شرح حديث قنت شهراً بعد الركوع

شرح حديث: (قنت شهراً بعد الركوع)


 [ وعن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع؛ يدعو على أحياء من العرب ثم تركه )، متفق عليه ].
حديث أنس هذا أصح الأحاديث التي وردت في الباب، و أنس له عدة روايات في النوازل وفي غير النوازل، وله حديث أنه بعد الركوع، وحديث أنه قبل الركوع، فـ أنس له دور كبير في باب القنوت، وهذا الحديث هو من المتفق عليه.
(قنت صلى الله عليه وسلم شهراً)، أي الشهور هذا؟ إذاً: قبل ذلك لم يكن قنوت، وعليه فالقنوت ليس مشروعاً ابتداءً مع الصلاة، وإنما هو أمر عارض، وتاريخه أشار إليه أنس ، ولكن في الجملة: (يدعو على أقوام).

سبب قنوت النبي صلى الله عليه وسلم على أحياء من العرب

يتفق الجميع بأن سبب مشروعية القنوت في النازلة التي قنت فيها صلى الله عليه وسلم شهراً في الصلاة: أنه كان يدعو على أقوام، وتاريخ هذا القنوت وتلك النازلة بعد غزوة أحد بأربعة أشهر، وهي حادثة القراء، عندما جاء رجل من قبل نجد وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يقبله ولم يبعد، ثم قال: يا رسول الله! لو أرسلت رجالاً قبل نجد يدعون إلى ما تدعو إليه لعلهم يجيبونك، قال: ( أخشى عليهم أهل نجد؟ قال: أنا كافل لهم )، فتخير صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً من القراء، وليس معنى القراء: أصحاب التجويد المحترفين القراءة، لكن كان يقال لطلبة العلم ولحملة كتاب الله قراء؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم أربعين بإمرة رجل منهم، فلما جاءوا إلى بئر معونة قدموا خطاباً لـ أبي الطفيل ، فلما رأى الخطاب وقبل أن يقرأه قتل هذا الصحابي، ثم استعان على الرفقة البقية بجماعته فأبوا عليه، وقالوا: قد أعطينا فلاناً عهداً في حفظهم يعنون الصحابة، فاستعان برعل وذكوان وعصية، فأجابوه، وكان القوم في مقيلهم، فإذا بهؤلاء الناس يحيطون بهم، فتناولوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا جميعاً، ما عدا رعيان الإبل ورجل كان ضمن الجرحى، فالرعيان رءوا الطيور تحوم حول المكان؟ فقالوا: ما حامت هذه الطيور إلا على شيء، فجاء اثنان ووجد أصحابهم على تلك الحالة، فقال واحد: نرجع إلى رسول الله نخبره، وقال الآخر: والله ما أذهب وأترك أصحابي، بل أموت على ما ماتوا عليه، وأخذ يقاتل القوم حتى قتل، والثاني أخذ أسيراً، والذي كان في الجرحى حسبوه من القتلى، ففي الليل تحامل على نفسه وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر رسول الله حزن حزناً شديداً -كما في رواية البخاري رحمه الله- ثم أخذ يدعو عليهم.
وتعددت الروايات في هذا، فمنهم من يقول: (في الصلوات الخمس)، ومنهم من يقول: (في المغرب والفجر) ومنهم من يقول: (في الفجر فقط)، فنجد الروايات متعددة في موضع قنوت تلك النازلة.
إذاً: مبدئياً سبب وتاريخ مشروعية القنوت كان بعد أحد بأربعة أشهر، وبسبب مقتل القراء، فحزن عليهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ يدعو على الذين قتلوهم.
وحديث أنس هذا أول حديث يورده المؤلف، وفي هذا لفت نظر طيب جداً؛ فبدأ بحديث بدء المشروعية، وعرفنا متى وجد القنوت ولأي سبب، ومما يتعلق بعلم الحديث: أن لفظ الحديث هنا يدعو على أحياء من العرب، وأحياء فيها عموم وخصوص عام من جهة عموم أفراد الحي، وخاص من جهة أنه ليس على العرب جميعاً.

