تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 443 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 443


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلاٌّجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـٰكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَٰجُهُمْ فِى ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ * وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ * هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـٰهُمْ عَلَىٰ مَكَــٰنَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَـٰعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ * وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعـٰماً فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ * وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ *{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَـٰرِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلاٌّخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَـيْسَ ٱلَذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
{وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }
. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا}. {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }. ذمَّ جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار بإعراضهم عن آيات اللَّه.
وهذا المعنى الذي تضمّنته هذه الآية، جاء في آيات أُخر من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ في أوّل سورة «الأنعام»:
{وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ}، وقوله تعالىٰ في آخر «يوسف»: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}، وقوله تعالىٰ: {ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً يَسْتَسْخِرُونَ}، وأصل الإعراض مشتقّ من العرض بالضم، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشىء يوليه بجانب عنقه صادًّا عنه. {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلاٌّجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة النفخة الأخيرة، والصُّور قرن من نور ينفخ فيه الملك نفخة البعث، وهي النفخة الأخيرة، وإذا نفخها قام جميع أهل القبور من قبورهم، أحياء إلى الحساب والجزاء.
وقوله:
{فَإِذَا هُم مّنَ ٱلاْجْدَاثِ}، جمع جدث بفتحتين، وهو القبر، وقوله: {يَنسِلُونَ}، أي: يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر؛ كما قال تعالىٰ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ}، وقال تعالىٰ: {يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعا}، كقوله تعالىٰ: {يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ}، وقوله تعالىٰ: {مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ}، أي: مسرعين مادّي أعناقهم على أشهر التفسيرين، ومن إطلاق نسل بمعنى أسرع، قوله تعالىٰ: {حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}،وقول لبيد: عسلان الذئب أمسى قاربًا برد الليل عليه فنسل

وما تضمّنته هذه الآية الكريمة، من أن أهل القبور يقومون أحياء عند النفخة الثانية، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب اللَّه تعالىٰ؛ كقوله تعالىٰ:
{وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}، وقوله تعالىٰ:{إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً فَإِذَا هُمْ * لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية؛ كقوله تعالىٰ: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ * ٱلْحَقّ ذٰلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ}، أي: الخروج من القبور. وقوله تعالىٰ: {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وٰحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِٱلسَّاهِرَةِ}، والزجرة: هي النفخة الثانية. والساهرة: وجه الأرض والفلاة الواسعة، ومنه قول أبي كبير الهذلي:
يرتدن ساهرة كأن جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم

وقول الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجلّلا لأقطارها قد حببتها متلثّما

وكقوله تعالىٰ:
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وٰحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ}وقوله تعالىٰ: {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ ٱلاْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}، وهذه الدعوة بالنفخة الثانية. وقوله تعالىٰ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
{قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ }
. قد قدّمنا الكلام عليه في سورة «الروم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ}. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً}، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية، وفي سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}. {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ }. قوله: {جِبِلاًّ كَثِيرا}، أي: خلقًا كثيرًا؛ كقوله تعالىٰ: {وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلاْوَّلِينَ}، وما تضمّنته هذه الآية الكريمة، من كون الشيطان أضلّ خلقًا كثيرًا من بني ءادم جاء مذكورًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَـٰمَعْشَرَ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ}، أي: قد استكثرتم أيها الشياطين، من إضلال الإنس، وقد قال إبليس: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلا}، وقد بيَّن تعالىٰ أن هذا الظن الذي ظنّه بهم من أنه يضلهم جميعًا إلا القليل صدّقه عليهم؛ وذلك في قوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}،كما تقدّم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم: {جِبِل} بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي: {جِبِل}، بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وقرأه أبو عمرو وابن عامر: {جِبِل}، بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام، وجميع القراءات بمعنى واحد، أي: خلقًا كثيرًا. {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من شهادة بعض جوارح الكفّار عليهم يوم القيامة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ في سورة «النور»: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقوله تعالىٰ في «فصلت»: {حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ * شَىْء}. وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «النساء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيث}.
وبيَّنا هناك أن آية «يۤس» هذه توضح الجمع بين الآيات؛ كقوله تعالىٰ عنهم: {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيث} مع قوله عنهم: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ونحو ذلك من الآيات. {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }. قوله تعالىٰ: {نُنَكّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ}، أي: نقلبه فيه، فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلوّ من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشدّه، ويستكمل قوّته ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم. وأصل معنى التنكيس: جعل أعلا الشىء أسفله.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ:
{ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}، وقوله تعالىٰ  {لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ}، على أحد التفسيرين. وقوله تعالىٰ في «الحجّ»: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ}، وقوله تعالىٰ في «النحل»: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئً}، وقوله تعالىٰ في سورة «المؤمن»: {ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخ}.
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «النحل»، وقرأ هذا الحرف عاصم، وحمزة: {نُنَكّـسْهُ} بضمّ النون الأولى، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة، من التنكيس، وقرأه الباقون بفتح النون الأولى، وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد. وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه الباقون: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ}، بياء الغيبة. {وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الشعراء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ}، وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك.
{لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النمل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاء}. وفي سورة «فاطر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا يَسْتَوِى ٱلاْحْيَاء وَلاَ ٱلاْمْوَاتُ}. {أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ }. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ} قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة» و «النحل»، مع بيان براهين البعث. {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وبيَّنا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنّة في إطلاق اسم الشىء على الموجود دون المعدوم، وقد قدّمنا القراءتين وتوجيههما في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ}، هناك.

تم بحمد الله تفسيرسورة يس