شرح حديث فأحرق عليهم بيوتهم

شرح حديث فأحرق عليهم بيوتهم

عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدكم أنه يجد عرقا سمينا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء». متفق عليه و اللفظ للبخاري

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» أخرجه مسلم

تخريج صحة الحديث:

إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (٦٥٧)، ومسلم (٦٥١)، وأبو داود (٥٤٨) من طريق سليمان بن مهران الأعمش، به.وهو في "مسند أحمد" (٩٤٨٦)، و"صحيح ابن حبان" (٢٥٩٧). وأخرجه البخاري (٦٤٤) و (٢٤٢٠)، ومسلم (٦٥١)، وأبو داود (٥٤٩)، والترمذي (٢١٧)، والنسائي ٢/ ١٠٧ و ابن ماجه من طرق عن أبي هريرة. وهو في "المسند" (٧٣٢٨)، و"صحيح ابن حبان" (٢٠٩٦).

شرح الحديث:

قال الحافظ في "الفتح" 2/ 127 بعد كلام مطول على الحديث: والذي يظهر لي أن الحديث ورد فى المنافقين، لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر ... " ولقوله: "لو يعلم أحدهم ... " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقن لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان: "لا يشهدون العشاء في الجميع" وقوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة" وأصرح من ذلك قوله فى رواية يؤيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود (549): "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة" فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية، لا كفر، لأن الكافر لا يصلي فى بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا فى بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي المحدث.

وهذا الحديث يدل على وجوب الجماعة عينا كما هو مذهب أحمد، وبالغ داود الظاهري: أنها شرط، وقال كثير من الحنفية والمالكية وهو نص الشافعي: إنها فرض كفاية. وقال الباقون: إنها سنة مؤكدة أفاد ذلك ابن رسلان.

وفي عون المعبود على شرح سنن أبي داود:

  • ‏ ‏( لَقَدْ هَمَمْت ) ‏ ‏: الْهَمّ الْعَزْم وَقِيلَ دُونه
  • ‏‏( فَتُقَام ) ‏ ‏: أَيْ الصَّلَاة ‏
  • ‏( ثُمَّ آمُر رَجُلًا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ) ‏ ‏: وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ "" ثُمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّن لَهَا ثُمَّ آمُر رَجُلًا فَيَؤُمّ النَّاس ""
  • ‏( ثُمَّ أَنْطَلِق ) ‏ ‏: أَيْ أَذْهَب ‏
  • ‏( حُزَم مِنْ حَطَب ) ‏ ‏: حَزَمْت الشَّيْء جَعَلْته حُزْمَة وَالْجَمْع حُزَم مِثْل غُرْفَة وَغُرَف.
  • ‏( فَأُحَرِّق ) ‏ ‏: بِالتَّشْدِيدِ , وَالْمُرَاد بِهِ التَّكْثِير , يُقَال حَرَّقَهُ إِذَا بَالَغَ فِي تَحْرِيقه
  • ‏( عَلَيْهِمْ بُيُوتهمْ ) ‏ ‏: يُشْعِر بِأَنَّ الْعُقُوبَة لَيْسَتْ قَاصِرَة عَلَى الْمَال , بَلْ الْمُرَاد تَحْرِيق الْمَقْصُودِينَ وَالْبُيُوت تَبَعًا لِلْقَاطِنِينَ بِهَا.

قَالَ النَّوَوِيّ رحمه الله: قَالَ بَعْضهمْ : فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَة كَانَتْ فِي أَوَّل الْأَمْر بِالْمَالِ , لِأَنَّ تَحْرِيق الْبُيُوت عُقُوبَة مَالِيَّة. وَقَالَ غَيْره : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى مَنْع الْعُقُوبَة بِالتَّحْرِيقِ فِي غَيْر الْمُتَخَلِّف عَنْ الصَّلَاة وَالْغَالّ مِنْ الْغَنِيمَة , وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِيهِمَا وَالْجُمْهُور عَلَى مَنْع تَحْرِيق مَتَاعهمَا. اِنْتَهَى.

اختلاف العلماء في حكم صلاة الجماعة

قال الشيخ عطية سالم:
هذا الحديث -حديث أبي هريرة - اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بوجوب الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها.
ثم اختلف القائلون بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو صلى منفردا بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطا في الصحة، بل هي واجبة بذاتها.
بمعنى أنه: لو صلى منفردا يكون قد ترك واجبا آخر وهو الجماعة، فتكون الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك واجب.
فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوبا عينيا ومنهم من يقول: هي واجبة وجوبا كفائيا ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة.
والذين قالوا: هي واجبة وجوبا عينيا انقسموا إلى قسمين: قسم قال: واجبة وجوبا عينيا وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة؛ لفقدانها شرطا من شروط الصلاة.
والقسم الثاني يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفردا صحت، ولكنه ترك واجبا فهو آثم بتركه.
والجمهور على أنها سنة.
والحديث لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لقد هممت ).
وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث، منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين الشيخين، وتلك المقدمة التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها دخل في تحقيق المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم )، أو ( إلى رجال لا يشهدون الصلاة )، أو ( إلى رجال يتخلفون عن الجماعة بلا عذر )، وبعض الروايات: ( لولا ما في البيوت من النساء والصبيان ).
فيقول بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين ( أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ).
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما في الظلام والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس } [النساء:142]، فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحدا، فما دام لا أحد يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته.
والأمر الآخر أنه إذا كان الوقت صيفا، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية برودة الجو بعد عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي الفجر يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر.
وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد يخلد إلى السكون، ومع طول الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك، ومن هنا كان الوعيد على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود والترك، ولذا جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم: ( من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ).
وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } [البقرة:238].
وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما طلبت من الكاتب أن يكتب لها مصحفا قالت: إذا وصلت إلى هذه الآية فآذني فآذنها فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر).
فهذه يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على أنها مفسرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في الصلاة الوسطى، منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي العشاء لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها وتر النهار ومنهم من يقول: هي العصر، كما جاء في الرواية.
ومنهم من يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.

معنى هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة

فمقدمة الحديث قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين الصبح والعشاء)، وهذا السياق وهذا الوعيد قالوا فيه: لقد توعد وهم، فقال: ( والذي نفسي بيده لقد هممت )، والهم -كما يقال-: العزم المؤكد، والهم قد يكون حديث النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة )، فهنا الهم العزم والرغبة، لكن هذا الهم بالحسنة أو بالسيئة والرجوع عنها ليس بالعزم القاطع، بخلاف ما جاء في الهم القاطع الذي لا يمنعه عنه إلا ما هو فوق قدرته.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) أي: عنده هم وعزم مؤكد.
وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } [يوسف:24] فقالوا: همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ ما أرادت إلا أن: { ألفيا سيدها لدى الباب } [يوسف:25]، ولحقته وشقت قميصه، وهمه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة، وليس عنينا أو لا إرب له، وإلا لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس الفطرية خطرت في باله، لكنه راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل الفكر النفسي معه إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فالهم همان: هم هو عزم قاطع، وهم هو خطرة على بال، كالواحد يكون في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين تنظر، والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعا، فهو يعلم بأن الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا يتناول ذلك الماء.
وعلى هذا فقوله: (لقد هممت)، من أي أنواع الهم؟ أهو خطرة البال أم العزم المصمم؟ إنه العزم المصمم؛ لأنه لم يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه خطة مرسومة، ولذا قال: (ينادى للصلاة) وقال: (آمر رجلا فيؤم الناس)، وقال: (أخالف برجال معي بحزم من حطب فأحرق )، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى موانع ذلك فقال: (لولا ما في البيوت من النساء )، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛ لأنهم لا جماعة عليهم.
فالهم مصمم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من فعله.

تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة


الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا.
ويقول الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق.
وهو مثل قوله: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وما أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: ( إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي ) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواما، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون.
ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن الباقين.
ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوما تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع.
فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي لا دليل له.
وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة.
فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها.
ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلا اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله.
فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضا لا مانع من جمع العقوبة المالية مع البدنية.
ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة.
وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه.
ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم: ( دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ).
فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه، بل ترك أمرهم إلى الله.
لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهرا، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام.
وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولا، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة موسع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة.
فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر.
ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال: ( هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب ).
قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل! قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول الشاعر: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخص له ابتداء عرفنا أنها ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قسم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: ( لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين ) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة)، فكما تقول: يرمم البنيان.
والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئا ضئيلا لخرج إليه.
فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئا، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق.
فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وجد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟ فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصا مثل عصاه.
فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجرا وتخويفا، كما يقال: (علق سوطك حيث يراه أهلك).
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد هذا.
ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )، وانتهى أمر التحريق.


حكم صلاة الجماعة عند المذاهب الأربعة

فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطا في صحة الصلاة، ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب.
والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة.
والرواية الثالثة: عن أحمد : أنها سنة، كقول الجمهور.
والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال بذلك داود الظاهري و طاوس ، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة.
ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم).
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذا في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي نبيكم).