موقع الحمد لله القرآن الكريم القرآن mp3 المقالات مواقيت الصلاة
القرآن الكريم

تفسير ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله - الآية 2 من سورة المائدة

سورة المائدة الآية رقم 2 : شرح و تفسير الآية

تفسير و معنى الآية 2 من سورة المائدة عدة تفاسير, سورة المائدة : عدد الآيات 120 - الصفحة 106 - الجزء 6.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ﴾
[ المائدة: 2]


التفسير الميسر

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتعدَّوا حدود الله ومعالمه، ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكان ذلك في صدر الإسلام، ولا تستحِلُّوا حرمة الهَدْي، ولا ما قُلِّدَ منه؛ إذ كانوا يضعون القلائد، وهي ضفائر من صوف أو وَبَر في الرقاب علامةً على أن البهيمة هَدْيٌ وأن الرجل يريد الحج، ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام الذين يبتغون من فضل الله ما يصلح معايشهم ويرضي ربهم. وإذا حللتم من إحرامكم حلَّ لكم الصيد، ولا يحمِلَنَّكم بُغْض قوم من أجل أن منعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام -كما حدث عام "الحديبية"- على ترك العدل فيهم. وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما بينكم- على فِعْل الخير، وتقوى الله، ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله، واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب.

تفسير الجلالين

«يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله» جمع شعيرة أي معالم دينه بالصيد في الإحرام «ولا الشهر الحرام» بالقتال فيه «ولا الهدْي» ما أهدى إلى الحرم من النِّعم بالتعرض له «ولا القلائد» جمع قلادة وهي ما كان يقلد به من شجر الحرم ليأمن أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها «ولا» تحلوا «آمِّين» قاصدين «البيت الحرام» بأن تقاتلوهم «يبتغون فضلا» رزقا «من ربهم» بالتجارة «ورضوانا» منه بقصده بزعمهم الفاسد وهذا منسوخ بآية براءة «وإذا حللتم» من الإحرام «فاصطادوا» أمر إباحة «ولا يجرمنَّكم» يكسبنكم «شنَآن» بفتح النون وسكونها بغض (قوم) لأجل «أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا» عليهم بالقتل وغيره «وتعاونوا على البرِّ» بفعل ما أمرتم به «والتقوى» بترك ما نهيتم عنه «ولا تعاونوا» فيه حذف إحدى التاءين في الأصل «على الإثم» المعاصي «والعدوان» التعدي في حدود الله «واتقوا الله» خافوا عقابه بأن تطيعوه «إن الله شديد العقاب» لمن خالفه.

تفسير السعدي

يقول تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ أي: محرماته التي أمركم بتعظيمها، وعدم فعلها، والنهي يشمل النهي عن فعلها، والنهي عن اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي، عن فعل القبيح، وعن اعتقاده.
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام، ومحرمات الحرم.
ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم.
وقال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك، وقالوا: المطلق يحمل على المقيد.
وفصل بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها، فإنه يجوز.
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في "حنين" في "شوال".
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.
وقوله: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ أي: ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة، أو غيرهما، من نعم وغيرها، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها، ولا تقصروا به، أو تحملوه ما لا يطيق، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله، بل عظموه وعظموا من جاء به.
وَلَا الْقَلَائِدَ ْ هذا نوع خاص من أنواع الهدي، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله، وحملا للناس على الاقتداء، وتعليما لهم للسنة، وليعرف أنه هدي فيحترم، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ أي: قاصدين له يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ أي: من قصد هذا البيت الحرام، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به، والصلاة، وغيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، ولا تهينوه، بل أكرموه، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.
ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم.
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله، كما قال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ أي: إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد، وزال ذلك التحريم.
والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه.
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ أي: ليعن بعضكم بعضا على البر.
وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها وينشط لها، وبكل فعل كذلك.
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ويحرج.
وَالْعُدْوَانِ ْ وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ على من عصاه وتجرأ على محارمه، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.

