موقع الحمد لله القرآن الكريم القرآن mp3 المقالات مواقيت الصلاة
القرآن الكريم

تفسير إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل - الآية 164 من سورة البقرة

سورة البقرة الآية رقم 164 : شرح و تفسير الآية

تفسير و معنى الآية 164 من سورة البقرة عدة تفاسير, سورة البقرة : عدد الآيات 286 - الصفحة 25 - الجزء 2.

﴿ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ﴾
[ البقرة: 164]


التفسير الميسر

إن في خلق السماوات بارتفاعها واتساعها، والأرض بجبالها وسهولها وبحارها، وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر، والظلمة والنور، وتعاقبهما بأن يخلف كل منهما الآخر، وفي السفن الجارية في البحار، التي تحمل ما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء المطر، فأحيا به الأرض، فصارت مخضرَّة ذات بهجة بعد أن كانت يابسة لا نبات فيها، وما نشره الله فيها من كل ما دبَّ على وجه الأرض، وما أنعم به عليكم من تقليب الرياح وتوجيهها، والسحاب المسيَّر بين السماء والأرض -إن في كل الدلائل السابقة لآياتٍ على وحدانية الله، وجليل نعمه، لقوم يعقلون مواضع الحجج، ويفهمون أدلته سبحانه على وحدانيته، واستحقاقه وحده للعبادة.

تفسير الجلالين

إن في خلق السماوات والأرض» وما فيهما من العجائب «واختلاف الليل والنهار» بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان «والفلك» السفن «التي تجري في البحر» ولا ترسب موقرة «بما ينفع الناس» من التجارات والحمل «وما أنزل الله من السماء من ماء» مطر «فأحيا به الأرض» بالنبات «بعد موتها» يبسها «وبث» فرق ونشربه «فيها من كل دابة» لأنهم ينمون بالخصب الكائن عنه «وتصريف الرياح» تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة «والسحاب» الغيم «المسخَّر» المذلَّل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله «بين السماء والأرض» بلا علاقة «لآيات» دالاّت على وحدانيته تعالى «لقوم يعقلون» يتدبرون.

تفسير السعدي

أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد.
وفي خلق الْأَرْضِ مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها, والاعتبار.
ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم.
وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة, لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده و في اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه.
و في وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.
ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.
فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته.
وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع الطاعة, والذل والتعظيم.
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ وهو المطر النازل من السحاب.
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها.
أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ وَبَثَّ فِيهَا أي: في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.
فمنها: ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم, ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها.
وفي تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ باردة وحارة, وجنوبا وشمالا, وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب, وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب.
فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟.
وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير, فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه" أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا, وباطنا وظاهرا.
والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.
فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.

تفسير البغوي

فأنزل الله عز وجل إن في خلق السموات والأرض ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وماترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.
قوله تعالى: واختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره قوله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة [62-الفرقان].
قال عطاء: "أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان".
والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع، والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار [37-يس].
والفلك التي تجري في البحر يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى: في الواحد والتذكير إذ أبق إلى الفلك المشحون [140-الصافات] وقال في الجمع والتأنيث حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة [22-يونس].
والفلك التي تجري في البحر الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء.
بما ينفع الناس يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب.
وما أنزل الله من السماء من ماء يعني المطر قيل: أراد بالسماء السحاب، يخلق الله في السحاب ثم من السحاب ينزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض.
فأحيا به أي الماء.
الأرض بعد موتها أي بعد يبوستها وجدوبتها.
وبث فيها أي فرق فيهامن كل دابة وتصريف الرياح قرأ حمزة والكسائي (الريح) بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل (ريح) في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات الريح العقيم [41-الذاريات] اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم الرياح مبشرات [456-الروم] اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث.
وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء، وقيل: تصريفها أنها تارة تكون ليناً وتارة تكون عاصفاً وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة.
قال ابن عباس: "أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحاً لأنها تريح النفوس"، قال شريح القاضي: "ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها".
وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب، فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر.
والسحاب المسخر أي الغيم المذلل سمي سحاباً لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر.
بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.
قال وهب بن منبه: "ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب".

تفسير الوسيط

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
الخلق: هو الإحداث للشيء على غير مثال سابق.
وهو هنا بمعنى المخلوق.
إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض.
والسموات: جمع سماء، وهي كل ما علا كالسقف وغيره، إلا أنها إذا أطلقت لم يفهم منها سوى الأجرام المقابلة للأرض، وهي سبع كما ورد ذلك صريحا في بعض الآيات التي منها قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ.
وجمعت السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله- تعالى-: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح.
في كونها سبعا.
وجاءت الأرض مفردة- وهي لم تجيء في القرآن إلا كذلك- لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله- تعالى-:اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض.
ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته في خلق السموات ارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة، وتزيينها بالمصابيح التي جعلها الله زينة للسماء ورجوما للشياطين، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التي لا ترى فيها أى تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته في خلق الأرض، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التي يتيسر معها للإنسان أن يتقلب في أرجائها، ويمشى في مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان، وتفجيرها بالأنهار، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها.
وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتحدث عن نعم الله على عباده في خلق السموات والأرض، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته في إيجادهما على تلك الصورة، ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.
وقوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً.
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً.
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.
ويتمثل الدليل الثالث على قدرته- سبحانه- ووحدانيته في قوله تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، والاختلاف: افتعال من الخلف، وهو أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب.
والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتى خلفا من الآخر وفي أعقابه، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما، في أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما في جنسهما بالسواد والبياض.
واللَّيْلِ: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة كتمر وتمرة.
والنَّهارِ: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:ملكت بها كفى فأنهرت فتقها .
.
.
يرى قائم من دونها ما وراءهاأى: أوسعت فتقها.
وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه في مناجاته- سبحانه-، وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق.
قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً.
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرّا.
قال- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستو فيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد.
قال- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال.
وإذا كان لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء، فإن الذي خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازما إنما هو الإله الواحد القهار.
أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة في هذا الكون على قدرته- سبحانه- ووحدانيته وألوهيته، فقد تحدثت عنه الآية في قوله- تعالى-: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ.
(الفلك) : ما عظم من السفن، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع.
والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله- تعالى-: الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال:الذي يجرى، كما جاء في قوله- تعالى-: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ والجملة الكريمة معطوفة على خلق السموات والأرض.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن تأتى هذه الجملة في آخر الآية ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة.
والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم.
قال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله .
و «ما» في قوله: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ مصدرية، والباء للسببية أى: تجرى بسبب نفع الناس ولأجله في التجارة وغيرها.
أو موصولة والباء للحال، أى تجرى مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس.
وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه.
ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.
الدليل الخامس والسادس على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة يتمثل في قوله- تعالى-في هذه الآية: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
والمراد بالسماء: جهة العلو، أى: وما أنزل من جهة السماء من ماء، و «من» في قوله:مِنَ السَّماءِ ابتدائية، وفي قوله: مِنْ ماءٍ بيانية، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل.
والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك.
والمراد بموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها.
قال- تعالى-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
(والبث) : التفريق والنشر لما كان خافيا، ومنه بث الشكوى أى: نشرها وإظهارها، وكل شيء بثثته فقد فرقته ونشرته، والضمير في قوله: «فيها» يعود إلى الأرض.
(والدابة) : اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة.
والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.
وجملة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ .
.
.
معطوفة على ما قبلها، وجملة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ معطوفة على قوله: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.
والمعنى: وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.
ذلك لأنه هو وحده الذي أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن الماء من طبعه الانحدار، وهو وحده الذي جعل الأرض التي نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب ما أنزل عليها من ماء، وهو وحده الذي نشر على هذه الأرض أنواعا من الدواب مختلفة في طبيعتها وأحجامها، وأشكالها وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها، وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم.
أما الدليل السابع والثامن في هذه الآية على قدرته- سبحانه- ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله- تعالى-: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
الرياح جمع ريح وهي نسيم الهواء.
وتصريفها: تقليبها في الجهات المختلفة، ونقلها من حال إلى حال، وتوجيهها على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته.
فتهب تارة صبا، أى من مطلع الشمس، وتارة دبورا، أى:من جهة الغرب، وأحيانا من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها- سبحانه- عاصفة ولينة، حارة أو باردة، لواقح بالرحمة حينا وبالعذاب آخر.
وتَصْرِيفِ مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله، أى: وتصريف الله الرياح.
أو مضاف للفاعل والمفعول السحاب، أى: وتصريف الرياح السحاب.
وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما، وتذكيرا بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض، ولو أمسك- سبحانه- الرياح عن التصريف لما عاش كائن على ظهر الأرض.
وَالسَّحابِ: عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة، سمى بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له.
والْمُسَخَّرِ: من التسخير وهو التذليل والتيسير، ومعنى تسخيره- كما قال الآلوسى- أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضى صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا- والْمُسَخَّرِ صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله:سَحاباً ثِقالًا.
والظرف «بين» يجوز أن يكون منصوبا بقوله المسخر فيكون ظرفا للتسخير، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أى: كائنا بين السماء والأرض.
وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه، وهي التي تسوقه إلى حيث ينزل مطرا في الأماكن التي يريد الله إحياءها.
قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.
ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار، وهذا التسخير للسحاب بحيث يبقى معلقا بين السماء والأرض مع حمله للمياه العظيمة التي تسيل بها الأودية المتسعة .
.
.
لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبرا قادرا حكيما هو الله رب العالمين.
وقوله: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اسم إِنَّ لقوله- تعالى- في أول الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ودخلت اللام على الاسم وهو لَآياتٍ لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفا.
أى: إن فيما ذكره الله من مخلوقاته العجيبة، وكائناته الباهرة، لدلائل ساطعة، وآيات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها، إلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما مستحقا للعبادة والخضوع والطاعة.
وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله- تعالى- أخبر في الآية السابقة أن الإله واحد لا إله غيره وهي قضية قد تلقاها كثير من الناس بالإنكار، فناسب أن يأتى في هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التي لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله- تعالى- وقدرته.
قال الإمام الرازي: واعلم أن النعم على قسمين: نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية، التي عدها الله- تعالى- نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل بها على معرفة الصانع، صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
وقال الآلوسى: أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» .
ثم قال الآلوسى: ومن تأمل في تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده- تعالى- ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستنبعا لآثار معينه، وأحكام مخصوصة .
.
.
وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة».
والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت في تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما في هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق- عز وجل- بالعبادة.
لما فيها من عظات وعبر وصدق الله إذ يقول وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.
ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتابا مخلوقا وهو الكون، وكتابا منزلا وهو القرآن.
وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك بما أوتينا من العقل.
فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.
وبعد أن ذكر- سبحانه- جانبا من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال- تعالى-:

المصدر : تفسير : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل