تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 478 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 478


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 َفقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مِّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاّنزَلَ مَلَـٰئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِأايَـٰتِنَا يَجْحَدُونَ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِىۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِىۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِأايـٰتِنَا يَجْحَدُون * وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ أَضَلَّـٰنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلاٌّسْفَلِينَ}
قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِىۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ}. الصرصر: وزنه بالميزان الصرفي فعفل، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان.
أحدهما: أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب، التي يسمع لهبوبها صوت شديد، وعلى هذا فالصرصر من الصرة، التي هي الصيحة المزعجة.
ومنه قوله تعالى {فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ} أي في صيحة، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم، أي صوتهما.
الوجه الثاني: أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق، ومنه على أصح التفسيرين قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}. أي فيها برد شديد محرق، ومنه قول حاتم الطائي: أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صرُّ
علَّ يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ

فقوله: ريح صر، أي باردة شديدة البرد.
والأظهر أن كلا القولين صحيح، وأن الريح المذكورة. جامعة بين الأمرين، فهي عاصفة شديدة الهبوب، باردة شديد البرد.
وما ذكره جل وعلا من إهلاكه عاداً بهذه الريح الصرصر، في تلك الأيام النحسات، أي المشؤومات النكدات، لأن النحس ضد السعد، وهو الشؤم جاء موضحاً في آيات من كتاب الله.
وقد بين تعالى في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها، كقوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} وقوله تعالى: {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَمَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ}: وقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} وقوله تعالى: {هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}.
وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مِّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ}.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير، وأبو عمر، نَحْسات، بسكون الحاء، وعليه فالنحس، وصف أو مصدر، نزل منزلة الوصف.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، نَحِسات بكسر الحاء ووجهه ظاهر.
قد قدمنا أن معنى النحسات: المشؤومات النكدات.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله عز وجل: {فِى يَوْمِ نَحْسٍ}. قال: النحس، البلاء والشدة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول: سواء عليه أي يوم أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى، لأن الشؤم بلاء وشدة. ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك، وهو معلوم.
ويزعم بعض أهل العلم، أنها من آخر شوال، وأن أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء، ولا دليل على شيء من ذلك.
وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر، هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر، أو يوم الأربعاء مطلقاً، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيراً من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر، حتى إنهم لا يقدمون على السفر، والتزويج ونحو ذلك فيه، ظانين أنه يوم نحس وشؤم، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن، لا أصل له ولا معول عليه، ولا يلتفت إليه، من عنده علم، لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة، بعذاب الدنيا، فصار ذلك الشؤم مستمراً عليهم استمراراً لا انقطاع له.
أما غير عاد فليس مؤاخذاً بذنب عاد، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها، من ظن استمرار نحس ذلك اليوم، لنبين أنها لا معول عليها.
قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} «قال: يوم الأربعاء».
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل أقض باليمين مع الشاهد. وقال: يوم الأربعاء يوم نحس مستمر».
وأخرج ابن مردويه عن علي قال: «نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد والحجامة ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوم نحس يوم الأربعاء».
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأيام، وسئل عن يوم الأربعاء قال: يوم نحس، قالوا كيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق فيه الله فرعون وقومه، وأهلك عاداً وثمود».
وأخرج وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر».
فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه لأن أغلبها ضعيف وما صح معناه منها، فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم.
فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشأة وسببه الكفر والمعاصي.
أما من كان متقياً لله مطيعاً له، في يوم الأربعاء المذكور فلا نحس، ولا شؤم فيه عليه. فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد، والبلاء والشقاء على الحقيقة، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ}. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَهَدَيْنَـٰهُمْ} المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان، والإرشاد، لا هدى التوفيق والاصطفاء.
والدليل على ذلك قوله تعالى بعده {فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ}، لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ} أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروه عليه، وتعوضوه منه.
وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَـٰنِ} فقوله في آية التوبة هذه: {إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَـٰنِ} موافق في المعنى لقوله هنا: فاستحبوا العمى على الهدى.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلاٌّخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ}.
فلفظة استحب في القرآن كثيراً ما تتعدى بعلى، لأنها في معنى اختار وآثر.
وقد قدمنا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلاٌّعْمَىٰ}. أن العمى الكفر، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر. وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام، الذي هو البيان، والدلالة، والإرشاد، لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع، على الهدى الخاص الذي هو التوفيق، والاصطفاء، كقوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ}.
فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ} أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام {فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ} أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم.
ومن إطلاقه على معناه العام قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ} بدليل قوله بعده {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُور}، لأنه لو كان هدى توفيق لما قال: {وَإِمَّا كَفُورا}.
ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ}. وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى}. وقوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ}.
وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني: وهو أنه تعالى: أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ونفاه عنه في آية أخرى وهي قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ}.
فيعلم مما ذكرنا: أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم، هو الهدى العام الذي هو البيان، والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين لمحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
والهدى المنفي عنه في آية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق، لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}. وقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وكذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىۤ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}، لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية. وخصوص المتقين في قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام، والهدى الخاص بالمتقين، هو الهدى الخاص كما لا يخفى.
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ}. الفاء في قوله: فأخذتهم سببية، أي فاستحبوا العمى على الهدى، وبسبب ذلك، أخذتهم صاعقة العذاب الهون.
واعلم أن الله جل وعلا عبر عن الهلاك الذي به ثمود، بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله: {فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ} وقوله: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مِّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
وعبر عنه أيضاً كالصاعقة في سورة الذاريات في قوله تعالى: {وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِين ٍفَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ}.
وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله تعالى في سورة هود، في إهلاكه ثمود: {وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} وقوله تعالى في الحجر:
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} وقوله تعالى في القمر: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ}. وقوله تعالى في العنكبوت {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ} يعني به ثمودَا المذكورين في قوله قبله: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـٰكِنِهِمْ}.
وعبر عنه بالرجفة، في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَـٰحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ}.
وعبر عنه بالتدمير في سورة النمل، في قوله تعالى: {فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وعبر عنه بالطاغية في الحاقة في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ}.
وعبر عنه بالدمدمة في الشمس في قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَ}.
وعبر عنه بالعذاب، في سورة الشعراء، في قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَـٰدِمِينَ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً}.
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.
والصاعقة تطلق أيضاً على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معاً، ولشدة عظم الصيحة وهو لها من فوقهم، رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميراً واضح. وقيل لها طاغية، لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك.
والطغيان في لغة العرب: مجاوزة الحد.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ}. أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.
واعلم أن التحقيق، أن المراد بالطاغية في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ} أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}.
خلافاً لمن زعم أن الطاغية، مصدر كالعاقبة، والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي بكفرهم، وتكذيبهم نبيهم، كقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَ}.
وخلافاً لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم، الذي انبعث فعقر الناقة، وأنهم أهلكوا بسبب فعله وهو عقره الناقة، وكل هذا خلاف التحقيق.
والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، والسياق يدل عليه واختاره غير واحد.
وأما قوله تعالى: {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} فإنه لا يخالف ما ذكرنا، لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه، بسبب ذنبهم.
قال الزمخشري في معنى دمدم: وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم.
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة الشعراء فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ} من النعت بالمصدر،
لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

وهو موجه بأحد أمرين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف. أي العذاب ذي الهون.
والثاني: أنه على سبيل المبالغة، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه، صار كأنه نفس الهوان، كما هو معروف في محله.
وقوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} كالتوكيد في المعنى لقوله {فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ} لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم، فالفاء في قوله: فأخذتهم سببية، والباء في قوله بما كانوا سببية، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أهلك ثمود بالصاعقة، ونجى من ذلك إهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء مبيناً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة هود {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـٰلِحاً وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِىُّ ٱلْعَزِيزُ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ}، وقوله تعالى في النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} إلى قوله تعالى في ثمود {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي وهم صالح ومن آمن معه. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}. قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع (يحشر) بضم الياء وفتح الشين مبنياً للمفعول (أعداء الله) بالرفع على أنه نائب الفاعل.
وقرأه نافع وحمزة، من السبعة (نحشر أعداء الله) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة، وضم الشين مبنياً للفاعل، (أعداء الله) بالنصب على أنه مفعول به، أي واذكر {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ} أي يجمعون إلى النار.
وما دلت عليه هذه الآية، من أن لله أعداء، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار. جاء مذكوراً في آيات أخر.
فبين في بعضها أن له أعداء وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين وأن جزاءهم النار كقوله تعالى {مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلٰـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ} وقوله تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وقوله تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ}. وقوله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ}. إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يرد أولهم إلى آخرهم،
ويلحق آخرهم بأولهم، حتى يجتمعوا جميعاً، ثم يدفعون في النار، وهو من قول العرب: وزعت الجيش، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع.
وأصل الوزع الكف، تقول العرب وزعه، يزعه وزعاً، فهو وازع له، إذا كفه عن الأمر، ومنه قول نابغة ذبيان: على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألماً أصح والشيب وازع

وقول الآخر: ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله

وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى يوزعون. أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر حتى يجتمعوا جميعاً.
وذلك يدل على أنهم يساقون سوقاً عنيفاً، يجمع به أولهم مع آخرهم.
وقد بين تعالى أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشاً في قوله تعالى: {وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْد}، ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار، لأنهم يساقون إلى النار زمراً زمراً كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَر}. قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يسۤ في الكلام على قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ}، وفي سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثا}.
وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثا} مع قوله {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. قوله تعالى: {وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَوَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَفَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}. قد قدمنا الكلام عليه في سورة صۤ في الكلام على قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ}. قوله تعالى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ}. قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. لعلماء التفسير في تفسير قوله: {وَقَيَّضْنَا} عبارات يرجع بعضها، في المعنى إلى بعض.
كقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} أي جئناهم بهم: وأتحناهم لهم.
وكقوله بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي هيأنا.
وقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي سلطنا.
وقول بعضهم: أي بعثنا ووكلنا.
وقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي سببنا.
وقول بعضهم: قدرنا ونحو ذلك من العبارات، فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ويزينون لهم الكفر والمعاصي وقدرهم عليهم.
والقرناء: جمع قرين وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.
وقوله {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة: {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، أنه تعالى قيض للكفار قرناء من الشياطين، يضلونهم عن الهدى، بينه في مواضع أخر من كتابه.
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم، وأنهم مع إضلالهم لهم، يظنون أنهم مهتدون، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم، وأنه يذمه ذلك اليوم كما قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون َحَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ}.
فترتيبه قوله: نقيض له شيطاناً، على قوله ومن يعش عن ذكر الرحمن، ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له، هو غفلته عن ذكر الرحمن.
ونظير ذلك قوله تعالى: {مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ} لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس بالفتح يخنس بالضم إذا تأخر.
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، ودل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} لأن الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم، قوله تعالى {أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا}، وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ}. وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى {تَؤُزُّهُمْ أَزّا}.
وبينا أيضاً هناك أن من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلإِنْسِ} أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا، وقوله: {وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}.
ومنها أيضاً قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ} إلى قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرا} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دل قوله في آية الزخرف: {فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ} على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت، وآية الزخرف وغيرهما، جديرين بالذم الشديد، وقد صرح تعالى بذلك في سورة النساء في قوله: {وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِين} لأن قوله: {فَسَآءَ قِرِين} بمعنى {فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ}، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله: واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا

واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال، أحسن الهدى، كما قال تعالى عنهم: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وقال تعالى: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}.
وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلاٌّخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاًٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
وقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ} من قولهم عشا بالفتح عن الشيء، يعشو بالضم إذا ضعف بصره عن إدراكه، لأن الكافر أعمى القلب.
فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين.
قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يسۤ في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ}. قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى {خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُوا}.