تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 376 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 376


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلاٌّوَّلِينَ * قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ * قَالَ رَبِّىۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلاٌّوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلاٌّعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَـٰطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ * فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاٌّقْرَبِينَ * وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـٰذِبُونَ * وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
{ ٱلْجِبِلَّةَ}: الخلق، ومنه قوله تعالىٰ: {مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِير}، وقد استدلّ بآية «يۤس»، المذكورة على آية «الشعراء» هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير، ومن ذلك قول الشاعر: والموت أعظم حادث مما يمرّ على الجبلة
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ }. أكَّد جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرءان العظيم تنزيل ربّ العالمين، وأنه نزل به الروح الأمين الذي هو جبريل على قلب نبيّنا صلى اللَّه عليهما وسلم ليكون من المنذرين به، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين، وما ذكره جلَّ وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع. أمّا كون هذا القرءان تنزيل رب العالمين، فقد أوضحه جلّ وعلا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالىٰ: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـٰبٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، وقوله تعالىٰ: {طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلاْرْضَ * وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى}، وقوله تعالىٰ: {تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ}، وقوله: {حـم * تَنزِيلٌ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ كِتَـٰبٌ فُصّلَتْ ءايَـٰتُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّ}، وقوله تعالىٰ: {يس * وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله: {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ}، بيّنه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}، وقوله: {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ}، أي: نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به، جاء مبيّنًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {المص * كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ}، أي: أنزل إليك لتنذر به، وقوله تعالىٰ: {تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ}. وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ}، ذكره أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله: {لّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}، وقوله تعالىٰ: {كِتَـٰبٌ فُصّلَتْ ءايَـٰتُهُ * قُرْءاناً عَرَبِيّ}.
وقد بيَّنا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}، وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرءان على قلبه صلى الله عليه وسلم بالآيات القرءانية في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}. {وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلاٌّعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ }. قد قدَّمنا هذه الآية الكريمة، مع ما يوضحها من الآيات في «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {لّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ}.
واعلم أن كل صوت غير عربيّ تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة: فلم أرَ مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ }. قوله: {سَلَكْنَاهُ}، أي: أدخلناه، كما قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانيّة والشواهد العربية في سورة «هود»، في الكلام على قوله تعالىٰ:{قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ}، والضمير في {سَلَكْنَاهُ}، قيل: للقرءان، وهو الأظهر. وقيل: للتكذيب والكفر، المذكور في قوله: {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، وهؤلاء الكفار الذين ذكر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم اللَّه أنهم أشقياء؛ كما يدلّ لذلك قوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ * كَلِمَتُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ}، وقد أوضحنا شدّة تعنّت هؤلاء، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة «الفرقان»، وفي سورة «بني إسرٰئيل» وغيرهما. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} نعت لمصدر محذوف، أي: كذلك السلك، أي: الإدخال، {سَلَكْنَاهُ}، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين، وإيضاحه على أنه القرءان: أن اللَّه أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم، ودخلت معانيه في قلوبهم، ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لأن كلمة العذاب حقّت عليهم، وعلى أن الضمير في {سَلَكْنَاهُ} للكفر والتكذيب، فقوله عنهم: {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، يدلّ على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم، أي: كذلك السلك سكناه، الخ. {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }. لفظة: {هَلُ} هنا يراد بها التمنّي، والآية تدلّ على أنهم تمنّوا التأخير والإنظار، أي: الإمهال، وقد دلّت آيات أُخر على طلبهم ذلك صريحًا، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا؛ كقوله تعالىٰ: {وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا}، وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه؛ كقوله تعالىٰ: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات. {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الرعد»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ}، وذكرنا طرفًا منه في سورة «يونس»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ * ءآلنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}. {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ }. قد قدَّمنا إيضاحه في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ}. {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }. قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول}. {ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ }. قد قدّمنا الآيات الدالّة عليه؛ كقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيم}،إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {ذِكْرِى}، أعربه بعضهم مرفوعًا، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وأعربه بعضهم منصوبًا، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه:
منها أنه ما ناب عن المطلق، من قوله: {مُنذِرُونَ}، لأن أنذر وذكر متقاربان.
ومنها أنه مفعول من أجله، أي: منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة.
ومنها أنها حال من الضمير في {مُنذِرُونَ}، أي: ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة. {إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ * وَحَفِظْنَـٰهَ}. {فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ }. قد أوضحنا في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُول}، بالدليل القرءاني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاطب بمثل هذا الخطاب، والمراد التشريع لأُمّته مع بعض الشواهد العربيّة، وقوله هنا: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ} الآية، جاء معناه في آيات كثيرة؛ كقوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُوراً}، وقوله تعالىٰ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاٌّقْرَبِينَ }. هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما دلّت على ذلك الآيات القرءانية؛ كقوله تعالىٰ: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيرا}، وقوله تعالىٰ: {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، وقوله تعالىٰ: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّا}، والآيات بمثل ذلك كثيرة. {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «المائدة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ}، وفي «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وقد وعدنا في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنا}، بأنا نوضح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة «الشعراء»، في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسمّاة: «منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز».
فقد قلنا فيها، ما نصّه: والجواب عن قوله تعالىٰ: {وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلاّ}، أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يدّ الإنسان وعضده وإبطه. قال تعالىٰ: {وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ}، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي، الذي هو ضدّ الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما؛ كما قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}،وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر
وأنت الشهير بخفض الجنا ح فلا تكُ في رفعه أجدلا

وأما إضافة الجناح إلى الذلّ، فلا تستلزم المجاز كما يظنّه كثير؛ لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك: حاتم الجود.
فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:
لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني بريشة من جناح الذل صببت لك شيئًا من ماء الملام، فلا حجّة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذلّ جناحًا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتّصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرءان الإضافة في قوله: {مَطَرَ ٱلسَّوْء}، و {عَذَابَ ٱلْهُونِ}، أي: مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذلّ مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كني به عن ذلّ الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالىٰ: {نَاصِيَةٍ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}، وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالىٰ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}، وأمثال ذلك كثيرة في القرءان، وفي كلام العرب. وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدلّ عليه كلام السلف من المفسّرين.
وقال ابن القيّم في «الصواعق»: إن معنى إضافة الجناح إلى الذلّ أن للذلّ جناحًا معنويًّا يناسبه لا جناح ريش، واللَّه تعالىٰ أعلم، انتهى. وفيه إيضاح معنى خفض الجناح.
والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كما أوضحنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. وقال الزمخشري في «الكشاف»، في تفسير قوله تعالىٰ: {لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}، فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتّبعون للرسول، فما قوله: {لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}.
قلت: فيه وجهان، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، لمشارفتهم ذلك. وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتّبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق، لا يخفض لهما الجناح.
والمعنى: المؤمنين من عشريتك وغيرهم، أي: أنذر قومك فإن اتّبعوك وأطاعوك، فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتّبعوك فتبرّأ منهم ومن أعمالهم من الشرك باللَّه وغيره، انتهى منه.
والأظهر عندي في قوله: {لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرءان العظيم؛ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم}، ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم. وقوله تعالىٰ: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، وقوله تعالىٰ: {حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ }.
قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، وتكون في الآية قرينة، تدلّ على عدم صحته، وذكرنا أمثلة متعدّدة لذلك في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله هنا: {وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ}، قال فيه بعض أهل العلم المعنى: وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين، أي: المؤمنين باللَّه كآدم ونوح، وإبرٰهيم، وإسمٰعيل.
واستدلّ بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبرٰهيم من آبائه، بقوله تعالىٰ عن إبرٰهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهاِ}، وممّن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي، وفي الآية قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالىٰ قبله مقترنًا به: {ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعًا، وأوّل الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى {وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ}، أي: المُصلِّين، على أظهر الأقوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وقال بعضهم: {ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، أي: إلى الصلاة وحدك، و {وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ}، أي: المصلّين إذا صلُّيت بالناس.
وقوله هنا: {ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، يدلّ على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك قوله تعالىٰ: {فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ * فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.
وقوله: {وَتَوَكَّلْ} قرأه عامّة السبع غير نافع وابن عامر: {وَتَوَكَّلْ} بالواو، وقرأه نافع وابن عامر: {فَتَوَكَّلْ} بالفاء، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء، وقوله هنا: {وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ}، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الفاتحة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وبسطنا إيضاحه بالآيات القرءانية مع بيان معنى التوكّل في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَءاتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرٰءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلا}. {وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ }. { ٱلْشُّعَرَاءُ}: جمع شاعر، كجاهل وجهلاء، وعالم وعلماء. و {يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ}: جمع غاو وهو الضالّ، وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ} يدلّ على أن اتّباع الشعراء من اتِّباع الشيطان، بدليل قوله تعالىٰ: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}، وقرأ هذا الحرف نافع وحده: {يَتَّبِعُهُمُ} بسكون التاء المثناة، وفتح الباء الموحدة، وقرأه الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} بتشديد المثناة، وكسر الموحدة، ومعناهما واحد.
وما ذكره تعالىٰ في هذه الآية الكريمة، في قوله: {وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ}، يدلّ على تكذيب الكفار في دعواهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر؛ لأن الذين يتبعهم الغاوون، لا يمكن أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم.
ويوضح هذا المعنى ماجاء من الآيات، مبيّنًا أنهم ادّعوا عليه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر وتكذيب اللَّه لهم في ذلك، أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالىٰ في قوله عنهم: {بَلْ قَالُواْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَيَقُولُونَ لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ}، وقوله تعالىٰ: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ}. وأمّا تكذيب اللَّه لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالىٰ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ}، وقوله تعالىٰ: {وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِٱلْحَقّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ}؛ لأن قوله تعالىٰ: {بَلْ جَاء بِٱلْحَقّ}، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون.
مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: «لأن يمتلىء جوف رجل قيحًا يريه خير له من أن يمتلىء شعرًا»، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقوله في الحديث: «يريه» بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء، مضارع ورى القيح جوفه، يريه، وريا إذا أكله وأفسده، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد.
واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
ومن الأدلّة القرءانيّة على ذلك أنه تعالىٰ لمّا ذمّ الشعراء، بقوله: {يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في قوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا}.
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرّح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرءان، وطاعة اللَّه تعالىٰ، وعلى الشعر القبيح المتضمّن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيّات، ونحو ذلك.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدًا، هل يقام عليه الحدّ؟ على قولين:
أحدهما: أنه يقام عليه لأنه أقرّ به، والإقرار تثبت به الحدود.
والثاني: أنه لا يحد بإقراره في الشعر؛ لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد، واقع لا نزاع فيه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقرّ في شعره بما يستوجب الحدّ، لا يقام عليه الحدّ؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا صرّح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحدّ، ولكن الأظهر أنه إن أقرّ بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحدّ به، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصّة عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة.
قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد ذكر بن محمد بن إسحٰق، ومحمد بن سعد في «الطبقات»، والزبير بن بكّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعلّ أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، قال: إي واللَّه إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: بسم اللَّه الرحمٰن الرحيم، {حـم * تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِى ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ}، أما بعد: فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم

