تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 454 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 454


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلاٌّوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـٰبُ لأيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلاٌّحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ * ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلاٌّيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِشْرَاقِ * وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَٰحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِىۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَأابٍ * يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاٌّرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ}
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلاٌّوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـٰبُ لأيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلاٌّحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}. وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ} وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ}. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ}.
وقد قدمنا أن القط، النصيب من الشيء، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به.
وأن أصل القط كتاب الجائزة لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان، وجمعه قطوط، ومنه قول الأعشى: ولا الملك النعمان حين لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق

وقوله: ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط. قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ} إلى قوله {أَوَّابٌ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ}. قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ}. قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية، من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه، في الكلام على قوله تعالى: {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ}.
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء. قوله تعالى: {يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاٌّرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ}. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاٌّرْضِ}، قد بينا الحكم الذي دل عليه، في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً}. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} قد أمر نبيه داود فيه، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى، علة للضلال عن سبيل الله، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية.
وقد تقرر في الأصول، في مسلك الإيماء والتنبيه، أن الفاء من حروف التعليل كقوله: سهى فسجد، وسرق فقطعت يده، أو لعلة السهو في الأول، ولعلة السرقة في الثاني، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى، فأضله ربنا عن سبيل الله، في قوله تعالى بعده يليه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ}.
ومعلوم أن نبي الله داود، لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى، فيضله عن سبيل الله، ولكن الله تعالى، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم، ليشرع لأممهم.
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به داود، ونهاه أيضاً عن مثل ذلك، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ}. وقوله تعالى: {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ} وكقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ} وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُور} وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ}.
وقد قدمنا الكلام على هذا، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا}.
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب، والمراد بذلك الخطاب غيره يقيناً قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَ}، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَ} ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان.
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ}: إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب. إياك أعني واسمعي يا جارة، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله:
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره

وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة، وقول بعض أهل العلم إن الخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَ}، هو الخطاب بصيغة المفرد، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه. كقول طرفة بن العبد في معلقته:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود

أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك، وعلى هذا فلا دليل في الآية، غير صحيح، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه. فالاستدلال بالآية، استدلال قرآني صحيح، والقرينة القرآنية المذكورة، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم، التي أولها {وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ}. ما هو صريح، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا عموم كل من يصح منه الخطاب، وذلك في قوله تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورً}. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِل}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ} وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون. في الكلام على قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثا}. قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ}. الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلاً هو ظن الذين كفروا بنا، والنفي في قوله ما خلقنا، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما: ليس خلقه للسماوات والأرض، بل هو ثابت، وإنما المنفي بها، هو كونه باطلاً، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة، لأن النفي منصب عليها هي خاصة، والكلام لا يصح دونها. والكلام في هذا معلوم في محله، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلاً نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى.
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}.
ثم نزه نفسه، عن كونه خلقهم عبثاً، بقوله تعالى: {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ} أي تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثاً.
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك، ففي قوله تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاّيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلاٌّلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيهاً لك، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلاً. فقولهم سبحانك تنزيه له، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ}.
وقوله تعالى في هذه الآية: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ} يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا، فله النار.
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أراده وجعله من الخاسرين، وجعل النار مثواه. وذلك في قوله تعالى: {وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَـٰسِرِين َفَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}.وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}، وبينا هناك أن الفعل نوعان، أحدهما الفعل الحقيقي، والثاني الفعل الصناعي، أما الفعل الحقيقي، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر.
وأما الفعل الصناعي، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع.
ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين، عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن

وعند جماعات من البلاغيين، أنه ينحل عن مصدر، وزمن ونسبة، وهو الأقرب، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر، والزمن كامنان في الفعل الصناعي فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي.
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل، قوله هنا {ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا}، فإن المصدر الذي هو الخلق، كامن في الفعل الصناعي، الذي هو الفعل الماضي في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذَٰلِكَ} أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا.
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي، قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ} أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد.
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى: {ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} فقوله: هو، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، كما تقدم إيضاحه.