تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 149 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 149

 {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِىۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَـٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـٰفِلِينَ}
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} .
قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} إنه إذا بلغ أشده، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، وليس ذلك مراداً بالآية، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله، إن أونس منه الرشد، كما بينه تعالى بقوله: {فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} .
والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ، بدليل قوله تعلى: {إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} .
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة، كالإنبات، واحتلام الغلام، وحيض الجارية، وحملها، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة. ومن العلماء من قال: إذا بلغت قامته خمسة أشبار، فقد بلغ، ويروى هذا القول عن علي، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب: ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار
والأشد، قال بعض العلماء: هو واحد لا جمع له كالآنك، وهو الرصاص، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس، قاله القرطبي وغيره، وعن سيبويه أنه جمع شدة، ومعناه حسن، لأن العرب تقول: بلغ الغلام شدته إلا إن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود، كما قاله الجوهري، وأما أنعم، فليس جمع نعمة، وإنما هو جمع نعم من قولهم بؤس ونعم، قاله القرطبي، وقال أيضاً: وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع، يقال. أتيته شد النهار، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة: عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم

وقال الآخر: تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: ومنه قول كعب بن زهير: شد النهار ذراعا عطيل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل

فقوله: «شد النهار»، يعني وقت ارتفاعه، وهو بدل من اليوم في قوله قبله: يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول

فشد النهار بدل من قوله يوماً، بدل بعض من كل، كما أن قوله: «يوماً» بدل من إذا في قوله قبل ذلك: كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل

لأن الزمن المعبر عنه «بإذا» هو بعينه اليوم المذكور في قوله «يوماً يظل» البيت، ونظيره في القرآن، قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰيَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ} ، وقوله: {فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُيَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ} ، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل، وقوله: «ذراعا عطيل» خبر كأن في قوله: «كأن أوب ذراعيها» البيت.
وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: ستون سنة، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا، وإن جازت لغة، كما قال سحيم بن وثيل: أخو خمسين مجتمع أشدى ونجذني مداورة الشؤون

* * *
تنبيه
قال مالك وأصحابه: إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح، هو حفظ المال وحسن النظر في التصرف فيه، وإن كان فاسقاً شريباً، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله، قال ابن عاصم المالكي في تحفته:
وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا
وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا

وقال الشافعي ومن وافقه: لا يكون الفاسق العاصي رشيداً، لأنه لاسفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ} .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك، لا حرج عليه لعدم قصده، ولم يذكر هنا عقاباً لمن تعمد ذلك، ولكن توعده بالويل في موضع آخر، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة، وذلك في قوله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين َٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَوَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَأَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَلِيَوْمٍ عَظِيمٍيَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} .
وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله، وأحسن عاقبة، وهو قوله تعالى: {وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل} .
قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه، وهو قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلاٌّقْرَبِينَ} .
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِىۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَـٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـٰفِلِينَ}
قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُو} .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله، وصرح في موضع آخر أن عبد الله سيسأل عنه يوم القيامة، بقوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُول} أي عنه.
{أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَـٰبُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَـٰتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ}
قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَـٰبُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة. لئلا يقولوا: لو أنزل علينا كتاب لعلمنا به، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى، الذين لم يعملوا بكتبهم، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك، وأنه لما أنزل عليهم ما زادهم نزوله إلا نفوراً وبعداً عن الحق، لاستكبارهم ومكرهم السيىء، وهو قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلاٍّمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراًٱسْتِكْبَاراً فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} .
قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَ} .
قال بعض العلماء: إن هذا الفعل أعني صدف في هذه الآية لازم، ومعناه أعرض عنها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة.
وقال السدي: صدف في هذه الآية متعدية للمفعول، والمفعول محذوف، والمعنى أنه صد غيره عن اتباع آيات الله، والقرآن يدل لقول السدي، لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله صرح به في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ} إذا لا إعراض أعظم من التكذيب، فدل ذلك على أن المراد بقوله: {وَصَدَفَ عَنْهَ} أنه صد غيره عنها فصار جامعاً بين الضلال والإضلال.
وعلى القول الأول فمعنى صدف مستغنى عنه بقوله «كَذَّبَ»، ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن، وهو قول السدي.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
وقوله: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَـٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ} .
وقد يوجه قول ابن عباس وقتادة ومجاهد بأن المراد بتكذيبه، وإعراضه أنه لم يؤمن بها قلبه، ولم تعمل بها جوارحه، ونظيره قوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰوَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ} ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه، وترك العمل بجوارحه، قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن أشار إلى هذا: ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله أعلم اهـ.
وإطلاق صدف بمعنى أعرض كثير في كلام العرب، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث: عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل

وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى، ومنه أيضاً قول ابن الرقاع: إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقي صدف

أي معرضات.