تفسير الطبري تفسير الصفحة 502 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 502
503
501
 الآية : 33
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وبدا لهؤلاء الذين كانوا في الدنيا يكفرون بآيات الله سيئات ما عملوا في الدنيا من الأعمال, يقول: ظهر لهم هنالك قبائحها وشرارها لما قرأوا كتب أعمالهم التي كانت الحفظة تنسخها في الدنيا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول: وحاق بهم من عذاب الله حينئذٍ ما كانوا به يستهزئون إذ قيل لهم: إن الله مُحِلّه بمن كذّب به على سيئات ما في الدنيا عملوا من الأعمال.
الآية : 34
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وقيل لهؤلاء الكفرة الذين وصف صفتهم: اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم العمل للقاء ربكم يومكم هذا. كما:
24144ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَقِيلَ اليَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم. وقوله: وَمأْوَاكُمُ النّارُ يقول: ومأواكم التي تأوون إليها نار جهنم, وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول: وما لكم من مستنقذ ينقذكم اليوم من عذاب الله, ولا منتصر ينتصر لكم ممن يعذّبكم, فيستنقذ لكم منه.
الآية : 35
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنّكُمُ اتّخَذْتُمْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَغَرّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: هذا الذي حلّ بكم من عذاب الله اليوم بِأَنّكُم في الدنيا اتّخَذْتُمْ آياتِ اللّهِ هُزُوا, وهي حججه وأدلته وآي كتابه التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم هُزُوا يعني سخرية تسخرون منها وَغَرّتْكُمُ الحَياةُ الدّنْيا يقول: وخدعتكم زينة الحياة الدنيا. فآثرتموها على العمل لما ينجيكم اليوم من عذاب الله, يقول تعالى ذكره: فالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقول: ولا هم يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
الآية : 36-37
القول في تأويل قوله تعالى:
{فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبّ السّمَاوَتِ وَرَبّ الأرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: فَلِلّهِ الحَمْدُ على نِعمه وأياديه عند خلقه, فإياه فاحمدوا أيها الناس, فإن كلّ ما بكم من نعمة فمنه دون ما تعبدون من دونه من آلهة ووثن, ودون ما تتخذونه من دونه رباً, وتشركون به معه رَبّ السّمَوَاتِ وَرَبّ الأرْضِ يقول: مالك السموات السبع, ومالك الأرضين السبع و رَبّ العالَمِينَ يقول: مالك جميع ما فيهنّ من أصناف الخلق, وله الكبرياء في السموات والأرض يقول: وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من الاَلهة والأنداد وَهُوَ العَزِيزُ في نقمته من أعدائه, القاهر كل ما دونه, ولا يقهره شيء الحَكِيمُ في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء, والله أعلم.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الجاثية

تفسير سورة الأحقاف
مكية وآياتها خمس وثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1-3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {حـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ }.
قد تقدّم بيانُنا في معنى قوله: حم. تَنْزِيلُ الكِتابِ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: ما خَلَقْنا السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما إلاّ بالحَقّ يقول تعالى ذكره: ما أحدثنا السموات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا, وما بينهما من أصناف العالم إلا بالحقّ, يعني: إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.
وقوله: وأجَلٍ مُسَمّى يقول: وإلاّ بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو بلغه, ويعدمه بعد أن كان موجودا بإيجاده إياه.
وقوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله عن إنذار الله إياهم معرضون, لا يتعظون به, ولا يتفكرون فيعتبرون.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَـَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: أرأيتم أيها القوم الاَلهة والأوثان التي تعبدون من دون الله, أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض, فإن ربي خلق الأرض كلها, فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك آلهة وأربابا, فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة, فإن من حجتي على عبادتي إلهي, وإفرادي له الألوهة, أنه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل.
وقوله: أمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَوَاتِ يقول تعالى ذكره: أم لاَلهتكم التي تعبدونها أيها الناس شرك مع الله في السموات السبع, فيكون لكم أيضا بذلك حجة في عبادتكموها, فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي, أنه لا شريك له في خلقها, وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه.
