غيرهم. {مُصَدّقا لـما بَـيْنَ يَدَيْهِ} يعنـي بذلك القرآن, أنه مصدّق لـما كان قبله من كتب الله التـي أنزلها علـى أنبـيائه ورسله, ومـحقق ما جاءت به رسل الله من عنده, لأن منزل جميع ذلك واحد, فلا يكون فـيه اختلاف, ولو كان من عند غيره كان فـيه اختلاف كثـير.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5273ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} قال: لـما قبله من كتاب أو رسول.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {مُصَدّقا لِـمَا بَـينَ يَدَيْهِ} لـما قبله من كتاب أو رسول.
5274ـ حدثنـي مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ} أي بـالصدق فـيـما اختلفوا فـيه.
5275ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} يقول: القرآن مصدّقا لـما بـين يديه من الكتب التـي قد خـلت قبله.
5276ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: ثنـي ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتَابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} يقول: مصدّقا لـما قبله من كتاب ورسول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأنْزَلَ التّوْرَاةَ والإنْـجِيـلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وأنزل التوراة علـى موسى, والإنـجيـل علـى عيسى. {مِنْ قَبْلُ} يقول: من قبل الكتاب الذي نزّله علـيك. ويعنـي بقوله: {هُدًى للنّاسِ} بـيانا للناس من الله, فـيـما اختلفوا فـيه من توحيد الله وتصديق رسله, ومفـيدا يا مـحمد أنك نبـيـي ورسولـي, وفـي غير ذلك من شرائع دين الله. كما:
5277ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وأنْزَلَ التّوْراة والإنْـجِيـلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ} هما كتابـان أنزلهما الله, فـيـما بـيان من الله, وعصمة لـمن أخذ به وصدق به وعمل بـما فـيه.
5278ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وأنْزلَ التّوْراةَ والإنْـجِيـلَ} التوراة علـى موسى, والإنـجيـل علـى عيسى, كما أنزل الكتب علـى من كان قبلهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأنْزَلَ الفُرْقانَ}.
يعنـي جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصل بـين الـحقّ والبـاطل, فـيـما اختلفت فـيه الأحزاب وأهل الـملل فـي أمر عيسى وغيره. وقد بـينا فـيـما مضى أن الفُرقان إنـما هو الفُعلان من قولهم: فرق الله بـين الـحقّ والبـاطل يفصل بـينهما بنصره بـالـحق علـى البـاطل¹ إما بـالـحجة البـالغة, وإما بـالقهر والغلبة بـالأيدي والقوّة.
وبـما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل, غير أن بعضهم وجه تأويـله إلـى أنه فصل بـين الـحق والبـاطل فـي أمر عيسى, وبعضهم إلـى أنه فصل بـين الـحق والبـاطل فـي أحكام الشرائع. ذكر من قال: معناه: الفصل بـين الـحقّ والبـاطل فـي أمر عيسى والأحزاب:
5279ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} أي الفصل بـين الـحقّ والبـاطل, فـيـما اختلف فـيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره.
ذكر من قال: معنى ذلك الفصل بـين الـحقّ والبـاطل فـي الأحكام وشرائع الإسلام:
5280ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ} هو القرآن أنزله علـى مـحمد وفرق به بـين الـحقّ والبـاطل, فأحلّ فـيه حلاله, وحرّم فـيه حرامه, وشرع فـيه شرائعه, وحدّ فـيه حدوده, وفرض فـيه فرائضه, وبـين فـيه بـيانه, وأمر بطاعته, ونهى عن معصيته.
5281ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} قال: الفرقان: القرآن فرق بـين الـحقّ والبـاطل.
والتأويـل الذي ذكرناه عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير فـي ذلك, أولـى بـالصحة من التأويـل الذي ذكرناه عن قتادة والربـيع, وأن يكون معنى الفرقان فـي هذا الـموضع: فصل الله بـين نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم والذي حاجوه فـي أمر عيسى وفـي غير ذلك من أموره بـالـحجة البـالغة القاطعة عُذْرَهم وعُذْرَ نظرائهم من أهل الكفر بـالله.
وإنـما قلنا هذا القول أولـى بـالصواب, لأن إخبـار الله عن تنزيـله القرآن قبل إخبـاره عن تنزيـله التوراة والإنـجيـل فـي هذه الاَية قد مضى بقوله: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره, فلا وجه لتكريره مرّة أخرى, إذ لا فـائدة فـي تكريره, لـيست فـي ذكره إياه وخبره عنه ابتداء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ, وَاللّهُ عَزِيزٌ ذو انْتِقام}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته علـى توحيده وألوهته, وأن عيسى عبد له واتـخذوا الـمسيح إلها وربـا, أو ادّعوه لله ولدا, {لهم عَذَابٌ} من الله {شَدِيدٌ} يوم القـيامة, والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله. وآيات الله: أعلام الله وأدلته وحُججه.
وهذا القول من الله عزّ وجلّ, ينبىء عن معنى قوله: {وأنْزَلَ الفُرْقَانَ} أنه معنـيّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الـحقّ علـى أهل البـاطل لأنه عقب ذلك بقوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ} يعنـي: أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بـين الـمـحقّ والـمبطل, {لهمْ عذابٌ شديدٌ} وعيد من الله لـمن عاند الـحقّ بعد وضوحه له, وخالف سبـيـل الهدى بعد قـيام الـحجة علـيه. ثم أخبرهم أنه عزيز فـي سلطانه لا يـمنعه مانع مـمن أراد عذابه منهم, ولا يحول بـينه وبـينه حائل, ولا يستطيع أن يعانده فـيه أحد, وأنه ذو انتقام مـمن جحد حججه وأدلته, بعد ثبوتها علـيها, وبعد وضوحها له ومعرفته بها.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5282ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامِ} أي أن الله منتقم مـمن كفر بآياته بعد علـمه بها, ومعرفته بـما جاء منه فـيها.
5283ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقام}.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الله لا يخفـى علـيه شيء وهو فـي الأرض ولا شيء وهو فـي السماء. يقول: فـيكف يخفـى علـيّ يا مـحمد, وأنا علام جميع الأشياء, ما يُضَاهَى به هؤلاء الذين يجادلونك فـي آيات الله من نصارى جران فـي عيسى ابن مريـم فـي مقالتهم التـي يقولونها فـيه؟ كما:
5284ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ اللّهَ لا يخفـى علـيه شيءٌ فـي الأرضِ ولا فـي السماءِ} أي قد علـم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فـي عيسى إذ جعلوه ربـا وإلها, وعندهم من علـمه غير ذلك, غرّةً بـالله وكفرا به.
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: الله الذي يصوّركم فـيجعلكم صورا أشبـاحا فـي أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحبّ, فـيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى, وهذا أسود وهذا أحمر. يعرّف عبـاده بذلك أن جميع من اشتـملت علـيه أرحام النساء مـمن صوّره وخـلقه كيف شاء, وأن عيسى ابن مريـم مـمن صوّره فـي رحم أمه وخـلقه فـيها كيف شاء وأحبّ, وأنه لو كان إلها لـم يكن مـمن اشتـملت علـيه رحم أمه, لأن خلاّق ما فـي الأرحام لا تكون الأرحام علـيه مشتـملة, وإنـما تشتـمل علـى الـمخـلوقـين. كما:
5285ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِـي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ} قد كان عيسى مـمن صُوّر فـي الأرحام, لا يدفعون ذلك, ولا ينكرونه, كما صور غيره من بنـي آدم, فكيف يكون إلها وقد كان بذلك الـمنزل؟
5286ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {هُوَ الّذِي يُصوّرَكُمْ فِـي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} أي أنه صور عيسى فـي الرحم كيف شاء.
وقال آخرون فـي ذلك, ما:
5287ـ حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, عن أبـي مالك, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم قوله: {هُو الّذِي يُصوّرُكُمْ فـي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} قال: إذا وقعت النطفة فـي الأرحام, طارت فـي الـجسد أربعين يوما, ثم تكون علقة أربعين يوما, ثم تكون مضغة أربعين يوما, فإذا بلغ أن يخـلق بعث الله ملكا يصوّرها, فـيأتـي الـملك بتراب بـين أصبعيه, فـيخـلطه فـي الـمضغة ثم يعجنه بها ثم يصوّرها كما يؤمر, فـيقول: أذكر أو أنثى, أشقـيّ أو سعيد, وما رزقه, وما عمره, وما أثره, وما مصائبه؟ فـيقول الله, ويكتب الـملك. فإذا مات ذلك الـجسد, دفن حيث أخذ ذلك التراب.
5288ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {هُوَ الّذِي يُصوّرُكُمْ فـي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ} قادر والله ربنا أن يصوّر عبـاده فـي الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى, أو أسود أو أحمر, تام خـلقه وغير تام.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكيـمُ}.
وهذا القول تنزيه من الله تعالـى ذكره نفسه أن يكون له فـي ربوبـيته ندّ أو مثل أو أن تـجوز الألوهة لغيره, وتكذيب منه للذين قالوا فـي عيسى ما قالوا من وفد نـجران الذين قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسائر من كان علـى مثل الذي كانوا علـيه من قولهم فـي عيسى, ولـجميع من ادّعى مع الله معبودا, أو أقرّ بربوبـية غيره. ثم أخبر جل ثناؤه خـلقه بصفته وعيدا منه لـمن عبد غيره أو أشرك فـي عبـادته أحدا سواه, فقال: {هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد, ولا ينـجيه منه وأْلٌ ولا لَـجَأٌ, وذلك لعزّته التـي يذلّ لها كل مخـلوق, ويخضع لها كل موجود. ثم أعلـمهم أنه الـحكيـم فـي تدبـيره, وإعذاره إلـى خـلقه, ومتابعة حججه علـيهم, لـيهلك من هلك منهم عن بـينة, ويحيا من حيّ عن بـينة. كما:
5289ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير, قال: ثم قال: ـ يعنـي الربّ عزّ وجلّ إنزاها لنفسه, وتوحيدا لها مـما جعلوا معه ـ {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} قال: العزيز فـي نصرته مـمن كفر به إذا شاء, والـحكيـم فـي عذره وحجته إلـى عبـاده.
5290ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} يقول: عزيز فـي نقمته, حكيـم فـي أمره.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} أن الله الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء, {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} يعنـي بـالكتاب: القرآن. وقد أتـينا علـى البـيان فـيـما مضى عن السبب الذي من أجله سُمّي القرآن كتابـا بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فإنه يعنـي من الكتاب آيات, يعنـي بـالاَيات آيات القرآن. وأما الـمـحكمات: فإنهنّ اللواتـي قد أحكمن بـالبـيان والتفصيـل, وأثبتت حججهن وأدلتهن علـى ما جعلن أدلة علـيه من حلال وحرام, ووعد ووعيد, وثواب وعقاب, وأمر وزجر, وخبر ومثل, وعظة وعبر, وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الاَيات الـمـحكمات بأنهنّ هنّ أمّ الكتاب, يعنـي بذلك أنهنّ أصل الكتاب الذي فـيه عماد الدين والفرائض والـحدود, وسائر ما بـالـخـلق إلـيه الـحاجة من أمر دينهم, وما كلفوا من الفرائض فـي عاجلهم وآجلهم. وإنـما سماهنّ أم الكتاب, لأنهنّ معظم الكتاب, وموضع مفزع أهله عند الـحاجة إلـيه, وكذلك تفعل العرب, تسمي الـجامع معظم الشيء أُمّا له, فتسمي راية القوم التـي تـجمعهم فـي العساكر أمهم, والـمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بـينا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. ووحد أمّ الكتاب, ولـم يجمع فـيقول: هنّ أمهات الكتاب, وقد قال هنّ لأنه أراد جميع الاَيات الـمـحكمات أمّ الكتاب, لا أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب, ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب, لكان لا شكّ قد قـيـل: هنّ أمهات الكتاب. ونظير قول الله عزّ وجلّ: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} علـى التأويـل الذي قلنا فـي توحيد الأم وهي خبر لـ«هُنّ» قوله تعالـى ذكره: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ آيَةً} ولـم يقل آيتـين, لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية, إذ كان الـمعنى واحدا فـيـما جُعلا فـيه للـخـلق عبرة. ولو كان مراده الـخبر عن كل واحد منهما علـى انفراده, بأنه جعل للـخـلق عبرة, لقـيـل: وجعلنا ابن مريـم وأمه آيتـين¹ لأنه قد كان فـي كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريـم ولدت من غير رجل, ونطق ابنها فتكلـم فـي الـمهد صبـيا, فكان فـي كل واحد منهما للناس آية.
وقد قال بعض نـحويـي البصرة: إنـما قـيـل: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} ولـم يقل: «هنّ أمهات الكتاب» علـى وجه الـحكاية, كما يقول الرجل: ما لـي أنصار, فتقول: أنا أنصارك, أو ما لـي نظير, فتقول: نـحن نظيرك. قال: وهو شبـيه «دعنـي من تـمرتان», وأنشد لرجل من فقعس:
تَعَرّضَتْ لِـي بِـمَكانٍ حَلّتَعَرّضَ الـمُهْرَةِ فـي الطّوَلّ
تَعَرّضا لَـمْ تَأْلُ عَنْ قَتْلاً لِـي
حَلّ أي يحلّ به, علـى الـحكاية, لأنه كان منصوبـا قبل ذلك, كما يقول: نودي: الصلاةَ الصلاةَ, يحكي قول القائل: الصلاةَ الصلاةَ! وقال: قال بعضهم: إنـما هي أن قتلاً لـي, ولكنه جعله «عن» لأن أن فـي لغته تـجعل موضعها «عن» والنصب علـى الأمر, كأنك قلت: ضربـا لزيد. وهذا قول لا معنى له, لأن كل هذه الشواهد التـي استشهد بها, لا شكّ أنهنّ حكايات حالتهن بـما حكي عن قول غيره وألفـاظه التـي نطق بهنّ, وأن معلوما أن الله جلّ ثناؤه لـم يحك عن أحد قوله: أمّ الكتاب, فـيجوز أن يقال: أخرج ذلك مخرج الـحكاية عمن قال ذلك كذلك.
وأما قوله {وأُخرَ} فإنها جمع أخرى.
ثم اختلف أهل العربـية فـي العلة التـي من أجلها لـم يصرف «أُخر», فقال بعضهم: لـم يصرف أُخَر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى, كما لـم تصرف جُمع وكُتع, لأنهنّ نعوت.
وقال آخرون: إنـما لـم تصرف الأُخَر لزيادة الـياء التـي فـي واحدتها, وأن جمعها مبنـي علـى واحدها فـي ترك الصرف, قالوا: وإنـما ترك صرف أخرى, كما ترك صرف حمراء وبـيضاء فـي النكرة والـمعرفة لزيادة الـمدة فـيها والهمزة بـالواو, ثم افترق جمع حمراء وأخرى, فبنى جمع أخرى علـى واحدته, فقـيـل: فُعَل أُخَر, فترك صرفها كما ترك صرف أخرى, وبنى جمع حمراء وبـيضاء علـى خلاف واحدته, فصرف, فقـيـل حُمْر وبِـيض. فلاختلاف حالتـيهما فـي الـجمع اختلف إعرابهما عندهم فـي الصرف, ولاتفـاق حالتـيهما فـي الواحدة اتفقت حالتهما فـيها.
وأما قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} فإن معناه: متشابهات فـي التلاوة, مختلفـات فـي الـمعنى, كما قال جلّ ثناؤه: {وأتُوُا بِهِ مُتَشابِه} يعنـي فـي الـمنظر: مختلفـا فـي الـمطعم, وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بنـي إسرائيـل أنه قال: {إنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَ} يعنون بذلك: تشابه علـينا فـي الصفة, وإن اختلفت أنواعه.
فتأويـل الكلام إذا: إن الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء, هو الذي أنزل علـيك يا مـحمد القرآن, منه آيات مـحكمات بـالبـيان, هنّ أصل الكتاب الذي علـيه عمادك وعماد أمتك فـي الدين, وإلـيه مفزعك ومفزعهم فـيـما افترضت علـيك وعلـيهم من شرائع الإسلام, وآيات أخر هنّ متشابهات فـي التلاوة, مختلفـات فـي الـمعانـي.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أمّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} وما الـمـحكم من آي الكتاب, وما الـمتشابه منه؟
فقال بعضهم: الـمـحكمات من آي القرآن: الـمعمول بهنّ, وهن الناسخات, أو الـمثبتات الأحكام¹ والـمتشابهات من آية: الـمتروك العمل بهن, الـمنسوخات. ذكر من قال ذلك:
5291ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام, عمن حدثه, عن ابن عبـاس فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: هي الثلاث الاَيات التـي ههنا: {قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَـيْكُمْ} إلـى ثَلاث آيات, والتـي فـي بنـي إسرائيـل: {وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ} إلـى آخر الاَيات.
5292ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} الـمـحكمات: ناسخه, وحلاله, وحرامه, وحدوده, وفرائضه, وما يؤمن به, ويعمل به. قال: {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} والـمتشابهات: منسوخه, ومقدّمه, ومؤخره, وأمثاله, وأقسامه, وما يؤمن به, ولا يعمل به.
5293ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـىَ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} فـالـمـحكمات التـي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به¹ والـمتشابهات: هن الـمنسوخات التـي لا يدان بهن.
5294ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} أما الاَيات الـمـحكمات: فهن الناسخات التـي يعمل بهنّ¹ وأما الـمتشابهات: فهنّ الـمنسوخات.
5295ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أُمّ الكِتابِ} والـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به ما أحلّ الله فـيه حلاله وحرم فـيه حرامه¹ وأما الـمتشابهات: فـالـمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
5296ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: الـمـحكم: ما يعمل به.
5297ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكتاب وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به, والـمتشابهات: الـمنسوخ الذي لا يعمل به, ويؤمن به.
5298ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخات, {وأُخَرَ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما نسخ وترك يتلـى.
حدثنـي ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك بن مزاحم, قال: الـمـحكم ما لـم ينسخ, وما تشابه منه: ما نسخ.
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخ, {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمنسوخ.
5299ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكِتابِ وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الذي يعمل به.
حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يحدث, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} يعنـي: الناسخ الذي يعمل به, {وَأُخَرُ مُتَشابِهات} يعنـي الـمنسوخ, يؤمن به ولا يعمل به.
حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سلـمة, عن الضحاك: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: ما لـم ينسخ, {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما قد نسخ.
وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فـيه بـيان حلاله وحرامه¹ والـمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا فـي الـمعانـي وإن اختلفت ألفـاظه. ذكر من قال ذلك:
5300ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} ما فـيه من الـحلال والـحرام وما سوى ذلك, فهو متشابه يصدّق بعضه بعضا, وهو مثل قوله: {وَما يَضِلّ بِهِ إلاّ الفـاسِقِـينَ}, ومثل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلـى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ},, ومثل قوله: {وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد. مثله.
وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما لـم يحتـمل من التأويـل غير وجه واحد¹ والـمتشابه منه: ما احتـمل من التأويـل أوجها. ذكر من قال ذلك:
5301ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فـيهن حجة الربّ, وعصمة العبـاد, ودفع الـخصوم والبـاطل, لـيس لها تصريف ولا تـحريف عما وضعت علـيه. وأُخر متشابهة فـي الصدق, لهنّ تصريف وتـحريف وتأويـل, ابتلـى الله فـيهنّ العبـاد كما ابتلاهم فـي الـحلال والـحرام, لا يصرفن إلـى البـاطل ولا يحرّفن عن الـحقّ.
وقال آخرون: معنى الـمـحكم: ما أحكم الله فـيه من آي القرآن وقصص الأمـم ورسلهم الذين أرسلوا إلـيهم, ففصله ببـيان ذلك لـمـحمد وأمته. والـمتشابه: هو ما اشتهبت الألفـاظ به من قصصهم عند التكرير فـي السور فقصة بـاتفـاق الألفـاظ واختلاف الـمعانـي, وقصة بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي. ذكر من قال ذلك:
5302ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد وقرأ: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيـمٍ خَبِـيرٍ} قال: وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي أربع وعشرين آية منها, وحديث نوح فـي أربع وعشرين آية منها. ثم قال: {تِلكَ مِنْ أنبـاءِ الغَيْبِ} ثم ذكر: {وَإلـى عاد} فقرأ حتـى بلغ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ} ثم مضى ثم ذكر صالـحا وإبراهيـم ولوطا وشعيبـا, وفرغ من ذلك. وهذا يقـين, ذلك يقـين أحكمت آياته ثم فصلت. قال: والـمتشابه ذكر موسى فـي أمكنة كثـيرة, وهو متشابه, وهو كله معنى واحد ومتشابه: {اسْلُكْ فِـيه} {احْمِلْ فِـيه} {اسْلُكْ يَدَكَ} {أدْخِـلْ يَدَكَ} {حَيّةً تَسْعَى} {ثُعْبَـانٌ مُبِـينٌ}. قال: ثم ذكر هودا فـي عشر آيات منها, وصالـحا فـي ثمانـي آيات منها وإبراهيـم فـي ثمانـي آيات أخرى, ولوطا فـي ثمانـي آيات منها, وشعيبـا فـي ثلاث عشرة آية, وموسى فـي أربع آيات, كل هذا يقضي بـين الأنبـياء وبـين قومهم فـي هذه السورة, فـانتهى ذلك إلـى مائة آية من سورة هود, ثم قال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبـاءِ القُرَى نَقُصّهُ عَلَـيْكَ مِنْها قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}. وقال فـي الـمتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة, يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا, وما شأن هذا لا يكون هكذا؟
وقال آخرون: بل الـمـحكم من آي القرآن: ما عرف العلـماء تأويـله, وفهموا معناه وتفسيره¹ والـمتشابه: ما لـم يكن لأحد إلـى علـمه سبـيـل مـما استأثر الله بعلـمه دون خـلقه, وذلك نـحو الـخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريـم, ووقت طلوع الشمس من مغربها, وقـيام الساعة, وفناء الدنـيا, وما أشبه ذلك, فإن ذلك لا يعلـمه أحد. وقالوا: إنـما سمى الله من آي الكتاب الـمتشابه الـحروف الـمقطعة التـي فـي أوائل بعض سور القرآن من نـحو الـم, والـمص, والـمر, والر, وما أشبه ذلك, لأنهن متشابهات فـي الألفـاظ, وموافقات حروف حساب الـجمل. وكان قوم من الـيهود علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله, ويعلـموا نهاية أُكْلِمـحمد وأمته, فأكذب الله أحدوثتهم بذلك, وأعلـمهم أن ما ابْتَغَوْا علـمه من ذلك من قبل هذه الـحروف الـمتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها, وأن ذلك لا يعلـمه إلا الله. وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب أن هذه الاَية نزلت فـيه, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره مـمن قال نـحو مقالته فـي تأويـل ذلك فـي تفسير قوله: {الـم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِـيهِ}. وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويـل الاَية, وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنـما أنزله علـيه بـيانا له ولأمته وهدى للعالـمين, وغير جائز أن يكون فـيه ما لا حاجة بهم إلـيه, ولا أن يكون فـيه ما بهم إلـيه الـحاجة, ثم لا يكون لهم إلـى علـم تأويـله سبـيـل. فإذا كان ذلك كذلك, فكل ما فـيه لـخـلقه إلـيه الـحاجة, وإن كان فـي بعضه ما بهم عن بعض معانـيه الغنى, وإن اضطرته الـحاجة إلـيه فـي معان كثـيرة, وذلك كقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَأتِـي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيـمَانُها لَـمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِـي إيـمانِها خَيْر} فأعلـم النبـيّ صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الاَية التـي أخبر الله جل ثناؤه عبـاده أنها إذا جاءت لـم ينفع نفسا إيـمانها لـم تكن آمنت من قبل ذلك, هي طلوع الشمس من مغربها. فـالذي كانت بـالعبـاد إلـيه الـحاجة من علـم ذلك هو العلـم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تـحديده بعد بـالسنـين والشهور والأيام, فقد بـين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب, وأوضحه لهم علـى لسان رسول صلى الله عليه وسلم مفسّرا. والذي لا حاجة لهم إلـى علـمه منه هو العلـم بـمقدار الـمدة التـي بـين وقت نزول هذه الاَية ووقت حدوث تلك الاَية, فإن ذلك مـما لا حاجة بهم إلـى علـمه فـي دين ولا دنـيا, وذلك هو العلـم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خـلقه, فحجبه عنهم, وذلك وما أشبهه هو الـمعنى الذي طلبت الـيهود معرفته فـي مدة مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الـم, والـمص, والر, والـمر, ونـحو ذلك من الـحروف الـمقطعة الـمتشابهات, التـي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويـل ذلك من قِبَله, وأنه لا يعلـم تأويـله إلا الله.
فإذا كان الـمتشابه هو ما وصفنا, فكل ما عداه فمـحكم, لأنه لن يخـلو من أن يكون مـحكما بأنه بـمعنى واحد لا تأويـل له غير تأويـل واحد, وقد استغنـي بسماعه عن بـيان يبـيّنه, أو يكون مـحكما, وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف فـي معان كثـيرة, فـالدلالة علـى الـمعنى الـمراد منه إما من بـيان الله تعالـى ذكره عنه أو بـيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته, ولن يذهب علـم ذلك عن علـماء الأمة لـما قد بـينا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُنّ أمّ الكِتابِ}.
قد أتـينا علـى البـيان عن تأويـل ذلك بـالدلالة الشاهدة علـى صحة ما قلنا فـيه, ونـحن ذاكرو اختلاف أهل التأويـل فـيه. وذلك أنهم اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} هنّ اللائي فـيهنّ الفرائض والـحدود والأحكام, نـحو قـيـلنا الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
5303ـ حدثنا عمران بن موسى القزاز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيـى بن يعمر أنه قال فـي هذه الاَية: {مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال يحيـى: هنّ اللاتـي فـيهنّ الفرائض والـحدود وعماد الدين, وضرب لذلك مثلاً فقال: أم القرى مكة, وأم خراسان مرو, وأمّ الـمسافرين الذين يجعلون إلـيه أمرهم, ويُعْنَى بهم فـي سفرهم, قال: فذاك أمهم.
5304ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: هنّ جماع الكتاب.
وقال آخرون: بل معنـيّ بذلك فواتـح السور التـي منها يستـخرج القرآن. ذكر من قال ذلك:
5305ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سويد, عن أبـي فـاختة أنه قال فـي هذه الاَية: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: أم الكتاب: فواتـح السور, منها يستـخرج القرآن¹ {الـم ذَلِكَ الكِتابُ} منها استـخرجت البقرة, و {الـم اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ} منها استـخرجت آل عمران.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ, وانـحراف عنه. يقال منه: زاغ فلان عن الـحقّ, فهو يزيغ عنه زَيْغا وَزَيَغانا وزَيْغُوغة وزُيُوغا, وأزاغه الله: إذا أماله, فهو يُزيغه, ومنه قوله جلّ ثناؤه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَ} لا تـملها عن الـحقّ {بعدَ إذْ هَدَيْتَن}.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5306ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميـل عن الهدى.
5307ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5308ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: من أهل الشك.
5309ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أما الزيغ: فـالشك.
5310ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: {زَيْغٌ}: شكّ. قال ابن جريج {الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الـمنافقون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} ما تشابهت ألفـاظه وتصرفت معانـيه بوجوه التأويلات, لـيحققوا بـادعائهم الأبـاطيـل من التأويلات فـي ذلك ما هم علـيه من الضلالة والزيغ عن مـحجة الـحق تلبـيسا منهم بذلك علـى من ضعفت معرفته بوجوه تأويـل ذلك وتصاريف معانـيه. كما:
5311ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـي, عن ابن عبـاس: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فـيحملون الـمـحكم علـى الـمتشابه, والـمتشابه علـى الـمـحكم, ويـلبّسون, فلبّس الله علـيهم.
5312ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي ما تـحرف منه وتصرف, لـيصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا, لـيكون لهم حجة علـى ما قالوا وشبهة.
5313ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} قال: البـاب الذي ضلوا منه وهلكوا فـيه ابتغاء تأويـله.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
5314ـ حدثنـي حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} يتبعون الـمنسوخ والناسخ, فـيقولون: ما بـال هذه الاَية عمل بها كذا وكذا مـجاز هذه الاَية, فتركت الأولـى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الاَية قبل أن تـجيء الأولـى التـي نسخت. وما بـاله يعد العذاب من عمل عملاً يعدّ به النار وفـي مكان آخر من عمله فإنه لـم يوجب النار.
واختلف أهل التأويـل فـيـمن عنـي بهذه الاَية, فقال بعضهم: عنـي به الوفدُ من نصارى نـجران الذين قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحاجوه بـما حاجوه به, وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلـمته؟ وتأوّلوا فـي ذلك ما يقولون فـيه من الكفر. ذكر من قال ذلك:
5315ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: عمدوا ـ يعنـي الوفد الذين قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نـجران ـ فخاصموا النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قالوا: ألست تزعم أنه كلـمة الله وروح منه؟ قال: «بلـى», قالوا: فحسبنا! فأنزل الله عز وجل: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ}. ثم إن الله جلّ ثناؤه أنزل: {إنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}... الاَية.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الاَية فـي أبـي ياسر بن أخطب, وأخيه حيـي بن أخطب, والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي قدر مدة أُكْله وأُكل أمته, وأرادوا علـم ذلك من قبل قوله: الـم, والـمص, والـمر, والر فقال الله جل ثناؤه فـيهم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعنـي هؤلاء الـيهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والـحقّ, {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} يعنـي معانـي هذه الـحروف الـمقطعة الـمـحتـملة التصريف فـي الوجوه الـمختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة. وقد ذكرنا الرواية بذلك فـيـما مضى قبل فـي أول السورة التـي تذكر فـيها البقرة.
وقال آخرون: بل عنى الله عزّ وجلّ بذلك كل مبتدع فـي دينه بدعة مخالفة لـما ابتعث به رسوله مـحمدا صلى الله عليه وسلم بتأويـل يتأوّله من بعض آي القرآن الـمـحتـملة التأويلات, وإن كان الله قد أحكم بـيان ذلك, إما فـي كتابه وإما علـى لسان رسوله. ذكر من قال ذلك:
5316ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {فأمّا الّذِين فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاء الفِتْنَةِ}. وكان قتادة إذا قرأ هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لـم يكونوا الـحرورية والسبئية فلا أدري من هم. ولعمري لقد كان فـي أهل بدر والـحديبـية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـيعة الرضوان من الـمهاجرين والأنصار, خبر لـمن استـخبر, وعبرة لـمن استعبر, لـمن كان يعقل أو يبصر. إن الـخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثـير بـالـمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء, والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط, ولا رضوا الذي هم علـيه ولا مالئوهم فـيه, بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ونعته الذي نعتهم به, وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتدّ والله علـيهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الـخوارج هدى لاجتـمع, ولكنه كان ضلالاً فتفرّق, وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فـيه اختلافـا كثـيرا, فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويـل, فهل أفلـحوا فـيه يوما أو أنـجحوا؟ يا سبحان الله كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا علـى هدى قد أظهره الله وأفلـحه ونصره, ولكنهم كانوا علـى بـاطل أكذبه الله وأدحضه, فهم كما رأيتهم كلـما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم, وأكذب أحدوثتهم, وأهرق دماءهم¹ وإن كتـموا كان قرحا فـي قلوبهم وغما علـيهم, وإن أظهروه أهراق الله دماءهم, ذاكم والله دين سوء فـاجتنبوه. والله إن الـيهود لبدعة, وإن النصرانـية لبدعة, وإن الـحرورية لبدعة, وإن السبئية لبدعة, ما نزل بهنّ كتاب ولا سنهنّ نبـيّ.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فَـيَتّبِعُون ما تَشابَه مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاء تأوِيـلِهِ} طلب القوم التأويـل فأخطأوا التأويـل, وأصابوا الفتنة, فـاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان فـي أصحاب بدر والـحديبـية الذين شهدوا بـيعة الرضوان. وذكر نـحو حديث عبد الرزاق, عن معمر, عنه.
5317ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيـم, قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية, عن أيوب, عن عبد الله بن أبـي ملـيكة, عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى قوله: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ} فقال: «فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ فـاحْذَرُوهُمْ».
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أيوب, عن عبد الله بن أبـي ملـيكة, عن عائشة أنها قالت: قرأ نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ}. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ» أو قال: «يَتَـجَادَلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ فـاحْذَرُوهُمْ} قال مطر, عن أيوب أنه قال: «فلا تـجالسوهم, فهم الذين عنى الله فـاحذروهم».
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن ابن أبـي ملـيكة, عن عائشة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, بنـحو معناه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن أبـي ملـيكة, عن عائشة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, نـحوه.
5318ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا الـحارث, عن أيوب, عن ابن أبـي ملـيكة عن عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}... الاَية كلها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ وَالّذِينَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ, أُولَئِكَ الّذِينَ قال اللّهُ: فَلا تُـجالسُوهُمْ» .
5319ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن يزيد بن إبراهيـم, عن ابن أبـي ملـيكة, قال: سمعت القاسم بن مـحمد يحدّث عن عائشة, قالت: تلا النبـيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} ثم قرأ إلـى آخر الاَيات, فقال: «إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ, فَـأُولَئِكَ الّذِينَ سَمّى اللّهُ فَـاحْذَرُوهُمْ».
5320ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن حماد بن سلـمة, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبـيه, عن عائشة, قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ حَذّرَكُمُ اللّهُ, فإذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاعْرِفُوهُمْ».
5321ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, عن نافع, عن عمر, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ!», ثم نزع: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} «وَلا يَعْمَلُونَ بِـمُـحْكَمِهِ».
حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: أخبرنا عمي, قال: أخبرنـي شبـيب بن سعيد, عن روح بن القاسم, عن ابن أبـي ملـيكة, عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ وَما يَعْلَـمُ تَأوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي الْعِلْـمِ} فقال: «فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ فَـاحْذَرُوهُمْ».
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا خالد بن نزار, عن نافع, عن ابن أبـي ملـيكة, عن عائشة فـي هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَل عَلَـيْكَ الكِتابَ}... الاَية. يتبعها: يتلوها, ثم يقول: «فإذا رَأَيْتُـمُ الّذِنَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَـاحْذَرُوهُمْ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلـمة, عن ابن أبـي ملـيكة, عن القاسم, عن عائشة, عن النبـي صلى الله عليه وسلم فـي هذه الاَية: {هُو الّذِي أنْزل عَلَـيْك الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى آخر الاَية, قال: «هُمُ الّذِينَ سَمّاهُمُ اللّهُ, فإذَا رَأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ».
قال أبو جعفر: والذي يدلّ علـيه ظاهر هذه الاَية أنها نزلت فـي الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمتشابه ما أنزل إلـيه من كتاب الله إما فـي أمر عيسى, وإما فـي مدة أُكُله وأُكْل أمته, وهو بأن تكون فـي الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمتشابهه فـي مدته ومدة أمته أشبه, لأن قوله: {وما يَعْلَـمُ تأوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ} دالّ علـى أن ذلك إخبـار عن الـمدة التـي أرادوا علـمها من قبل الـمتشابه الذي لا يعلـمه إلا الله. فأما أمر عيسى وأسبـابه, فقد أعلـم الله ذلك نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأمته وبـينه لهم, فمعلوم أنه لـم يعن إلا ما كان خفـيا عن الاَحاد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ}.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك. ذكر من قال ذلك:
5322ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} قال: إرادة الشرك.
5323ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {ابْتِغاء الفِتْنَةِ} يعنـي الشرك.
وقال آخرون: معنى ذلك ابتغاء الشبهات. ذكر من قال ذلك:
5324ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات بها أهلكوا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} الشبهات, قال: هلكوا به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات, قال: والشبهات ما أهلكوا به.
5325ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} أي اللبس.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس. فمعنى الكلام إذا: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ وَحَيْفٌ عنه, فـيتعبون من آي الكتاب ما تشابهت ألفـاظه, واحتـمل صرفه فـي وجوه التأويلات, بـاحتـماله الـمعانـي الـمختلفة إرادة اللبس علـى نفسه وعلـى غيره, احتـجاجا به علـى بـاطله الذي مال إلـيه قلبه دون الـحقّ الذي أبـانه الله فأوضحه بـالـمـحكمات من آي كتابه.
وهذه الاَية وإن كانت نزلت فـيـمن ذكرنا أنها نزلت فـيه من أهل الشرك, فإنه معنـيّ بها كل مبتدع فـي دين الله بدعة, فمال قلبه إلـيها, تأويلاً منه لبعض متشابه آي القرآن, ثم حاجّ به وجادل به أهل الـحقّ, وعدل عن الواضح من أدلة آيه الـمـحكمات إرادة منه بذلك اللبس علـى أهل الـحقّ من الـمؤمنـين, وطلبـا لعلـم تأويـل ما تشابه علـيه من ذلك كائنا من كان, وأيّ أصناف البدعة كان من أهل النصرانـية كان أو الـيهودية أو الـمـجوسية, أو كان سبئيا, أو حروريا, أو قدريا, أو جهميا, كالذي قال صلى الله عليه وسلم: «فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ فَـاحْذَرُوهُمْ». وكما:
5326ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا سفـيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وذكر عنده الـخوارج, وما يـلقون عند الفرار, فقال: يؤمنون بـمـحكمه, ويهلكون عند متشابهه. وقرأ ابن عبـاس: {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ}... الاَية.
وإنـما قلنا: القول الذي ذكرنا أنه أولـى التأويـلـين بقوله: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} لأن الذين نزلت فـيهم هذه الاَية كانوا أهل شرك, وإنـما أرادوا بطلب تأويـل ما طلبوا تأويـله اللبس علـى الـمسلـمين والاحتـجاج به علـيهم لـيصدّوهم عما هم علـيه من الـحقّ, فلا معنى لأن يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك, وهم قد كانوا مشركين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وابْتِغاءَ تأوِيـلِهِ}.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى التأويـل الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: {وابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} فقال بعضهم معنى ذلك: الأجل الذي أرادت الـيهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من قِبَل الـحروف الـمقطعة من حساب الـجمل كـ«الـم», و«الـمص», و«الر», و«الـمر» وما أشبه ذلك من الاَجال. ذكر من قال ذلك:
5327ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: أما قوله: {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ} يعنـي تأويـله يوم القـيامة إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. وقالوا: إنـما أرادوا أن يعلـموا متـى يجيء ناسخ الأحكام التـي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مـجيئه, فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك. ذكر من قال ذلك:
5328ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيـلِهِ} أرادوا أن يعلـموا تأويـل القرآن, وهو عواقبه, قال الله: {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ}, وتأويـله: عواقبه, متـى يأتـي الناسخ منه فـينسخ الـمنسوخ.
وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويـل ما تشابه من آي القرآن يتأوّلونه ـ إذ كان ذا وجوه وتصاريف فـي التأويلات ـ علـى ما فـي قلوبهم من الزيغ, وما ركبوه من الضلالة. ذكر من قال ذلك:
5329ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} وذلك علـى ما ركبوا من الضلالة فـي قولهم, خـلقنا وقضينا.
والقول الذي قاله ابن عبـاس من أن ابتغاء التأويـل الذي طلبه القوم من الـمتشابه هو معرفة انقضاء الـمدة, ووقت قـيام الساعة, والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هُو جاءٍ قبل مـجيئه أولـى بـالصواب, وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلـى حصره علـى أن معناه: إن القوم طلبوا معرفة وقت مـجيء الناسخ لـما قد أحكم قبل ذلك.
وإنـما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مـجيئه الـمـحجوب علـمه عنهم وعن غيرهم بـمتشابه آي القرآن, أولـى بتأويـل قوله: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} لـما قد دللنا علـيه قبل من إخبـار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويـل لا يعلـمه إلا الله, ولا شك أن معنى قوله: «قضينا» و«فعلنا», قد علـم تأويـله كثـير من جهلة أهل الشرك, فضلاً عن أهل الإيـمان وأهل الرسوخ فـي العلـم منهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن}.
يعنـي جل ثناؤه بذلك: وما يعلـم وقت قـيام الساعة وانقضاء مدة أُكل مـحمد وأمته وما هو كائن, إلا الله, دون من سواه من البشر الذين أمّلوا إدراك علـم ذلك من قبل الـحساب والتنـجيـم والكهانة.
وأما الراسخون فـي العلـم, فـيقولون: آمنا به كل من عند ربنا, لا يعلـمون ذلك, ولكن فضل علـمهم فـي ذلك علـى غيرهم العلـم بأن الله هو العالـم بذلك دون من سواه من خـلقه.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, وهل الراسخون معطوف علـى اسم الله, بـمعنى إيجاب العلـم لهم بتأويـل الـمتشابه, أو هم مستأنف ذكرهم بـمعنى الـخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بـالـمتشابه, وصدّقنا أن علـم ذلك لا يعلـمه إلا الله؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلـم تأويـل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلـمه. وأما الراسخون فـي العلـم فإنهم ابتدىء الـخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بـالـمتشابه والـمـحكم, وأن جميع ذلك من عند الله.) ذكر من قال ذلك:
5330ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا خالد بن نزار, عن نافع, عن ابن أبـي ملـيكة, عن عائشة, قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قالت: كان من رسوخهم فـي العلـم أن آمنوا بـمـحكمه ومتشابهه, ولـم يعلـموا تأويـله.
5331ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبـيه, قال: كان ابن عبـاس يقول: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ} يقول الراسخون: آمنا به.
5332ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن أبـي الزناد, قال: قال هشام بن عروة: كان أبـي يقول فـي هذه الاَية: {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} أن الراسخين فـي العلـم لا يعلـمون تأويـله, ولكنهم يقولون: {آمنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن}.
5333ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد الله, عن أبـي نهيك الأسدي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} فـيقول: إنكم تصلون هذه الاَية وإنها مقطوعة {وَما يَعْلَـمُ تَأْويـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَ} فـانتهى علـمهم إلـى قولهم الذي قالوا.
5334ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا ابن دكين, قال: حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب, قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} انتهى علـم الراسخين فـي العلـم بتأويـل القرآن إلـى أن قالوا: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَ}.
5335ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا أشهب, عن مالك فـي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ} قال: ثم ابتدأ فقال: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} ولـيس يعلـمون تأويـله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلـم تأويـله إلا الله والراسخون فـي العلـم, وهم مع علـمهم بذلك ورسوخهم فـي العلـم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَ}. ذكر من قال ذلك:
5336ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس أنه قال: أنا من يعلـم تأويـله.
5337ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.
5338ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.
5339ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ} الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون فـي العلـم يقولون آمنا به. فكيف يختلف وهو قولٌ واحدٌ من رب واحد؟ ثم ردوا تأويـل الـمتشابهة علـى ما عرفوا من تأويـل الـمـحكمة التـي لا تأويـل لأحد فـيها إلا تأويـل واحد, فـاتسق بقولهم الكتاب, وصدّق بعضه بعضا, فنفذت به الـحجة, وظهر به العذر, وزاح به البـاطل, ودمغ به الكفر.
فمن قال القول الأول فـي ذلك, وقال: إن الراسخين لا يعلـمون تأويـل ذلك, وإنـما أخبر الله عنهم بإيـمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله, فإنه يرفع «الراسخين فـي العلـم» بـالابتداء فـي قول البصريـين, ويجعل خبره «يقولون آمنا به». وأما فـي قول بعض الكوفـيـين فبـالعائد من ذكرهم فـي «يقولون», وفـي قول بعضهم بجملة الـخبر عنهم, وهي «يقولون». ومن قال القول الثانـي, وزعم أن الراسخين يعلـمون تأويـله عطف بـالراسخين علـى اسم الله فرفعهم بـالعطف علـيه.
والصواب عندنا فـي ذلك, أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو «يقولون», لـما قد بـينا قبل من أنهم لا يعلـمون تأويـل الـمتشابه الذي ذكره الله عز وجل فـي هذه الاَية, وهو فـيـما بلغنـي مع ذلك فـي قراءة أبـيّ: «ويقول الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ» كما ذكرناه عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤه¹ وفـي قراءة عبد الله: «إن تأويـله إلا عند الله والراسخون فـي العلـم يقولون».
