تفسير الطبري تفسير الصفحة 562 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 562
563
561
 سورة الملك مكية
وآياتها ثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-2
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{تَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }.
يعني بقوله تعالى ذكره: تَبارَكَ: تعاظم وتعالى الّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ بيده مُلك الدنيا والاَخرة وسُلطانهما نافذ فيهما أمره وقضاؤه وَهُوَ على كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول: وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه من فعله مانع, ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقوله: الّذِي خَلَقَ الموت والْحَياةَ فأمات من شاء وما شاء, وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم لِيَبْلُوَكُمْ أيّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً يقول: ليختبركم فينظر أيكم له أيها الناس أطوع, وإلى طلب رضاه أسرع. وقد:
26673ـ حدثني ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَياةَ قال: أذلّ الله ابن آدم بالموت, وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء, وجعل الاَخرة دار جزاء وبقاء.
26674ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوكُمُ ذكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ اللّهَ أذَلّ ابْنَ آدَمَ بالمَوْتِ».
وقوله: وَهُوَ العَزِيزُ يقول: وهو القويّ الشديد انتقامه ممن عصاه, وخالف أمره الغَفُورُ ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.
الآية : 3-4
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مّا تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمَـَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ * ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: مخبرا عن صفته الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِباقا طبقا فوق طبق, بعضها فوق بعض.
وقوله: ما تَرَى في خَلْقِ الرّحْمَنِ مِنْ تَفاوُت يقول جلّ ثناؤه: ما ترى في خلق الرحمن الذي خلق لا في سماء ولا في أرض, ولا في غير ذلك من تفاوت, يعني من اختلاف. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26675ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمَنِ مِنْ تَفاوُتٍ: ما ترى فيهم من اختلاف.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله منْ تَفَاوُتٍ قال: من اختلاف.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: مِنْ تَفاوُتٍ بألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «مِنْ تَفَوّتٍ» بتشديد الواو بغير ألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد, كما قيل: ولا تُصَاعِرْ, ولا تُصَعّر وتعهّدت فلانا, وتعاهدته وتظهّرت, وتظاهرت وكذلك التفاوت والتفوّت.
وقوله: فارّجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ يقول: فرد البصر, هل ترى فيه من صُدوع؟ وهي من قول الله: تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِن فَوْقِهِن بمعنى يتشققن ويتصدّعْنَ, والفُطُور مصدر فُطِر فطُورا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26676ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ قال: الفطور: الوَهْيُ,
26677ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور يقول: هل ترى من خلل يا ابن آدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة مِنْ فُطُورٍ قال: من خلل.
26678ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ قال: من شقوق.
وقوله: ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يقول جلّ ثناؤه: ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين, مرّة بعد أخرى, فانظر هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أو تفاوت يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا يقول: يرجع إليك بصرك صاغرا مُبْعَدا من قولهم للكلب: اخسأ, إذا طردوه أي ابعد صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول: وهو مُعْيٍ كالّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26679ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْن يقول: هل ترى في السماء من خَللِ يَنْقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ بسواد الليل.
26680ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله خاسئا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول: ذليلاً.. وقوله: وَهُوَ حَسِيرٌ يقول: مرجف.
26681ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا أي حاسرا وَهُوَ حَسيرٌ أي مُعْيٍ.
حدثني ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله خاسِئا قال: صاغرا, وَهُوَ حَسِيرٌ يقول: مُعْيٍ لم ير خَلَلاً ولا تفاوتا.
وقال بعضهم: الخاسىء والحسير واحد. ذكر من قال ذلك:
26682ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ... الاَية, قال: الخاسىء, والخاسر واحد حَسَر طرفُه أن يَرى فيها فَطْرًا, فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا قال: فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت, ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ }.
يقول تعالى ذكره: وَلَقَدْ زَيّنا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وهي النجوم, وجعلها مصابيح لإضاءتها, وكذلك الصبح إنما قيل له صبح للضوء الذي يضيء للناس من النهار وَجَعلْناها رُجُوما للشّياطِينِ يقول: وجعلنا المصابيح التي زيّنا بها السماء الدنيا رجوما للشياطين تُرْجم بها. وقد:
26683ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَقَدْ زَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوما للشّاطِينِ إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا, ورجوما للشياطين, وعلامات يهتدي بها فمن يتأوّل منها غير ذلك, فقد قال برأيه, وأخطأ حظه, وأضاع نصيبه, وتكلّف ما لا علم له به.