بحث فيمن يحق له القنوت

هنا يأتي بحث الفقهاء: هل في القنوت يدعو الإمام على مجمل جماعة أم يسمي أفراداً بأعيانهم؟ هذا خاص بالإمام؛ لأن الرسول بصفته إمام المسلمين هو الذي دعا، ولا يجوز لفرد من أفراد الناس أن يدعو أو أن يقنت في النوازل بمفرده؛ لأن الرسول لم يأمر الناس أن يفعلوا، وفعله بنفسه، وهذه من أبحاث الحديث وفيها الخلاف، وجاء في بعض الأحاديث الأخرى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قنوته في بعض النوازل سمى أشخاصاً، مثل نازلة سلى الجزور في مكة، وفي أحد سمى: أبا سفيان و صفوان ، فسمى أشخاصاً بأعيانهم، وقد يكون الدعاء في نازلة للمؤمنين بنصرهم وتأييدهم، وقالوا: روت عائشة وغيرها: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت لغيبة عثمان حينما قيل: إنه قتل ) ، فقنت ورفع يديه، ودعا لشخص بعينه.
(يدعو على أحياء من العرب): أحياء جمع حي، وهم الجماعة القاطنون بمنزل مستقل، وجاءت تسميتهم بـ: رعل وذكوان وعصية.
وهم قبائل تلك المنطقة الذين طوقوا أولئك القراء وقتلوهم.

تحرير النزاع في حكم القنوت في الفجر

قال رحمه الله: [ ولـ أحمد و الدارقطني نحوه من وجه آخر، وزاد: ( وأما في الصبح؛ فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ).
].
في حديث أنس : (قنت شهراً ثم ترك) لماذا؟ انتهت المهمة، وإلى هنا محل اتفاق، لكن بجمع أطراف الحديث وطرقه ورواياته زيادة على ما اتفق عليه البخاري و مسلم ، فروى أحمد رواية أخرى: (أما الصبح ...)، ولماذا ذكر الصبح هنا، نفهم من قوله: (أما الصبح) أن القنوت السابق لمدة شهر في جميع الصلوات ثم ترك، أما الصبح وهو إحدى الصلوات الخمس فلم يزل يقنت فيها حتى فارق الدنيا.
إذاً: حديث أنس خاص في النوازل، وقوله: (حتى فارق الدنيا) عام في نوازل وغير نوازل، وحديث أنس فيه عموم الصلوات الخمس، وفيه خصوص صلاة الصبح، لكن نجد علماء الحديث يقولون: إن القنوت في النوازل فقط على ما جاء في المتفق عليه من حديث أنس ، وينفون القنوت في غير النوازل، ففريق قال: أما الصبح فلا زال يقنت بصفة دائمة نوازل أم غير نوازل حتى فارق الدنيا، والآخرون يقولون: انتهت بانتهاء الشهر، ونتنبه إلى دقة مآخذ الفقهاء من الألفاظ في هذا السياق.
إذاً: انتهينا إلى مسألتين: الرواية المتفق عليها، وفيها القنوت في النوازل فقط، وهذا مما لم يختلف فيه أحد، والرواية التي عند أحمد زيادة على ما عند الشيخين، وفيها إثبات القنوت في الصبح خاصة، وهذا الذي أخذ به من أخذ أن القنوت في الصبح، وستأتي الأحاديث الأخرى تبين أن القنوت كان في الوتر، و الشافعي والمالكية أخذوا من هذه الرواية القنوت في الصبح، وإن اختلفوا هل هو قبل الركوع كالمالكية، أم بعد الركوع كالشافعية، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

شرح حديث: (كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم)

قال: [ وعنه رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم ) صححه ابن خزيمة .
].
أنس رجع مرة أخرى لقنوت النوازل، وهناك: (أما الصبح فلا زال يقنت حتى فارق)، من هنا قال بعض العلماء: أنس يقول: ما كان يقنت إلا إذا دعا في النوازل، ولكن هذا الأثر يُعارض بآثار أخرى على ما سيأتي إن شاء الله، ويهمنا الروايات المختلفة عن أنس نفسه، وهنا قال: ( إلا إذا دعا على قوم من الأعداء، أو دعا لقوم من المسلمين والمستضعفين )، وكونه صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم في نازلة؛ فهذا محل اتفاق بين العلماء، و علي رضي الله تعالى عنه كان في حربه مع أهل الشام، و عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا أرسل جيشاً يدعو له ويقنت.
إذاً: القنوت في النوازل عند الدعاء لقوم أو على قوم ماضٍ في طريقه، وهو من عمل الخلفاء الراشدين.

شرح حديث: (أي بني! محدث)

قال: [ وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: ( قلت لأبي: يا أبت! إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني! محدث ) رواه الخمسة.
].
هنا سؤال: أكانوا يقنتون في الفجر؟ وهو سؤال عن القنوت في تلك الأزمنة، وعن خصوص القنوت في الفجر، فقوله: (أي بني محدث) هل هو في الفجر أم في عموم القنوت؟ في الفجر؛ لأن عموم القنوت ثبت عندنا، إذاً: قوله: (أي بني محدث) منصب على كونه في الفجر، ولذا قال قوم: القنوت دعاء، وكلام البشر ينبغي أن يكون في النافلة لا في الفريضة، لكن إذا ثبت بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة فلا حاجة لرده، ولذا يتكلم المؤلف وغيره على ضعف هذا الأثر.

شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم رحمه الله