تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 538 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 538


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ ٱلاٌّوَّلُ وَٱلاٌّخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلْبَـٰطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلاٍّمُورُ * يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * هُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ * يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلاٌّمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِىَ مَوْلَـٰكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}. قد قدمنا مراراً أن التسبيح هو تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله في اللغة الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح. إذا صار بعيداً، ومنه قيل للفرس: سابح، لأنه إذا جرى يبعد بسرعة، ومن ذلك قول عنترة في معلقته:
إذ لا أزال على رحالة سابح نهر تعاوره الكماة مكلم

وقول عباس بن مرداس السلمي:
لا يغرسون فسيل النخل حولهم ولا تخاور في مشتاهم البقر
إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والفكر

وهذا الفعل الذي هو سبح قد يتعدى بنفسه بدون اللام كقوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا}، وقوله تعالى {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيل}، وقد يتعدى باللام كقوله هنا: {سَبَّحَ للَّهِ}، وعلى هذا فسبحه وسبح له لغتان كنصحه ونصح له. وشكره وشكر له، وذكر بعضهم في الآية وجهاً آخر، وهو أن المعنى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}، أي أحدث التسبيح لأجل الله أي ابتغاء وجهه تعالى. ذكره الزمخشري وأبو حيان، وقيل: {سَبَّحَ للَّهِ} أي صلى له.
وقد قدمنا أن التسبيح يطلق على الصلاة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أهل السماوات والأرض يسبحون لله، أي ينزهونه عما لا يليق، بينه الله جل وعلا في آيات أخر من كتابه كقوله تعالى في سورة الحشر {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} وقوله في الصف {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} وقوله في الجمعة {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ}، وقوله في التغابن {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}.
وزاد في سورة بني إسرائيل أن السموات السبع والأرض يسبحن لله مع ما فيهما من الخلق وأن تسبيح السموات ونحوها من الجمادات يعلمه الله ونحن لا نفقهه أي لا نفهمه، وذلك في قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلاٌّرْضُ وَمَن فِيهِن وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن تسبيح الجمادات المذكور فيها وفي قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} ونحو ذلك تسبيح حقيقي يعلمه الله ونحن لا نعلمه.
والآية الكريمة فيها الرد الصريح، على من زعم من أهل العلم، أن تسبيح الجمادات هو دلالة إيجادها على قدرة خالقها، لأن دلالة الكائنات على عظمة خالقها، يفهمها كل العقلاء، كما صرح الله تعالى بذلك في قوله {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِى تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ} ـ إلى قوله ـ {لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وأمثال ذلك من الآيات كثيرة في القرآن.
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلاٌّصَالِ} وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ}، وفي سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاٌّمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وفي غير ذلك من المواضع.
وقد عبر تعالى هنا في أول الحديد بصيغة الماضي في قوله: {سَبَّحَ للَّهِ}، وكذلك هو الحشر، والصف، وعبر في الجمعة والتغابن، وغيرهما بقوله: {يُسَبِّحُ} بصيغة المضارع.
قال بعض أهل العلم: إنما عبر بالماضي تارة وبالمضارع أخرى ليبين أن ذلك التسبيح لله، هو شأن أهل السموات وأهل الأرض، ودأبهم في الماضي والمستقبل ذكر معناه الزمخشري وأبو حيان.
وقوله: {وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} قد قدمنا معناه مراراً وذكرنا أن العزيز، هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، وأن العزة هي الغلبة، ومنه قوله: {وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} وقوله: وعزني في الخطاب: أي غلبني في الخصام، ومن أمثال العرب من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يختشى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا

والحكيم، هو من يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
وقوله: {مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}. غلب فيه غير العاقل وقد قدمنا في غير هذا الموضع، أنه تعالى تارة يغلب غير العاقل. في نحو ما في السموات وما في الأرض لكثرته، وتارة يغلب العاقل لأهميته، وقد جمع المثال للأمرين قوله تعالى في البقرة: {بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ}. فغلب غير العاقل في قوله: {مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ}، وغلب العاقل في قوله: {قَـٰنِتُونَ}. قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ}. قوله: {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ}. قد قدمنا إيضاحه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلاٌّرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} ـ إلى قوله تعالى ـ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ فِى يَوْمَيْنِ}، وفي سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
وقوله تعالى: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ} قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ}. وذكرنا طرفاً صالحاً من ذلك في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَ}. قد قدمنا إيضاحه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ}. قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}. قد قدمنا إيضاحه وبينا الآيات القرآنية الدالة على المعية العامة. والمعية الخاصة، مع بيان معنى المعية في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.
قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات، أي واضحات، وهي هذا القرآن العظيم، ليخرج الناس بهذا القرآن العظيم المعبر عنه بالآيات البينات من الظلمات، أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور التوحيد والهدى، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في قوله تعالى في الطلاق: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَـٰتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ} وآية الطلاق هذه بينت أن آية الحديد من العام المخصوص، وأنه لا يخرج بهذا القرآن العظيم من الظلمات إلى النور إلا من وفقهم الله للإيمان والعمل الصالح، فقوله في الحديد: {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ} أي بشرط الإيمان والعمل الصالح بدليل قوله: {لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ}،.
فالدعوة إلى الإيمان بالقرآن والخروج بنوره من ظلمات الكفر عامة، ولكن التوفيق إلى الخروج به من الظلمات إلى النور خاص بمن وفقهم الله، كما دلت عليه آيات الطلاق المذكورة والله جل وعلا يقول: {وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون القرآن نوراً يخرج الله به المؤمنين من الظلمات إلى النور، جاء موضحاً في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِين} وقوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {فَأامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِىۤ أَنزَلْنَا} وقوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا}. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وإِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلاٌّرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين يوم القيامة، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهو جمع يمين، وأنهم يقال لهم: {بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا، جاء موضحاً في آيات أخر، أما سعي نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فقد بينه تعالى في سورة التحريم، وزاد فيها بيان دعائهم الذين يدعون به في ذلك الوقت وذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}.
وأما تبشيرهم بالجنات، فقد جاء موضحاً في مواضع أخر، وبين الله فيها أن الملائكة تبشرهم وأن ربهم أيضاً يبشرهم كقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌخَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ـ إلى قوله ـ {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلاٌّمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ}. الضمير المرفوع في ينادونهم راجع إلى المنافقين والمنافقات، والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات، وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، قالوا لهم: انظروا نقتبس من نوركم، وقيل لهم جواباً لذلك: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم، أي في دار الدنيا، كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم؟ قالوا: بلى، أي كنتم معنا في دار الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم.
وقد قدمنا مراراً معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن، وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي، وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم: أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه، وقوله: {وَتَرَبَّصْتُمْ} التربص: الانتظار، والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم، كقوله تعالى: في منافقي الأعراب المذكورين في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلاٌّعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ}، {وَمِنَ ٱلاٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ} وقوله تعالى: {وَٱرْتَبْتُمْ} أي شككتم في دين الإسلام، وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.
وقوله تعالى: {وَغرَّتْكُمُ ٱلاٌّمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ} الأماني جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم، وأن المؤمنين حقاً سفهاء في صدقهم، أي في إيمانهم، كما بين تعالى ذلك في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَأَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ}، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ} ـ إلى قوله ـ {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرا}.
وقوله: {حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ}، الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ} هو الشيطان وعبر عنه بصيغة المبالغة، التي هي المفعول لكثرة غروره لبني آدم، كما قال تعالى {وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُور}.
وما ذكره جل وعلا وفي هذه الآية الكريمة، من أن الشيطان الكثير بالغرور غرهم بالله، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان: {إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ}، وقوله في أول فاطر {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين {إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ}.
وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور، دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق، وأنه غير واقع، والغرور بالضم الخديعة. قوله تعالى: {فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلاٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ} وفي غير ذلك من المواضع.