موقع الحمد لله القرآن الكريم القرآن mp3 المقالات مواقيت الصلاة
القرآن الكريم

تفسير ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل - الآية 94 من سورة النساء

سورة النساء الآية رقم 94 : شرح و تفسير الآية

تفسير و معنى الآية 94 من سورة النساء عدة تفاسير, سورة النساء : عدد الآيات 176 - الصفحة 93 - الجزء 5.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ﴾
[ النساء: 94]


التفسير الميسر

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا خرجتم في الأرض مجاهدين في سبيل الله فكونوا على بينة مما تأتون وتتركون، ولا تنفوا الإيمان عمن بدا منه شيء من علامات الإسلام ولم يقاتلكم؛ لاحتمال أن يكون مؤمنًا يخفي إيمانه، طالبين بذلك متاع الحياة الدنيا، والله تعالى عنده من الفضل والعطاء ما يغنيكم به، كذلك كنتم في بدء الإسلام تخفون إيمانكم عن قومكم من المشركين فمَنَّ الله عليكم، وأعزَّكم بالإيمان والقوة، فكونوا على بيِّنة ومعرفة في أموركم. إن الله تعالى عليم بكل أعمالكم، مطَّلع على دقائق أموركم، وسيجازيكم عليها.

تفسير الجلالين

ونزل لما مر نفر من الصحابة برجل من بني سليم وهو يسوق غنما فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا تقية فقتلوه واستاقوا غنمه «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم» سافرتم للجهاد «في سبيل الله فتبينوا» وفي قراءة فتثبتوا في الموضعين «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام» بألف أو دونها أي التحية أو الانقياد بكلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام «لست مؤمنا» وإنما قلت هذا تقيه لنفسك ومالك فقتلوه «تبتغون» تطلبون لذلك «عرَضَ الحياة الدنيا» متاعها من الغنيمة «فعند الله مغانم كثيرة» تغنيكم عن قتل مثله لماله «كذلك كنتم من قبل» تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد قولكم الشهادة «فمنَّ الله عليكم» بالاشتهار وبالإيمان والاستقامة «فتبينوا» أن تقتلوا مؤمناً وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فُعل بكم «إن الله كان بما تعملون خبيرا» فيجازيكم به.

تفسير السعدي

يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة.
فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة.
فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى.
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها.
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم.
فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: فَتَبَيَّنُوا فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم.

تفسير البغوي

قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم ، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين ، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قتلتموه إرادة ما معه " ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد ، فقال : يا رسول الله استغفر لي ، فقال فكيف بلا إله إلا الله؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : " اعتق رقبة " .
وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إنما قال خوفا من السلاح ، قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا " ؟وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم ، قالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) .
.
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد .
( فتبينوا ) قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت ، أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته ، ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ) هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة ، أي : المقادة ، وهو قول " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل : السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمنا ، ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، و " عرض الحياة الدنيا " منافعها ومتاعها ، ( فعند الله مغانم ) أي غنائم ، ( كثيرة ) وقيل : ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن ، ( كذلك كنتم من قبل ) قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين ( فمن الله عليكم ) بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالا من قبل فمن الله عليكم بالإسلام والهداية .
وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمن الله عليكم بالهجرة ، فتبينوا أن تقتلوا مؤمنا .
( إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال : " إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا " .

تفسير الوسيط

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات متعددة إلا أنها متقاربة في المعنى.
وقد حكى معظمها الإمام القرطبي فقال ما ملخصه:هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله- ظنا منه أن المقتول نطق بالشهادتين ليأمن القتل- فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته.
وقد قيل: إن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط.
وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك من بنى مرة من أهل فدك.
وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا فمنح المشركون المسلمين أكتافهم.
فحمل رجل من المسلمين على رجل من المشركين بالرمح.
فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إنى مسلم.
فطعنه فقتله.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت.
قال: «وما الذي صنعت» مرة أو مرتين.
فأخبره بالذي صنع.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه» ؟فقال: «يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه؟ قال: لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه» .
.
.
ثم قال القرطبي: ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع .
والضرب في الأرض: السير فيها.
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره.
وكأن السير في الأرض سمى بذلك لأنه يضرب الأرض برجليه في سيره.
والمراد بالضرب في الأرض هنا: السفر والسير فيها من أجل الجهاد في سبيل الله.
وقوله فَتَبَيَّنُوا معناه: فتثبتوا وتأكدوا وتأملوا فيما تأتون وتذرون.
وقرأ حمزة «فتثبتوا» .
قال القرطبي: والسلم والسلم والسلام بمعنى واحد.
قال البخاري.
وقرئ بها كلها.
واختار أبو عبيد «السلام» .
وخالفه أهل النظر فقالوا السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والاستسلام.
كما قال- تعالى- فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق، إذا خرجتم من بيوتكم وسرتم في الأرض من أجل الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته فَتَبَيَّنُوا أى فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون، واحذروا أن تضعوا سيوفكم في غير موضعها.
فإن الأصل في الدماء الحرمة والصيانة وعدم الاعتداء عليها، وقد حرم الله- تعالى- قتل النفس إلا بالحق.
والتبين والتثبت في القتل واجب حضرا وسفرا.
وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي نزلت فيها الآية وقعت في السفر.
وقوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً أى: تأكدوا- أيها المؤمنون- وتثبتوا في كل أحكامكم وأفعالكم، ولا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم ودينكم فنطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإسلام.
لا تقولوا له لست مؤمنا حقا وإنما قلت ما قلت بلسانك فقط لتأمن القتل.
بل الواجب عليكم أن تقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه فإن علم السرائر والبواطن إنما هو لله- تعالى- وحده.
وجملة لَسْتَ مُؤْمِناً مقول لقوله لا تَقُولُوا: أى لا تنفوا عنه الإيمان وهو يظهره أمامكم وفي هذا من الفقه- كما يقول القرطبي- باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
ولقد كان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به، وقد أرسل بذلك إلى قواد جيوشه لأن الذين يقتلون من يطلب الأمان طمعا في ماله لا يكون جهادهم خالصا لله، ولا تكون أعمالهم محل رضا الله- تعالى- ولذا قال- سبحانه-:تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ.
والابتغاء: الطلب الشديد والرغبة الملحة.
وعرض الحياة الدنيا: جميع متاعها وأموالها.
وسمى متاع الدنيا عرضا، لأنه مهما كثر فهو زائل غير دائم، وعارض غير باق.
قال الراغب: والعرض- بفتح الراء والعين- مالا يكون له ثبات.
ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر.
وقيل: الدنيا عرض حاضر تنبيها على أنه لا ثبات لها ، والمغانم: جمع مغنم ويطلق على ما يؤخذ من مال العدو، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
والمعنى: تثبتوا- أيها المؤمنون- في كل أقوالكم وأعمالكم، ولا تتعجلوا في أحكامكم، ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإسلام أو نطق بالشهادتين لست مؤمنا، وإنما فعلت ذلك تقية ثم تقتلونه.
مبتغين من وراء قتله متاع الدنيا الزائل، وعرضها الفاني، إن هذا المسلك يتنافى مع الإيمان الصادق والجهاد الخالص.
ومن كان منكم يريد متاع الدنيا فليطلبه من الله وحده- فإن خزائنه لا تنفد، وعطاءه لا يحد- ولا يطلبه عن طريق الاعتداء على من أظهر الإسلام أو التمس منكم الأمان.
وقوله تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من فاعل لا تَقُولُوا لكن لا على أن يكون النهى راجعا للقيد فقط كما في قولك: لا تطلب العلم تبتغى به الجاه والتفاخر، بل على أنه راجع إليهما جميعا.
أى: لا تقولوا له ذلك ولا تبتغوا العرض الفاني.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة توبيخهم على حرصهم على متاع الدنيا بطريقة لا تتناسب مع الإيمان الكامل، ومع الهدف الذي خرجوا من أجله: وهو إعلاء كلمة الله تعالى- وضم أكبر عدد من الناس إلى دعوة الحق التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ تعليل للنهى عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا بهذا الأسلوب فكأنه قال: لا تعودوا إلى ما فعلتموه من قتل من ألقى إليكم السلام طلبا لما له، فإن الله- تعالى- عنده مغانم كثيرة، وفي مقدوره أن يغنيكم من فضله فالجأوا إلى جنابه وحده، وخصوه بالسؤال، وأخلصوا له العمل.
وقوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا تعليل للنهى عما قالوه وما فعلوه.
أى: أنتم- أيها المؤمنون- كنتم من قبل مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام، فقد كنتم في أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من النطق بالشهادتين وتبادل تحية الإسلام، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال: قوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت من دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكانة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سبيلا إلى استباحة دمه وماله وقد حرمهما الله .
فاسم الإشارة راجع إلى من في قوله: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة راجعا إلى الحالة التي كانوا عليها في ابتداء إسلامهم.
أى كحال هذا الذي يسر إيمانه ويخفيه عن قومه كنتم من قبل.
وقد رجح هذا المعنى ابن جرير فقال ما ملخصه: قوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أى كذلك كنتم تخفون إيمانكم في وقومكم من المشركين، وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفيا بدينه منهم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أى: فرفع منكم ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته .
.
.
.
والذي يبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين، إلا أن التفسير الأول الذي جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية لأن المقصد الرئيسى الذي تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإسلام وعن الاعتداء عليه.
وأمرهم بان يعاملوا الناس بظواهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده.
والفاء في قوله فَتَبَيَّنُوا فصيحة.
أى: إذا كان الأمر كذلك فتبينوا نعمة الله عليكم وداوموا على شكرها، وقيسوا أحوال غيركم بما سبق من أحوالكم، واقبلوا ظواهر الناس بدون فحص عن بواطنهم، ولا تصدروا أحكامكم عليهم إلا بعد التثبت والتأكد من صحتها ولا تشهروا سيوفكم في وجوههم إلا بعد التأكد من كفرهم وعدوانهم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تذييل قصد به تحذيرهم من مخالفة أمره.
أى: إن الله مطلع على دقيق الأمور وجليلها، خبير بما تسره نفوسكم وما تعلنه، لا يخفى عليه شيء من ظواهركم وبواطنكم، وسيحاسبكم على كل ذلك، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر.
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حرم قتله لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من إهدار دمه وماله وأهله.
كما أخذوا منها وجوب التثبت في الأحكام وفي الأقوال.
وأخذ الناس بظواهرهم حتى يثبت خلاف ذلك.
قال الفخر الرازي: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين.
وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف .
وقال بعض العلماء: وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه.
وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق.
وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفى أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة.
إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم.
فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا.
ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال فَتَبَيَّنُوا تأكيدا لقوله فَتَبَيَّنُوا المذكور قبله .
.
.
وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل في القتل.
أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال- تعالى-

المصدر : تفسير : ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل