تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 152 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 152  {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ * قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَـٰأادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ * فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ * قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَـٰبَنِىۤ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِى سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}.
قال بعض العلماء، معناه: ما منعك أن تسجد، و «لا» صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى: في سورة «ص» {قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (صۤ: 57) الآية. وقد أوضحنا زيادة لفظة «لا» وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد. في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس ـ لعنه الله ـ خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن. فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها. من ذلك أنها نار السموم. كما في قوله: {وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ} ، ومن ذلك أنها خصوص المارج. كما في قوله: {وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، والمارج أخص من مطلق النار لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.
وسميت نار السموم: لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» ورواه عنها أيضاً الإمام أحمد.
قوله تعالى: {قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ}.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً ذليلا، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله: {فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ}، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: {ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورً} ، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك. وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ} . وبين في مواضع أخر كثيراً من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر ـ أعاذنا الله والمسلمين منه ـ فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـٰتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} . ومن ذلك أَنَه من أسباب الثواء في النار كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} ، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوۤاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} ، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ} ، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر. كما في قوله: {وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُـمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ} إلى غير ذلك من نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.
وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاٌّرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم} ، وقوله: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاٌّخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد»، وقد قال الشاعر: تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى صفحات الجو وهو وضيع

وقال أبو الطيب المتنبي: ولو لم يعل إلا ذو محل تعالى الجيش وانحط القتام
قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُون َقَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ}.
لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في «الحجر» و «ص» مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم.
لقوله: في سورة «الحجر» و «ص» {فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِين َإِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ} فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ}. هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بين آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة «سبأ» أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ} . كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: {قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}.
بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: أخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً. والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُول لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاٌّمْوَٰلِ وَٱلاٌّوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورً} ، وقوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَوَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.