تفسير البغوي

قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة وخلف خيله [ خارج ] المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إلى ما تدعو الناس؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، [ وأن محمدا رسول الله ] وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال : [ حسن ] إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [ بلسان ] شيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) .
قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك .
وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة ، وإشعارها : إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار هاهنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له .
وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار ، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة : لا يشعر الهدي .
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تحلوا شعائر الله : هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " ، وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته .
قوله : ( ولا الشهر الحرام ) أي : بالقتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهلية عاما ويحرمونه عاما ، ( ولا الهدي ) وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة ، ( ولا القلائد ) أي : الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها .
وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها .
قوله تعالى : ( ولا آمين البيت الحرام ) أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني : الكعبة فلا تتعرضوا لهم ، ( يبتغون ) يطلبون ( فضلا من ربهم ) يعني الرزق بالتجارة ، ( ورضوانا ) أي : على زعمهم؛ لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها ، وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة؛ لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة ، 5 ) وبقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( سورة التوبة ، 28 ) ، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد .
قوله عز وجل : ( وإذا حللتم ) من إحرامكم ، ( فاصطادوا ) أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد ، كقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( الجمعة ، 10 ) .
( ولا يجرمنكم ) قال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي : كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم ، ( شنآن قوم ) أي : بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئت ، قرأ ابن عامر وأبو بكر ( شنآن قوم ) بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها ، ( أن صدوكم عن المسجد الحرام ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : ولا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم .
وقال محمد بن جرير : لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، وكان الصد قد تقدم ، ( أن تعتدوا ) عليهم بالقتل وأخذ الأموال ، ( وتعاونوا ) أي : ليعين بعضكم بعضا ، ( على البر والتقوى ) قيل : البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل : البر : الإسلام ، والتقوى : السنة ، ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) قيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم : المعصية ، والعدوان : البدعة .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .
( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) .

تفسير الوسيط

وقوله: لا تُحِلُّوا من الإحلال الذي هو ضد التحريم.
ومعنى عدم إحلالهم لشعائر الله:تقرير حرمتها عملا واعتقادا، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله.
والشعائر: جمع شعيرة- على وزن فعيلة- وهي في الأصل ما جعلت شعارا على الشيء وعلامة عليه من الإشعار بمعنى الإعلام.
وكل شيء اشتهر فقد علم.
يقال: شعرت بكذا.
أى علمته.
والمراد بشعائر الله هنا: حدوده التي حدها، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده.
ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا: مناسك الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام.
ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى.
لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم.
والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده.
وقد رجحه ابن جرير بقوله: وأولى التأويلات بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قول من قال: لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه.
فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها، نهيا عاما من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء.
فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك».
وأضاف- سبحانه- الشعائر إليه.
تشريفا لها، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها.
وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها.
وقوله.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على شعائر الله.
والمراد به الجنس.
فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.
وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب.
وسمى الشهر حراما: باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام.
أى: لا تحلوا- أيها المؤمنون- القتال في الشهر الحرام، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال.
قال ابن كثير: يعنى بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال كما قال- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.
وقال- تعالى- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً وفي صحيح البخاري عن أبى بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهرا.
منها أربعة حرم» .
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت.
كما هو مذهب طائفة من السلف.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ.
وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم.
واحتجوا بقوله- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
والمراد أشهر التسيير الأربعة.
قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره.
والمقصود بالهدى في قوله وَلَا الْهَدْيَ ما يتقرب به الإنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم، وهو جمع هدية- بتسكين الدال-، أى: ولا تحلوا حرمة ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله- تعالى- بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله.
وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر، لأن فيه نفعا للناس، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه.
وقوله: وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.
وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه.
والمراد: ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء.
وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفا لها واعتناء بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر.
فكأنه قيل: لا تحلوا الهدى وخصوصا ذوات القلائد منه.
ويجوز أن يراد النهى عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهى عن التعرض لذواتها أى:لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله: وأما القلائد ففيها وجهان:أحدهما: أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن.
وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثاني: أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى.
على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها.
كما قال وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها».
وقوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً معطوف على قوله:لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ.
وقوله: آمِّينَ جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم.
يقال: أممت كذا أى: قصدته أى:ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثوابا.
ورضوانا لتعبدهم في بيته المحرم.
ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا؟قال بعضهم: المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة.
فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله- تعالى- مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم في قوله مِنْ رَبِّهِمْ للتشريف والتكريم وجملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من الضمير المستكن في قوله آمِّينَ.
وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف، ومسعاهم الجليل.
أى: قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثوابا من ربهم، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه- سبحانه- عنهم وعلى هذا القول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها، وتكون توجيها عاما من الله- تعالى- لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين، مهما حدث بينهم من نزاع أو محلاف.
وقال آخرون: المراد بهم المشركون.
واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدى من أن الآية نزلت في رجل من بنى ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله إلام تدعو؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فقال له: حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلى أسلّم وآتى بهم.
فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به.
ثم أقبل من العام القادم حاجا ومعه تجارة عظيمة.
فسأل المسلمون النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأذن لهم في التعرض له.
فأبى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نزلت الآية».
وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة.
وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم من الله، فوصفهم- سبحانه- على حسب ظنهم وزعمهم.
ثم نسخ ذلك بقوله- تعالى- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.
وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروى ولو في زعم المشركين.
والذي نراه أولى هو القول الأول، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه، ولأن قوله- تعالى-: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً هذا الوصف إنما يليق بالمسلّم دون الكافر، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه- سبحانه-.
قال الفخر الرازي: «أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين.
والدليل عليه أول الآية وآخرها.
أما أول الآية فهو: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار.
وأما آخر الآية فهو قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر».
وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال اى شيء من الشعائر التي حرم الله- تعالى- استحلالها، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماما بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافعشهوة الانتقام، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك.
ثم أتبع- سبحانه- هذا النهى ببيان جانب من مظاهر فضله.
حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
أى: وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد، وأبيح لكم أيضا كل ما كان مباحا لكم قبل الإحرام.
وإنما خص الصيد بالذكر، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا.
كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم.
والإشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا ما يكون إرضاء للشهوات.
والأمر في قوله: فَاصْطادُوا للإباحة، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد.
بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإحرام ومثله قوله- تعالى- فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أى: أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة.
ثم نهى- سبحانه- المؤمنين على أن يحملهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال- تعالى-:وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لزيادة تقرير مضمونه.
ومعنى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه، أو معناه:ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة.
وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، أطلق على الكسب، لأن الكاسب ينقطع لكسبه.
قال صاحب الكشاف: جرم يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين.
تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه.
ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين.
كقولهم: أكسبته ذنبا».
والشنآن: البغض الشديد.
يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديدا.
والمعنى: ولا يحملنكم- أيها المؤمنون- بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل، فإن الإسلام- وهو دين العدل والتسامح- لا يبرره ولا يقبله، ولكن الذي يقبله الإسلام هو احترام المسجد الحرام، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيمانا، ويفيء العاصي إلى رشده وصوابه.
قال ابن كثير: وقوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أى: ولا يحملنكم بغض قوم، «قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام- وذلك عام الحديبية-، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد.
.
فإن العدل واجب على كل أحد.
في كل أحد، وفي كل حال.
والعدل، به قامت السموات والأرض.
وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وعن زيد بن أسلّم، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحديبية، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة.
فقال الصحابة.
نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية».
وقوله: شَنَآنُ قَوْمٍ مصدر مضاف لمفعوله.
أى: لا يحملنكم بغضكم قوما.
وقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ- بفتح همزة أن- مفعول لأجله بتقدير اللام.
أى: لأن صدوكم.
فهو متعلق بالشنآن.
وقوله أَنْ تَعْتَدُوا في موضع نصب على أنه مفعول به.
أى: لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.
وقراءة أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة- هي قراءة الجمهور، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي، وهي واضحة ولا إشكال عليها.
قال الجمل: وفي قراءة لأبى عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله.
وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضى أن الأمر المشروط لم يقع.
مع أن الصد كان قد وقع.
لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست.
والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكانت مكة عام الفتح في أيدى المسلمين فكيف يصدون عنه؟ وأجيب بوجهين:أو لهما: لا نسلّم أن الصد كان قبل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه.
والثاني: أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى: إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية- فلا تعتدوا-.
قال بعضهم: وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأن النهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق.
وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل».
ثم أمر الله- تعالى- عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال:وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.
والبر معناه: التوسع في فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس.
والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه.
قال القرطبي: قال الماوردي: ندب الله- تعالى- إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله، وفي البر رضا الناس.
ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
والإثم- كما يقول الراغب- اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام، والآثم هو المتحمل للإثم.
ثم أطلق على كل ذنب ومعصية.
والعدوان: تجاوز الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها.
أى: وتعاونوا- أيها المؤمنون- على كل ما هو خير وبر وطاعة لله- تعالى-، ولا تتعاونوا على ارتكاب الآثام ولا على الاعتداء على حدوده، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدى إلى السعادة، أما التعاون على ما يغضب الله- تعالى- فيؤدى إلى الشقاء.
قال الآلوسى: والجملة عطف على قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من حيث المعنى، فكأنه قيل:لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه، وتعاونوا على العفو والإغضاء.
وقال بعضهم: هو استئناف، والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم.
هذا، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلّم عن أبى مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنى أبدع بي- أى: هلكت دابتي التي أركبها- فاحملني فقال: «ما عندي» .
فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وروى الإمام مسلّم- أيضا- عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه.
لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
وقوله- تعالى- وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإثم والعدوان.
أى: اتقوا الله- أيها الناس- واخشوه فيما أمركم ونهاكم، فإنه- سبحانه شديد العقاب لمن خالف أمره، وانحرف عن طريقه القويم.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم، وعن الإخلال بشيء من أحكامها، كما نهتهم عن أن يحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته- سبحانه- وحسن مثوبته، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم.
ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه- بكل من عصاه، وانحرف عن هداه.
ثم شرع- سبحانه- في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال- تعالى-:

المصدر : تفسير : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله