موقع الحمد لله القرآن الكريم القرآن mp3 المقالات مواقيت الصلاة
القرآن الكريم

تفسير وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة - الآية 82 من سورة الكهف

سورة الكهف الآية رقم 82 : شرح و تفسير الآية

تفسير و معنى الآية 82 من سورة الكهف عدة تفاسير, سورة الكهف : عدد الآيات 110 - الصفحة 302 - الجزء 16.

﴿ وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ﴾
[ الكهف: 82]


التفسير الميسر

وأما الحائط الذي عدَّلتُ مَيْلَه حتى استوى فإنه كان لغلامين يتيمين في القرية التي فيها الجدار، وكان تحته كنز لهما من الذهب والفضة، وكان أبوهما رجلا صالحًا، فأراد ربك أن يكبَرا ويبلغا قوتهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك بهما، وما فعلتُ يا موسى جميع الذي رأيتَني فعلتُه عن أمري ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله، ذلك الذي بَيَّنْتُ لك أسبابه هو عاقبة الأمور التي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها والإنكار عليَّ فيها.

تفسير الجلالين

«وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز» مال مدفون من ذهب وفضة «لهما وكان أبوهما صالحا» فحفظا بصلاحه في أنفسهما ومالهما «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما» أي إيناس رشدهما «ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك» مفعول له عامله أراد «وما فعلته» أي ما ذكر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار «عن أمري» أي اختباري بل بأمر إلهام من الله «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، ففي هذا وما قبله جمع بين اللغتين ونوعت العبارة في: فأردت، فأردنا فأراد ربك.

تفسير السعدي

وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ الذي أقمته فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما.
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ أي: أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره.
ذَلِكَ ْ الذي فسرته لك تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله.
فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْوكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: آتِنَا غَدَاءَنَا ْ إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفرعلى الحقيقة.
وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه آتِنَا غَدَاءَنَا ْ فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْومنها: أن العلم الذي يعلمه الله [لعباده] نوعان:علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده.
ونوع علم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه.
فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن العلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْومنها: أن العزم على فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسى قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه خير، فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها، داخل في هذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم.
فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْومنها: أن القتل قصاصا غير منكر لقوله بِغَيْرِ نَفْسٍ ْومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ كما قال إبراهيم عليه السلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ وقالت الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.

تفسير البغوي

قوله عز وجل : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ) وكان اسمهما أصرم وصريم ( وكان تحته كنز لهما ) اختلفوا في ذلك الكنز .
روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان ذهبا وفضة " .
وقال عكرمة : كان مالا .
وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفا فيها علم .
وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : " عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح! عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب! عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب! عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
وفي الجانب الآخر مكتوب : " أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه " وهذا قول أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا .
قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعا لهما .
( وكان أبوهما صالحا ) قيل : كان اسمه " كاسح " وكان من الأتقياء .
قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما .
وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء .
قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده [ وولد ولده ] وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم .
قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي .
قوله عز وجل : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) أي : يبلغا ويعقلا .
وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما .
وقيل : ثماني عشرة سنة .
( ويستخرجا ) حينئذ ( كنزهما رحمة ) نعمة ( من ربك )( وما فعلته عن أمري ) أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) أي لم تطق عليه صبرا و " استطاع " و " اسطاع " بمعنى واحد .
روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به .
واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم .
وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة .
وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكرا لله عز وجل وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد .
وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " ( الأنبياء - 34 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : " أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد " .
ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده " .

تفسير الوسيط

أى: وَأَمَّا الْجِدارُ الذي أتعبت نفسي في إقامته، ولم يعجبك هذا منى.
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مات أبوهما وهما صغيران، وهذان الغلامان يسكنان في تلك المدينة، التي عبر عنها القرآن بالقرية سابقا في قوله: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ.
قالوا: ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا، لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح، .
وكان تحته أى تحت هذا الجدار كَنْزٌ لَهُما أى: مال مدفون من ذهب وفضة.
.
ولعل أباهما هو الذي دفنه لهما.
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً أى: رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى، فكان ذلك منه سببا في رعاية ولديه، وحفظ مالهما.
فَأَرادَ رَبُّكَ ومالك أمرك ومدير شئونك، والذي يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإرادته.
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أى: كمال رشدهما، وتمام نموهما وقوتهما.
ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته، ولولا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أى: وما أراده ربك- يا موسى- بهذين الغلامين، هو الرحمة التي ليس بعدها رحمة، والحكمة التي ليس بعدها حكمة.
فقوله «رحمة» مفعول لأجله.
ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
أى: وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى، أو عن رأيى الشخصي، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربي ومالك أمرى، وذلك الذي ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذي لم تستطع عليه صبرا، ولم تطق السكوت عليه، لأنك لم يطلعك الله- تعالى- على خفايا تلك الأمور وبواطنها.
.
كما أطلعنى.
وحذفت التاء من تَسْطِعْ تخفيفا.
يقال: استطاع فلان هذا الشيء واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه.
وبذلك انكشف المستور لموسى عليه السلام- وظهر ما كان خافيا عليه.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث، منها ما رواه الشيخان، ومنها ما رواه غيرهما، ونكتفي هنا بذكر حديث واحد.
قال- رحمه الله- قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرنى سعيد بن جبير قال.
قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبي بنى إسرائيل.
قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل، فسئل أى الناس أعلم؟ فقال: أنا.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه.
فأوحى الله إليه: إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟قال: تأخذ معك حوتا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم» .
فأخذ حوتا، فجعله في مكتل، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون.
حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت.
فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان الغد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به.
قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا.
فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
قال: فرجعا يقصان أثرهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى- أى مغطى- بثوب، - فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام.
قال: أنا موسى: قال: موسى نبي إسرائيل قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا.
قال: إنك لن تستطيع معى صبرا.
يا موسى: إنى على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا.
قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلقا يمشيان، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول- أى بغير أجر- فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم.
فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها، لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا.
قال له الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا.
قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الأولى من موسى نسيانا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة.
فنقر في البحر نقرة.
فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله- فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا.
قال: وهذه أشد من الأولى.
قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ.
قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.
قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» .
وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى:1- أن الإنسان مهما أوتى من العلم، فعليه أن يطلب المزيد، وأن لا يعجب بعلمه، فالله- تعالى- يقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
2- أن الرحلة في طلب العلم من صفات العقلاء.
فموسى- عليه السلام- وهو من أولى العزم من الرسل، تجشم المشاق والمتاعب لكي يلتقى بالرجل الصالح لينتفع بعلمه، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله- تعالى- حكاية عنه: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً.
قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم.
وذلك كان دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح: وحصلوا على السعى الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام.
وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام.
قال البخاري: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث .
3- جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ورد عليه فتاه بقوله: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ .
.
.
وفي هذا الرد- أيضا- من الأدب ما فيه، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان، وإن كان الكل بقضاء الله- تعالى- وقدره.
4- أن العلم على قسمين: علم مكتسب يدركه الإنسان باجتهاده وتحصيله.
.
بعد عون الله تعالى- له.
وعلم لدنى يهبه الله- سبحانه- لمن يشاء من عباده فقد قال- تعالى- في شأن الخضر وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أى: علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية.
5- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وتأمل ما حكاه الله عن موسى في قوله للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، فكأنه يقول له: هل تأذن لي في ذلك أولا، مع إقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أوابحث في الكتاب: اضغط للبحث عن الكلمة داخل الكتاب تحميل الكتاب الأولى السابقة التالية الأخيرةالكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه.
.
.
6- أنه لا بأس على العالم، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه، لأن المتعلم لا يطيق ذلك، لجهله بالأسباب التي حملت العالم على فعل تلك الأمور التي ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلي، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر.
فقد قال الخضر لموسى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر.
7- إن من علامات الإيمان القوى، أن يقدم الإنسان المشيئة عند الإقدام على الأعمال، وأن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله، فقد قال موسى للخضر: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ومع ذلك فعند ما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح، لم يصبر.
وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ في تعليمه.
فقد قال الخضر لموسى: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
8- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا، وإن قتل الغلام شر، ولكنه أقل من الشر الذي سيترتب على بقائه.
وهو إرهاقه لأبويه، وحملهما على الكفر.
كما يجوز للإنسان أن يعمل عملا في ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا في دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه.
ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه، فقد خرق الخضر السفينة، لكي تبقى لأصحابها المساكين.
9- أن التأنى في الأحكام.
والتثبت من الأمور، ومحاولة معرفة العلل والأسباب .
.
.
كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم، وإلى سلامة القول والعمل.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب» .
10- أن من دأب العقلاء الصالحين.
استعمال الأدب مع الله- تعالى- في التعبير، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال: «فأردت أن أعيبها.
.
» وأضاف الخير الذي فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ:وشبيه بهذا ما حكاه الله- تعالى- عن صالحي الجن في قولهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
11- قال القرطبي: قوله- تعالى- يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أى: قرب أن يسقط.
وهذا مجاز وتوسع.
وقد فسره في الحديث بقوله «مائل» فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور.
وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة، فإنما هي استعارة.
أى: لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارهم كثير، كقول الأعشى:أتنهون ولا ينهى ذوى شطط .
.
.
كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتلوالشطط: الجور والظلم، يقول: لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذي يغيب فيه الفتل- فأضاف النهى إلى الطعن.
وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن فإن كلام الله عز وجل- وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين، لأنه يقص الحق كما أخبر الله- تعالى- في كتابه.
.
.
وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز في القرآن فقال ما ملخصه: قوله- تعالى-: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ.
هذه الآية من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون: بأن المجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة، لأن الله- تعالى- يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق، كما صرح- تعالى- بأنه يعلم من ذلك مالا يعلمه خلقه في قوله- سبحانه- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .
.
.
فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها- سبحانه- ونحن لا نعلمها.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة» .
وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه.
فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجزع، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه.
.
.
12- أن صلاح الآباء ينفع الأبناء.
بدليل قوله- تعالى-: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما.
13- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يبين له الأسباب التي حملته على ذلك، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى: «هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» أى: قبل مفارقتي لك سأخبرك عن الأسباب التي حملتني على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا.
ويفهم من ذلك أن موافقة الصاحب لصاحبه- في غير معصية الله- تعالى- على رأس الأسباب التي تعين على دوام الصحبة وتقويتها، كما أن عدم الموافقة، وكثرة المخالفة، تؤدى إلى المقاطعة.
كما يفهم من ذلك- أيضا- أن المناقشة والمحاورة متى كان الغرض منها الوصول إلى الحق، وإلى المزيد من العلم، وكانت بأسلوب مهذب، وبنية طيبة، لا تؤثر في دوام المحبة والصداقة، بل تزيدهما قوة وشدة.
نسأل الله- تعالى- أن يؤدبنا بأدبه، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
ثم ساق- سبحانه- قصة ذي القرنين، وهي القصة الرابعة والأخيرة في السورة فقد سبقتها قصة أصحاب الكهف.
وقصة صاحب الجنتين وقصة موسى والخضر.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يقص علينا بأسلوبه البليغ المؤثر خبر ذي القرنين فيقول:

المصدر : تفسير : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة