تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 503 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 503


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـٰفِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بَيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَأامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَـٰبُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىۤ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىۤ إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ فِىۤ أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ * وَٱلَّذِى قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِىۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَـٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}. جواب الشرط في هذه الآية محذوف.
وأظهر الأقوال في تقديره إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به، وجحدتموه فأنتم ضلال ظالمون. وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين بينه قوله تعالى في آخر فصلت: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ}، وقوله في آية الأحقاف هذه {فَأامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ}.
وقال أبو حيان في البحر: مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما.
والتقدير: أرأيتم حالكم، إن كان كذا ألستم ظالمين.
فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط محذوف أي فقد ظلمتم.
ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً.
وبعض العلماء يقول: إن {أَرَءَيْتُمْ} بمعنى أخبروني. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ}. التحقيق: إن شاء الله، أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل، على الذات نفسها، كقولهم: مثلك، لا يفعل هذا، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله.
وعلى هذا فالمعنى، وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن، وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له.
ولذا قال تعالى {فَأامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ}.
ومما يوضح هذا، تكرر إطلاق المثل في القرآن مراداً به الذات كقوله تعالى {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ}.
فقوله: كمن مثله في الظلمات، أي كمن هو نفسه في الظلمات، وقوله تعالى {فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَوا} أي فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.
ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود {فَإِنْ ءامَنُواْ بِمَا بِهِ ..} الآية.
القول بأن لفظة ما في الآية مصدرية، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا لا يخفى بعده.
والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية.
وقيل: إن الشاهد موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقيل غير ذلك. قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ}. أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة، أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أنهم كفار مكة، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين، وضعفاءهم كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم، أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير.
وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة.
وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال، والأولاد والجاه، في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، وتكذيب الله لهم في ذلك، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، وقوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِأايَـٰتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّ}. وقوله تعالى {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} مع قوله {وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ}. وقوله تعالى: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّىۤ إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَب}.
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله، من أن يصيبهم بخير، وإنما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغنى، والجاه والولد، من الكفار فقد دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى في الأنعام: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}.
فهمزة الإنكار في قوله: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير.
وقد رد الله عليهم بقوله {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ}. وقوله تعالى في الأعراف: {وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلاٌّعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَـٰهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَأ َهَـؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وقوله تعالى في صۤ {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلاٌّشْرَارِ أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَـٰرُ}.
فقد قال غير واحد: إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ويدل له قوله {أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّ} وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار، كما قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إلى قوله تعالى {فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}. وقوله تعالى {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ}. قوله تعالى: {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّ}. قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ}. قوله تعالى: {لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ}. وفي أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ}. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰنا}. قرأ هذا الحرف، نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {حَسَنً} بضم الحاء وسكون السين، وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي: إحساناً بهمزة مكسورة وإسكان الحاء وألف بعد السين.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰن} وقال أبو حيان في البحر:
قيل ضمن {وَوَصَّيْنَا} معنى ألزمنا فيتعدى لاثنين فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا.
وقيل: التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان فيكون مفعولاً له، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما فيكون الإحسان من الله تعالى.
وقيل: النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً ا هـ منه، وكلها له وجه. قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْها}. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر: {كَرْها} بفتح الكاف في الموضعين.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي، وابن ذكوان، عن ابن عامر: {كَرْها} بضم الكاف في الموضعين.
وهما لغتان كالضُّعف والضَّعف.
ومعنى حملته {كَرْها} أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة.
ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل، من المشقة والضعف، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها.
ومعنى وضعته كرهاً: أنها في حالة وضع الولد، تلاقي من ألم الطلق، وكربه مشقة شديدة، كما هو معلوم.
وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنها يعظم حقها بها، ويتحتم برها، والإحسان إليها كما لا يخفى.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل، ودلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في لقمان: {وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ} أي تهن به وهناً على وهن أي ضعفاً على ضعف، لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها، ازدادت ضعفاً على ضعف.
وقوله في آية الأحقاف هذه كرهاً في الموضعين مصدر منكر وهو حال أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره، وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير كما أشار له في الخلاصة بقوله: ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع

وقال بعضهم: كرهاً في الموضعين نعت لمصدر، أي حملته حملاً ذا كره، ووضعته وضعاً ذا كره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر}. هذه الآية الكريمة، ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل، لأن هذه الآية الكريمة، من سورة الأحقاف، صرحت بأن أمد الحمل والفصال معاً، ثلاثون شهراً.
وقوله تعالى في لقمان: {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ}. وقوله في البقرة {وَٱلْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} يبين أن أمد الفصال عامان وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل، وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة.
وقد أوضحنا الكلام عليها، في مباحث الحج، في سورة الحج، في مبحث أقوال أهل العلم، في حكم المبيت بمزدلفة، وأشرنا لهذا النوع، من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: {وَٱلَّذِى قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}. التحقيق إن شاء الله أن، {ٱلَّذِى} في قوله: {وَٱلَّذِى قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ} بمعنى الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبحث.
والدليل من القرآن على أن الذي، بمعنى الذين، وأن المراد به العموم، أن {ٱلَّذِى} في قوله: {وَٱلَّذِى قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ} مبتدأ خبره قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}.
والإخبار عن لفظة الذي في قوله {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ} القول بصيغة الجمع، صريح في أن المراد بالذي، العموم لا الإفراد. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ليس بصحيح، كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه.
وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله {وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة، رضي الله عنهم.
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع

فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن، هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف. وقوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَارا}. أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي {بِنُورِهِمْ} {وَتَرَكَهُمْ}، والواو في {لاَّ يُبْصِرُونَ} وقوله تعالى في البقرة أيضاً: {كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ} أي كالذين ينفقون بدليل قوله {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا}.
وقوله في الزمر: {وَٱلَّذِى جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ} وقوله في التوبة {وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواۤ} أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي: وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي

وقول الراجز: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
* إلا الذي قاموا بإطراف المسد *
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أُفٍّ لَّكُمَ} كلمة تضجر. وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهى الله في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ}. وقوله {أَتَعِدَانِنِى}: فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله: فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد

والنون الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية كما لا يخفى.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي: أتعدانني بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة.
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة.
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة، والهمزة للإنكار.
وقوله {أَنْ أُخْرَجَ} أي أبعث من قبري حياً بعد الموت.
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني يعني أتعداني الخروج من قبري حياً بعد الموت، والحال قد مضت القرون أي هلكت الأمم الأولى، ولم يحيي منهم أحد، ولم يرجع بعد أن مات.
وهما أي والداه يستغيثان الله أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث، ويقولان لولدهما: ويلك آمن. أي بالله وبالبعث بعد الموت.
والمراد بقولهما ويلك: حثة على الإيمان إن وعد الله حق، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث: {مَا هَـٰذَا} إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت، {إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ}.
والأساطير جمع أسطورة. وقيل جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.
وقوله {أُوْلَـٰئِكَ} ترجع الإشارة فيه، إلى العاقين المكذبين، بالبعث المذكورين في قوله: {وَٱلَّذِى قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَ}.
وقوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ} أي وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة يسۤ في الكلام على قوله تعالى {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِير}.