فضائل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه

فضائل ابن مسعود رضي الله عنه

إن تلخيص حياة هذا الحبر في هذه الدقائق المعدودات أمر صعب عسير، فهيا لنغتنم الدقائق المعدودات لنعيش بعض الوقت مع هذا الحبر العالم، ومع هذا الفقيه الأكبر، مع عبد الله بن مسعود ، ولنستهل هذا اللقاء المبارك بأوسمة الشرف التي منحها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الكريم المبارك.
ففي الحديث الذي رواه مسلم أن عبد الله بن مسعود قال: لما نزل قول الله جل وعلا من سورة المائدة: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:93] فلما نزلت وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا عبد الله ! أنت منهم ) يشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بأنه من الذين اتقوا وآمنوا، واتقوا وآمنوا، واتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين .

ابن مسعود أقرب الصحابة اقتداءً برسول الله وأقربهم وسيلة إلى الله

وفي الحديث الذي رواه البخاري و الترمذي من حديث عبد الرحمن بن يزيد رحمه الله تعالى يقول: سألت حذيفة رضي الله عنه عن رجل قريب السمت والهدي والدل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: والله ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد -أي: من عبد الله بن مسعود - حتى يواريه جدار بيته -انظروا إلى الدقة في الشهادة! أي: حتى يواريه جدار بيته فعلمه عند الله جل وعلا-.
ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة يوم القيامة.
يا لها من شهادة! وفي رواية الترمذي بسند حسن صحيح: ولقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى.
ابن مسعود أقربهم إلى الله وسيلة، وأقربهم إلى الله زلفى، بالله عليكم أي الكلمات نستطيع أن نعبر بها عن هذه الشهادة؟! ألا فلندعها هكذا حتى لا نضيع من جلالها شيئاً، ابن مسعود أقرب الناس إلى الله وسيلة، وأقرب الناس إلى الله زلفى يوم القيامة، بل ولقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: ( خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به صلى الله عليه وسلم و أبي بن كعب و معاذ بن جبل ، و سالم مولى أبي حذيفة ).
ولذا كان ابن مسعود يعلم هذه النعمة الكبيرة، وهذا الشرف العظيم، فيقول -كما في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم -: (والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه).

سماع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من ابن مسعود

وفي رواية في الصحيح أيضاً أنه رضي الله عنه قال: (لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم).
ولطالما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يذهب إلى ابن مسعود ويحب أن يستمع القرآن منه، فلقد ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: ( اقرأ علي يا ابن مسعود ) أتدرون ماذا قال التلميذ المهذب المؤدب؟! نظر إلى أستاذه ومعلمه وقال: ( أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟!! ) انظروا إلى هذه الكرامة! الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه، وهاهو ابن مسعود يجلس؛ ليقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وليستمع إليه النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
( اقرأ علي يا ابن مسعود ، فيقول: أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟! فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ فإني أحب أن أستمع إليه من غيري )، ويستهل ابن مسعود المبارك القراءة المباركة فيفتتح سورة النساء، ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ ( حتى بلغ إلى قول الله جل وعلا: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك يا ابن مسعود ! حسبك يا ابن مسعود ! يقول عبد الله : فالتفت إلى رسول الله فإذا عيناه تذرفان ) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
والحديث رواه البخاري و مسلم .

تأمين النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء ابن مسعود

بل لقد مر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على ابن أم عبد أي: على عبد الله بن مسعود ، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات الكريمة صاحباه: أبو بكر و عمر ، مر النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه على عبد الله بن مسعود ، وكان عبد الله قائماً يصلي لله جل وعلا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليستمع إلى قراءته، فلما انتهى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد )، انظروا إلى هذه الشهادة أيها الأخيار! ( ثم جلس ابن مسعود يدعو الله جل وعلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه، سل تعطه ) فكان مما سأله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في جنان الخلد.
قال عمر : فقلت في نفسي: والله لأغدون إلى عبد الله ولأبشرنه بتأمين رسول الله على دعائه.
يقول عمر : فذهبت إليه في الصباح، فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقني بالبشرى، فقلت له: يا أبا بكر ! والله إنك لسباق في الخير دائماً ) .
والحديث رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الإمام الذهبي .

بعض خصائص ابن مسعود

بل وتعجبون أشد العجب بهذه البشارة التي وردت في صحيح مسلم ، اسمعوا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود : ( يا عبد الله ! أذنك عليَّ أن ترفع الحجاب، وأن تسمع زوادي -أي: سري- حتى أنهاك عن ذلك ) الله أكبر! حتى ظن الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن عبد الله من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم و الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من كثرة دخولهم على رسول الله ولزومهم له).
يظن أبو موسى الأشعري أن ابن مسعود من أهل البيت النبوي، لماذا؟ لأنه يرى ابن مسعود يدخل حينما يستأذن الناس، ويخرج حينما يتمنى الناس أن يدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثقل ساقي ابن مسعود في الميزان

بل وخذوا هذه البشارة، وخذوا هذا الوسام الذي سأختم به أوسمة الشرف التي علقها النبي صلى الله عليه وسلم بيديه على صدر ابن مسعود رضي الله عنه؛ ليلقى الله جل وعلا بها في الآخرة، خذوا هذه البشارة، ووالله لو لم يخرج ابن مسعود من الدنيا إلا بها لكفته شرفاً وفخراً في الدنيا، وعزاً ورفعة ومكانة عند الله في الآخرة، ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في حق ابن مسعود ؟ والحديث رواه أحمد و البزار و الطبراني وهو حديث حسن.
( صعد ابن مسعود رضي الله عنه يوماً شجرة الأراك يجتني سواكاً، فهبت ريح، فجعلت الريح تكفؤه ) كان ضعيف البنية قوي الإيمان، كان فقيراً غني اليقين، ألم أقل في أول اللقاء: إنه الضعيف القوي الفقير الغني؟! وسوف نرى الآن الثالثة: إنه المؤمن القوي النقي الأبي، جعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( مما تضحكون؟ قالوا: نضحك من دقة ساقيه يا رسول الله! أتدرون ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم؟! قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد )الله أكبر!

من سلسلة مصابيح الهدى للشيخ محمد حسان