وأما معنى التأويـل فـي كلام العرب: فإنه التفسير والـمرجع والـمصير, وقد أنشد بعض الرواة بـيت الأعشى:
علـى أنّها كانَتْ تَأَوّلُ حُبّها
تَأَوّلَ رِبْعيّ السّقابِ فأصْحَبـا
وأصله من آل الشيء إلـى كذا, إذا صار إلـيه ورجع يَؤُولُ أَوْلاً وأوّلته أنا: صيرته إلـيه. وقد قـيـل: إن قوله: {وأحْسَنُ تَأْوِيل} أي جزاء, وذلك أن الـجزاء هو الذي آل إلـيه أمر القوم وصار إلـيه. ويعنـي بقوله: «تأول حبها»: تفسير حبها ومرجعه, وإنـما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا فـي قلبه, فآل من الصغر إلـى العظم, فلـم يزل ينبت حتـى أصحب فصار قديـما كالسقب الصغير الذي لـم يزل يشبّ حتـى أصحب فصار كبـيرا مثل أمه. وقد ينشد هذا البـيت:
علـى أنّها كانَتْ تَوَابِعُ حُبّها
تَوَالَـى رِبْعِيّ السّقابِ فأصْحَبـا
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}.
يعنـي بـالراسخين فـي العلـم: العلـماء الذين قد أتقنوا علـمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخـلهم فـي معرفتهم وعلـمهم بـما علـموه شك ولا لبس, وأصل ذلك من رسوخ الشيء فـي الشيء, وهو ثبوته وولوجه فـيه, يقال منه: رسخ الإيـمان فـي قلب فلان فهو يَرْسَخ رَسْخا وَرُسُوخا.
وقد روي فـي نعتهم خبر عن النبـي صلى الله عليه وسلم, وهو ما:
5340ـ حدثنا موسى بن سهل الرملـي, قال: حدثنا مـحمد بن عبد الله, قال: حدثنا فـياض بن مـحمد الرقـي, قال: حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم, عن أبـي الدرداء وأبـي أمامة, قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراسخ فـي العلـم؟ قال: «مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ, وَصَدَقَ لِسَانُهُ, وَاسْتَقَامَ بِهِ قَلْبُهُ, وَعَفّ بَطْنُهُ, فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ».
5341ـ حدثنـي الـمثنى وأحمد بن الـحسن الترمذي, قالا: حدثنا نعيـم بن حماد, قال: حدثنا فـياض الرقـي, قال: حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي ـ قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين فـي العلـم, فقال: «مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ, وَصَدَقَ لِسانُهُ, وَاسْتَقامَ بِهِ قَلْبُهُ, وَعَفّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ¹ فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ».
وقد قال جماعة من أهل التأويـل: إنـما سمى الله عزّ وجلّ هؤلاء القوم الراسخين فـي العلـم بقولهم: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن}. ذكر من قال ذلك:
5342ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن جابر, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا.
5343ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} هم الـمؤمنون, فإنهم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} بناسخه ومنسوخه {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن}.
5344ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: قال عبد الله بن سلام: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} وعلـمهم قولهم. قال ابن جريج: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلـم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} وهم الذين يقولون: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَ} ويقولون: {رَبّنَا إنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِـيَوْمٍ لا رَيْبَ فِـيهِ}... الاَية.
وأما تأويـل قوله: {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} فإنه يعنـي: أن الراسخين فـي العلـم يقولون صدقنا بـما تشابه من آي الكتاب, وأنه حقّ, وإن لـم نعلـم تأويـله. وقد:
5345ـ حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الـمـحكم والـمتشابه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} كل الـمـحكم من الكتاب والـمتشابه منه من عند ربنا, وهو تنزيـله ووحيه إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. كما:
5346ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن جابر, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} قال: يعنـي ما نسخ منه, وما لـم ينسخ.
5347ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} قالوا: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} آمنوا بـمتشابهه, وعملوا بـمـحكمه.
5348ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّن} يقولون: الـمـحكم والـمتشابه من عند ربنا.
5349ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَ} يؤمن بـالـمـحكم ويدين به, ويؤمن بـالـمتشابه ولا يدين به, وهو من عند الله كله.
5350ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعملون به, يقولون: نعمل بـالـمـحكم ونؤمن به, ونؤمن بـالـمتشابه ولا نعمل به, وكل من عند ربنا.
واختلف أهل العربـية فـي حكم «كل» إذا أضمر فـيها. فقال بعض نـحويـي البصريـين: إذا جاز حذف الـمراد الذي كان معها الذي «الكلّ» إلـيه مضاف فـي هذا الـموضع لأنها اسم, كما قال: {إنّا كُلّ فِـيهَ} بـمعنى: إنا كلنا فـيها, قال: ولا يكون «كلّ» مضمرا فـيها وهي صفة, لا يقال: مررت بـالقوم كل, وإنـما يكون فـيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فـيها علـى الصفة, لـم يجز, لأن الإضمار فـيها ضعيف لا يتـمكن فـي كل مكان. وكان بعض نـحويـي الكوفـيـين يرى الإضمار فـيها وهي صفة أو اسم سواء, لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافـية بنفسها عما كانت تضاف إلـيه من الـمضمر, وغير جائز أن تكون كافـية منه فـي حال, ولا تكون كافـية فـي أخرى, وقال: سبـيـل الكل والبعض فـي الدلالة علـى ما بعدهما بأنفسهما وكفـايتهما منه, بـمعنى واحد فـي كل حال, صفة كانت أو اسما, وهذا القول الثانـي أولـى بـالقـياس, لأنها إذا كانت كافـية بنفسها مـما حذف منها فـي حال لدلالتها علـيه, فـالـحكم فـيها أنها كلـما وجدت دالة علـى ما بعدها, فهي كافـية منه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول فـي متشابه آي كتاب الله ما لا علـم له به إلا أولو العقول والنّهَى. وقد:
5351ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ} يقول: وما يذكر فـي مثل هذا, يعنـي فـي ردّ تأويـل الـمتشابه إلـى ما قد عرف من تأويـل الـمـحكم حتـى يتسقا علـى معنى واحد, إلا أولو الألبـاب.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن الراسخين فـي العلـم يقولون: آمنا بـما تشابه من آي كتاب الله, وأنه والـمـحكم من آيه من تنزيـل ربنا ووحيه, ويقولون أيضا: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَن} يعنـي أنهم يقولون رغبة منهم إلـى ربهم, فـي أن يصرف عنهم ما ابتلـى به الذين زاغت قلوبهم من اتبـاع متشابه آي القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله الذي لا يعلـمه غير الله, يا ربنا لا تـجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الـحقّ فصدّوا عن سبـيـلك, {لا تُزِغْ قُلُوبَنَ} لا تـملها فتصرفها عن هداك {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَ} له, فوفقتنا للإيـمان بـمـحكم كتابك ومتشابهه, {وَهَبْ لَن} يا ربنا {مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} يعنـي من عندك رحمة, يعنـي بذلك: هب لنا من عندك توفـيقا وثبـاتا للذي نـحن علـيه, من الإقرار بـمـحكم كتابك ومتشابهه¹ {إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ} يعنـي: إنك أنت الـمعطي عبـادك التوفـيق والسداد, للثبـات علـى دينك, وتصديق كتابك ورسلك. كما:
5352ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَ} أي لا تـمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا, {وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}.
وفـي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بـما مدحهم به من رغبتهم إلـيه فـي أن لا يزيغ قلوبهم, وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبـات علـى ما هم علـيه من حسن البصيرة بـالـحقّ الذي هم علـيه مقـيـمون, ما أبـان عن خطأ قول الـجهلة من القدرية, أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عبـاده عن طاعته, وإمالته له عنها جور, لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان الذين قالوا: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَ} بـالذم أولـى منهم بـالـمدح, لأن القول لو كان كما قالوا, لكان القوم إنـما سألوا ربهم مسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم, أن لا يظلـمهم ولا يجور علـيهم, وذلك من السائل جهل¹ لأن الله جل ثناؤه لا يظلـم عبـاده ولا يجور علـيهم, وقد أعلـم عبـاده ذلك, ونفـاه عن نفسه بقوله: {وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِـيدِ} ولا وجه لـمسألته أن يكون بـالصفة التـي قد أخبرهم أنه بها, وفـي فساد ما قالوا من ذلك الدلـيـل الواضح, علـى أن عدلاً من الله عزّ وجلّ إزاغة من أزاغ قلبه من عبـاده عن طاعته, فلذلك استـحقّ الـمدح من رغب إلـيه فـي أن لا يزيغه لتوجيهه الرغبة إلـى أهلها ووضعه مسألته موضعها, مع تظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلـى ربه فـي ذلك مع مـحله منه, وكرامته علـيه.
5353ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن عبد الـحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن أم سلـمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ» ثم قرأ: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَ}...» إلـى آخر الاَية.
5354ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن عبد الـحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن أسماء, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بنـحوه.
5355ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام الفزاري, قال: حدثنا شهر بن حوشب, قال: سمعتُ أم سلـمة تـحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر فـي دعائه أن يقول: «اللّهُمّ مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ!» قال: قلت يا رسول الله, وإن القلب لـيقلّب؟ قال: «نَعَمْ, مَا خَـلَقَ اللّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِـي آدَمَ إلاّ وَقَلْبُهُ بَـيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصابعه, فإنْ شاءَ أقامَهُ, وَإنْ شاءَ أزَاغَهُ, فَنَسألُ اللّهُ رَبّنَا أنْ لا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانا, ونسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنّهُ هُوَ الوَهّابُ». قالت: قلت يا رسول الله, ألا تعلـمنـي دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلـى, قولـي: اللّهُمّ رَبّ النّبِـيّ مُـحَمّدٍ, اغْفِرْ لِـي ذَنْبِـي, وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِـي, وأجِرْنِـي مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ».
5356ـ حدثنـي مـحمد بن منصور الطوسي, قال: حدثنا مـحمد بن عبد الله الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش عن أبـي سفـيان, عن جابر, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي عَلـى دِينِكَ»! فقال له بعض أهله: يخاف علـينا وقد آمنا بك وبـما جئت به؟ قال: «إِنّ القَلْبَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ تَبـارَكَ وَتَعَالَـى» يَقُولُ بِهِ هَكَذَا¹ وحرّك أبو أحمد أصبعيه. قال أبو جعفر: وإن الطوسي وسَقَ بـين أصبعيه.
5357ـ حدثنـي سعيد بن يحيـى الأموي, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا الأعمش عن أبـي سفـيان, عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثـيرا ما قول: «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي عَلَـى دِينِكَ»! قلنا: يا رسول الله قد آمنا بك, وصدقنا بـما جئت به, فـيخافُ علـينا؟ قال: «نَعَمْ, إِنّ القُلُوبَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّهِ يُقَلّبُها تَبَـارَكَ وَتَعَالَـى».
5358ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا بشر بن بكر, وحدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا أيوب بن بشر جميعا, عن ابن جابر, قال: سمعت بشر بن عبـيد الله, قال: سمعت أبـا إدريس الـخولانـي يقول: سمعت النواس بن سمعان الكلابـي, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاّ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أقَامَهُ, وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قُلُوبَنَا علـى دِينِكَ, وَالـمِيزانُ بِـيَدِ الرّحْمَنِ يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَـى يَوْمِ القِـيَامَةِ».
5359ـ حدثنـي عمر بن عبد الـملك الطائي, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيدة, قال: حدثنا الـجرّاح بن ملـيح البهرانـي, عن الزبـيدي, عن جويبر, عن سمرة بن فـاتك الأسدي ـ وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الـمَوَازِينُ بِـيَدِ اللّهِ يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَضَعُ أقْوَاما, وَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّ حمَنِ, إِنْ شَاءَ أزَاغَهُ وَإِنْ شَاءَ أقَامَهُ».
5360ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن حيوة بن شريح, قال: أخبرنـي أبو هانىء الـخولانـي أنه سمع أبـا عبد الرحمن الـحبلـي يقول: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنّ قُلُوبَ بَنِـي آدَمَ كُلّها بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرّفُ كَيْفَ يَشَاءُ». ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ مُصَرّفَ القُلُوبِ صَرّفْ قُلُوبُنَا إلـى طَاعَتِكَ».
5361ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان, قال: حدثنا أسد بن موسى, قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام, قال: حدثنا شهر بن حوشب, قال: سمعت أم سلـمة تـحدّث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر فـي دعائه أن يقول: «اللّهُمّ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ». قالت: قلت يا رسول الله, وإن القلوب لتقلب؟ قال: «نَعَمْ, ما مِنْ خَـلْقِ اللّهِ مِنْ بَنِـي آدَمَ بَشَرٌ إِلاّ أنّ قَلْبَهُ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّهِ إِنْ شَاءَ أقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ, فَنَسألُ اللّهَ رَبّنَا أنْ لا يَزِيغَ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا, وَنسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنّهُ هُوَ الوَهّابُ».
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{رَبّنَآ إِنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: أنهم يقولون أيضا مع قولهم آمنا بـما تشابه من آي كتاب ربنا كل الـمـحكم والـمتشابه الذي فـيه من عند ربنا يا ربنا إنك جامع الناس لـيوم لا ريب فـيه, إن الله لا يخـلف الـميعاد. وهذا من الكلام الذي استغنـي بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس لـيوم القـيامة فـاغفر لنا يومئذٍ, واعف عنا, فإنك لا تـخـلف وعدك, أن من آمن بك, واتبع رسولك, وعمل بـالذي أمرته به فـي كتابك أنك غافره يومئذٍ. وإنـما هذا من القوم مسألة ربهم أن يثبتهم علـى ما هم علـيه من حسن بصرتهم بـالإيـمان بـالله ورسوله, وما جاءهم به من تنزيـله, حتـى يقبضهم علـى أحسن أعمالهم وإيـمانهم, فإنه إذا فعل ذلك بهم وجبت لهم الـجنة, لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عبـاده أنه يدخـله الـجنة, فـالاَية وإن كانت قد خرجت مخرج الـخبر, فإن تأويـلها من القوم مسألة ودعاء ورغبة إلـى ربهم.
وأما معنى قوله: {لِـيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِـيهِ} فإنه لا شك فـيه. وقد بـينا ذلك بـالأدلة علـى صحته فـيـما مضى قبل.
ومعنى قوله: {لِـيَوْمٍ} فـي يوم, وذلك يوم يجمع الله فـيه خـلقه لفصل القضاء بـينهم فـي موقـف العرض والـحساب, والـميعاد: الـمفعال من الوعد