تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 435 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 435


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِىۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلاٍّمُورُ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ * ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءَ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَٱللَّهُ ٱلَّذِىۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَـٰئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَٰجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ}
قوله تعالىٰ: {للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِىۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ}. الألف واللام في قوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ}، للاستغراق، أي: جميع المحامد ثابت للَّه جلَّ وعلا، وقد أثنى جلَّ وعلا على نفسه بهذا الحمد العظيم معلّمًا خلقه في كتابه أن يثبوا عليه بذلك، مقترنًا بكونه {فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلا}، وذلك يدلّ على أن خلقه للسمٰوات والأرض، وما ذكر معه يدلّ على عظمته، وكمال قدرته، واستحقاقه للحمد لذاته لعظمته وجلاله وكمال قدرته، مع ما في خلق السمٰوات والأرض من النعم على بني ءادم فهو بخلقهما مستحق للحمد لذاته، ولإنعامه على الخلق بهما، وكون خلقهما جامعًا بين استحقاق الحمدين المذكورين، جاءت آيات من كتاب اللَّه تدلّ عليه. أمّا كون ذلك يستوجب حمد اللَّه لعظمته وكماله، واستحقاقه لكل ثناء جميل، فقد جاء في آيات من كتاب اللَّه تعالىٰ؛ كقوله تعالىٰ في أوّل سورة «الأنعام»: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ}، وقوله في أوّل سورة «سبأ»: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ}، وقوله تعالىٰ في أوّل سورة «الفاتحة»: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}. وقد قدّمنا أن قوله: {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، بيّنه قوله تعالىٰ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * قَالَ رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ}، وكقوله تعالىٰ: {وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، وقوله: {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
وأمّا استحقاقه للحمد على خلقه بخلق السمٰوات والأرض، لما في ذلك من إنعامه على بني ءادم، فقد جاء في آيات من كتاب اللَّه، فقد بيَّن تعالىٰ أنه أنعم على خلقه، بأن سخّر لهم ما في السمٰوات وما في الأرض في آيات من كتابه؛ كقوله تعالىٰ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ}، وقوله تعالىٰ: {وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلاْمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لمعنى تسخير ما في السمٰوات لأهل الأرض في سورة «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلا}، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجّ»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، أي: خالق السمٰوات والأرض، ومبدعهما على غير مثال سابق.
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية الكريمة: قال سفيٰن الثوري، عن إبرٰهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، قال: كنت لا أدري ما فاطر السمٰوات والأرض، حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي: بدأتها. {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِا}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ما يفتحه للناس من رحمته وإنعامه عليهم بجميع أنواع النعم، لا يقدر أحد كائنًا ما كان أن يمسكه عنهم، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائنًا من كان أن يرسله إليهم، وهذا معلوم بالضرورة من الدين، والرحمة المذكورة في الآية عامة في كل ما يرحم اللَّه به خلقه من الإنعام الدنيوي والأخروي، كفتحه لهم رحمة المطر؛ كما قال تعالىٰ: {فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءاثَـٰرِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ٱلاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
وقوله تعالىٰ: {وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ * بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ}، وقوله تعالىٰ: {وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}، ومن رحمته إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَا كُنْتَ * تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ}، كما تقدّم إيضاحه في سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا ءاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا}.
وما تضمّنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعا}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ}، و {مَ} في قوله تعالىٰ: {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ}، وقوله: {وَمَا يُمْسِكْ} شرطية، وفتح الشىء التمكين منه وإزالة الحواجز دونه، والإمساك بخلاف ذلك. {هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ}. الاستفهام في قوله: {هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ}، إنكاري فهو مضمن معنى النفي.
والمعنى: لا خالق إلا اللَّه وحده، والخالق هو المستحق للعبادة وحده.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة «الرعد»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ}. وفي سورة «الفرقان»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلاْرْضِ}، يدلّ على أنه تعالىٰ هو الرازق وحده، وأن الخلق في غاية الاضطرار إليه تعالىٰ.
والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}، وقوله: {فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ}.
وقد قدّمنا كثيرًا من الآيات الدالَّة على ذلك في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}. {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلاٍّمُورُ }. ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من تسليته صلى الله عليه وسلم، بأن ما لاقاه من قومه من التكذيب لاقاه الرسل الكرام من قومهم قبله صلوات اللَّه وسلامه عليهم جميعًا، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُناَ}، وقوله تعالىٰ: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة. {ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }.
قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك؛ كقوله تعالىٰ في «الكهف»: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}. {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجّ»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}. {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ}. وفي «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ}، وغير ذلك من المواضع. {وَٱللَّهُ ٱلَّذِىۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ }. ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من أن إحياءه تعالىٰ الأرض بعد موتها المشاهد في دار الدنيا برهان قاطع على قدرته على البعث، قد تقدّم إيضاحه بالآيات القرءانية في مواضع كثيرة في سورة «البقرة»، و «النحل»، و «الأنبياء» وغير ذلك، وقد تقدّمت الإحالة عليه مرارًا. {مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعا}. بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن من كان يريد العزة فإنها جميعها للَّه وحده، فليطلبها منه وليتسبب لنيلها بطاعته جلَّ وعلا، فإن من أطاعه أعطاه العزّة في الدنياوالآخرة. أمّا الذين يعبدون الأصنام لينالوا العزّة بعبادتها، والذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزّة، فإنهم في ضلال وعمى عن الحق؛ لأنهم يطلبون العزّة من محل الذلّ.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في آيات من كتاب اللَّه تعالىٰ؛ كقوله تعالىٰ: {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيع}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}، وقوله تعالىٰ: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلاْعَزُّ مِنْهَا ٱلاْذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}، وقوله تعالىٰ: {سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}، والعزة: الغلبة والقوة. ومنه قول الخنساء: كأن لم يكونوا حمى يختشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا

أي: من غلب استلب، ومنه قوله تعالىٰ: {وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ}، أي: غلبني وقوي عليّ في الخصومة.
وقول من قال من أهل العلم: إن معنى الآية: {مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ}، أي: يريد أن يعلم لمن العزَّة أصوب منه ما ذكرنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. قد تقدّم بعض الكلام عليه في سورة «النحل»، مع إعراب السيئات.
وقد قدّمنا في مواضع أُخر أن من مكرهم السيئات كفرهم باللَّه وأمرهم أتباعهم به؛ كما قال تعالىٰ:{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادا}، وكقوله تعالىٰ: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُواْ لاَ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ}، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ}. قد تقدّم إيضاحه بالآيات القرءانيّة في أوّل سورة «الحجّ»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مّن تُرَابٍ}. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الرعد»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}، مع بيان الأحكام المتعلقة بالآية. {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ}. قد قدّمنا بعض الكلام عليه في آخر سورة «الأحزاب»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُول}. وفي سورة «الفرقان»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِير}. {وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. تقدّم إيضاحه في سورة «الفرقان»، في الكلام على قوله تعالىٰ:{وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}. قد تقدّم الكلام عليه مع بسط أحكام فقهية تتعلق بذلك في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}.
وتقدم في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {يَكْسِبُونَ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ}.
أن قوله في آية «فاطر» هذه: {وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}، دليل قرءاني واضح على بطلان دعوى من ادّعى من العلماء أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلاّ من البحر الملح خاصّة.
{وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا}، وفي غيره من المواضع. {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ }. بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غني عن خلقه، وأن خلقه مفتقر إليه، أي: فهو يأمرهم وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم، ولا ليدفع الضرّ بمعصيتهم، بل النفع في ذلك كلّه لهم، وهو جلَّ وعلا الغني لذاته الغني المطلق.
وما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة مع كونه معلومًا من الدين بالضرورة، جاء في مواضع كثيرة من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}،وقوله تعالىٰ: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وبذلك تعلم عظم افتراء{ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}، وقد هدّدهم اللَّه على ذلك، بقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}.