وقوله: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبَلِ هَذَا يقول تعالى ذكره: بكتاب جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل عليّ, بأن ما تعبدون من الاَلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئا, أو أن لهم مع الله شركا في السموات, فيكون ذلك حجة لكم على عبادتكم إياها, لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في النّعم التي أنتم فيها, ووجب لها عليكم الشكر, واستحقت منكم الخدمة, لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا الله.
وقوله: أوْ أثارةٍ مِنْ عِلْمٍ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق أوْ أثارةٍ من علم بالألف, بمعنى: أو ائتوني ببقية من علم. ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرأه «أوْ أثَرَةٍ من علم», بمعنى: أو خاصة من علم أوتيتموه, وأوثرتم به على غيركم, والقراءة التي لا أستجيز غيرها أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ بالألف, لإجماع قرّاء الأمصار عليها.
واختلف أهل التأويل في تأويلها, فقال بعضهم: معناه: أو ائتوني بعلم بأن آلهتكم خَلَقت من الأرض شيئا, وأن لها شركا في السموات من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض, فإنكم معشر العرب أهل عيافة وزجر وكهانة. ذكر من قال ذلك:
24145ـ حدثنا بشر بن آدم, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفيان, عن صفوان بن سليم, عن أبي سلمة, عن ابن عباس أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: خط كان يخطه العرب في الأرض.
24146ـ حدثنا أبو كُرَيْب, قال: قال أبو بكر: يعني ابن عياش: الخط: هو العيافة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو خاصة من علم. ذكر من قال ذلك:
24147ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: أو خاصة من علم.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: أي خاصة من علم.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: ثني أبي, عن الحسين, عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: خاصة من علم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو علم تُثيرونه فتستخرجونه. ذكر من قال ذلك:
24148ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن, في قوله: أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: أثارة شيء يستخرجونه فِطْرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو تأثرون ذلك علما عن أحد ممن قبلكم؟ ذكر من قال ذلك:
24149ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: أحد يأثر علما.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو ببينة من الأمر. ذكر من قال ذلك:
24150ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يقول: ببينة من الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ببقية من علم. ذكر من قال ذلك:
24151ـ حدثنا أبو كُريب, قال: سُئل أبو بكر, يعني ابن عياش عن أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: بقية من علم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم, لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب, وهي مصدر من قول القائل: أثر الشيء أثارة, مثل سمج سماجة, وقبح قباحة, كما قال راعي الإبل:
وذاتِ أثارةٍ أكَلَتْ عَلَيْهانَبَاتا فِي أكِمتِهِ قَفَارَا
يعني: وذات بقية من شحم, فأما من قرأه أوْ أثَرةٍ فإنه جعله أثرة من الأثر, كما قيل: قترة وغبرة. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه «أوْ أثْرةٍ» بسكون الثاء, مثل الرجفة والخطفة, وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم, جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط, ومن علم استثير من كُتب الأوّلين, ومن خاصة علم كانوا أوثروا به. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط, سنذكره إن شاء الله تعالى, فتأويل الكلام إذن: ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب, بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدّعون لاَلهتكم, أو ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون من ذلك إنْ كُنْتُمْ صادِقِين في دعواكم لها ما تدّعون, فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغنِ عن المدّعي شيئا.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تُجيب دعاءه أبدا, لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله: وهُمْ عَنْ دُعائهِمْ غافِلُون يقول تعالى ذكره: وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة, لأنها لا تسمع ولا تنطق, ولا تعقل. وإنما عنى بوصفها بالغفلة, تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له, إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئا, كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم, وقُبح اختيارهم في عبادتهم, من لا يعقل شيئا ولا يفهم, وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته, ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب. وقيل: من لا يستجيب له, فأخرج ذكر الاَلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم, ومن له الاختيار والتمييز, إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها, فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريا فيه عندهم