وايم اللَّه إنه ليسوءني، وقد عزلتك. فلمّا قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: واللَّه يا أمير المؤمنينٰ ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شىء طفح على لساني، فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن واللَّه لا تعمل لي عملاً أبدًا، وقد قلت ما قلت، فلم يذكر أنه حدّه على الشراب، وقد ضمّنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا.
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمٰن بن عبد الملك، لما سمع قول الفرزدق: فبتن بجانبي مصرعات وبتّ أفض أغلاق الختام

قال له: قد وجب عليك الحدّ، فقال الفرزدق: يا أمير المؤمنينٰ قد درأ اللَّه عني الحدّ، بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، فلم يحدّه مع إقراره بموجب الحدّ. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ }. هذا الذي ذكره هنا عن «الشعراء» من أنهم يقولون ما لا يفعلون، بيّن في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جلَّ وعلا، وذلك في قوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}، والمقت في لغة العرب: البغض الشديد، فقول الإنسان ما لا يفعل، كما ذكر عن الشعر يبغضه اللَّه، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَيُبَشّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}، مع شواهده العربية. {وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِير}. أثنى اللَّه تعالىٰ في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم اللَّه كثيرًا، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر اللَّه، أمر به في آيات أُخر، وبيَّن جزاءه؛ قال تعالىٰ: {وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال تعالىٰ: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا}، وقال تعالىٰ: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}، وقال تعالىٰ: {وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}. {وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له؛ كقوله تعالىٰ: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ}، في آخر سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ}. {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}. المنقلب هنا المرجع والمصير، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي، وقد تقرّر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي، واسم مكانه، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول.
والمعنى: {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُو} أيّ مرجع يرجعون، وأيّ مصير يصيرون، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون، أي: يعلمون العاقبة السيّئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ}، وقوله تعالىٰ: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا}، وقوله تعالىٰ: {وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّـٰرُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
وقوله: {أَىَّ مُنقَلَبٍ}، ما ناب عن المطلق من قوله: {يَنقَلِبُونَ}، وليس مفعولاً به، لقوله: {وَسَيَعْلَمْ}، قال القرطبي: و {أَيُّ} منصوب {يَنقَلِبُونَ}، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبًا بــ { سَيَعْلَمُ}، لأن أيًا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض، انتهى منه. والعلم عند اللَّه تعالىٰ.

تم بحمد الله تفسير سورة الشعراء