تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 410 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 410


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْىِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَـٰتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِأايَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ * كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}
{ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}. قد بيَّن تعالىٰ الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه، وبيَّن الضعف الأخير في آيات أُخر؛ قال في الأَوّل: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ}، وقال: {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، وقال تعالىٰ: {أَوَ لَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ}، وقال: {فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ}، وقال: {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الضعف الثاني: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ}، وقال: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه؛ كقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، وإطلاقه نفس الضعف، على ما خلق الإنسان منه، قد أوضحنا وجهه في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. وقرأ عاصم وحمزة: {مّن ضَعْفٍ} في المواضع الثلاثة المخفوضين والمنصوب بفتح الضاد في جميعها، وقرأ الباقون بالضمّ.
واختار حفص القراءة بالضم وفاقًا للجمهور؛ للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من طريق عطية العوفي ــ أنه أعني ابن عمر ــ قرأ عليه صلى الله عليه وسلم: {مّن ضَعْفٍ} بفتح الضاد، فردّ عليه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقرأها بضم الضاد، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسّنه، ورواه غيرهما، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «يونس»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ ٱلنَّهَارِ}، وفي غير ذلك. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة، وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أُوتوا العلم والإيمان، ويدخل فيهم الملائكة، والرسل، والأنبياء، والصالحون: واللَّه لقد لبثتم في كتاب اللَّه إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في سورة «يۤس» على أصحّ التفسيرين، وذلك في قوله تعالىٰ: {قَالُواْ يأَبَانَا يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَ}.
والتحقيق أن هذا قول الكفار عن البعث، والآية تدلّ دلالة لا لبس فيها، على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قاله غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: {هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ}، أي: هذا البعث بعد الموت، الذي وعدكم الرحمٰن على ألسنة رسله، وصدق المرسلون في ذلك، كما شاهدتموه عيانًا، فقوله في «يۤس»: {هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ}، قول الذين أوتوا العلم والإيمان، على التحقيق، وقد اختاره ابن جرير، وهو مطابق لمعنى قوله: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ}.
والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمٰن وأنها من كلام المؤمنين، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا}، وقوله: {فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ} ، أي: فيما كتبه وقدره وقضاه. وقال بعض العلماء: أن قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ}، من قول الكفار، ويدلّ له قوله في «الصافّات»: {وَقَالُواْ يأَيُّهَا * يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدّينِ * هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ}. {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. قد قدّمنا ما فيه من اللغات، والشواهد العربية في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِأايَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}، وفي سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلاْرْضِ يَنْبُوعً}، وفي سورة «يونس»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية (01/69)، وفي غير ذلك. {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}. قد قدمنا في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا}، أن اللَّه تعالىٰ قد بيَّن في بعض الآيات القرءانية أنه يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بخطاب لا يريد به نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما يريد به التشريع.
وبيَّنا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالىٰ مخاطبًا له صلى الله عليه وسلم: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ}، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}، بزمن طويل، فلا وجه البتّة لاشتراط بلوغهما، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده، بل المراد تشريع برّ الوالدين لأُمّته، بخطابه صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن قول من يقول: إن الخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}، لمن يصح خطابه من المكلّفين، وأنه كقول طرفة بن العبد:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً
خلاف الصواب.
والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات، على قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ}، {ذٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ}، ومعلوم أن قوله: {ذٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ} خطاب له صلى الله عليه وسلم، كما ترى. وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره.
وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالىٰ: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُور}، وقوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ}، يراد به التشريع لأُمّته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك الكفر الذي نهى عنه.
فـائــدة
روى من غير وجه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر، فقال: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ}، فأجابه عليّ رضي اللَّه عنه وهو في الصّلاة: {فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}.

تم بحمد الله تفسير سورة الروم