وقوله: وأعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ يقول جلّ ثناؤه: وأعتدنا للشياطين في الاَخرة عذاب السعير, تُسْعَر عليهم فتُسْجَر.

الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَلِلّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ }.
يقول تعالى ذكره: وَللّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ الذي خلقهم في الدنيا عَذَابُ جَهَنّمَ في الاَخرة وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول: وبئس المصير عذاب جهنم.
وقوله: إذَا أُلْقُوا فِيها يعني إذا ألقى الكافرون في جهنم سَمِعُوا لهَا يعني لجهنم شَهِيقا يعني بالشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدّة كصوت الحمار, كما قال رؤبة في صفة حمار:
حَشْرَج في الجَوْفِ سَحِيلاً أوْ شَهَقْ
حتّى يُقالَ ناهِقٌ وَما نَهَقْ
وقوله: وَهيَ تَفُورُ يقول: تَغْلِي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26684ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن مجاهد سَمِعُوا لَهَا شَهِيقا وَهِي تَفُورُ يقول: تغلي كما يغلي القِدْر.
الآية : 8-9
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىَ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزّلَ اللّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ }.
يقول تعالى ذكره: تَكادُ جهنم تَمَيّزُ يقول: تتفرّق وتتقطع مِنَ الغَيْظِ على أهلها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26685ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ يقول: تتفرّق.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر.
26686ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ يقول: تفرّق.
26687ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ قال: التميز: التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله غضبا لله, وانتقاما له.
وقوله: كُلّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سألَهُمْ يقول جلّ ثناؤه: كلما ألقي في جهنم جماعة سألهم خَزَنَتُها, ألَمْ يأْتِكُمْ نَذِيرٌ يقول: سأل الفوجَ خزنةُ جهنم, فقالوا لهم: ألم يأتكم في الدنيا نذيرٌ ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه؟ فأجابهم المساكين فقالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ينذرنا هذا, فَكَذّبْناهُ وَقُلْنَا له: ما نَزّلَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ إن أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يقول: في ذهاب عن الحقّ بعيد.
الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِيَ أَصْحَابِ السّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأصْحَابِ السّعِيرِ }.
يقول تعالى ذكره: وقال الفوج الذي ألقي في النار للخَزَنة: لَوْ كُنّا في الدنيا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ من النّذُر ما جاءونا به النصيحة, أو نعقل عنهم ما كانوا يدعوننا إليه ما كُنّا اليوم فِي أصحَابِ السّعِيرِ يعني أهل النار.
وقوله: فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ يقول: فأقرّوا بذنبهم ووحّد الذنب, وقد أضيف إلى الجمع, لأن فيه معنى فعل, فأدّى الواحد عن الجمع, كما يقال: خرج عطاء الناس, وأعطية الناس فَسُحْقا لأصحَاب السّعِيرِ يقول: فبُعدا لأهل النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26688ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: فَسُحْقا لأصحَابٍ السّعِيرِ يقول: بُعدا.
26689ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن سعيد بن جبير فَسُحْقا لأصَحابِ السّعِيرِ قال: سُحقا: واد في جهنم.
والقرّاء على تخفيف الحاء من السّحْق, وهو الصواب عندنا لأن الفصيح من كلام العرب ذلك, ومن العرب من يحرّكها بالضمّ.
الآية : 12-13
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخافون ربهم بالغيب: يقول: وهم لم يرَوْه لَهَمْ مَغْفِرَةً يقول: لهم عفو من الله عن ذنوبهم وأجْرٌ كَبِيرٌ يقول: وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل.
وقوله: وأسِرّوا قَوْلَكُمْ أو اجْهَرُوا بِهِ يقول جلّ ثناؤه: وأخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه إنّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يُتَكَلّم بها, فكيف بما نطق به وتكلم به, أخفى ذلك أو أعلن, لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور فغيرها أحرى أن لا يخفي عليه