تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 359 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 359

359- تفسير الصفحة رقم359 من المصحف
الآية: 62 {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم}
قوله تعالى: "إنما المؤمنون" "إنما" في هذه الآية للحصر؛ المعنى: لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك. وبين تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فختم السورة بتأكيد الأمر في متابعته عليه السلام؛ ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن.
واختلف في الأمر الجامع ما هو؛ فقيل: المراد به ما للإمام من حاجة إلى تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب؛ قال الله تعالى: "وشاورهم في الأمر" [آل عمران: 159]. فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك. والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيئ. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الأمر الجامع. وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن. قال ابن سيرين: كانوا يستأذنون الإمام على المنبر؛ فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام. وظاهر الآية يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين. فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه؛ لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة. وروي أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن؛ فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة. ونحوه روى أشهب وابن عبدالحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق. وقال مقاتل: نزلت في عمر رضي الله عنه، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال: (انطلق فو الله ما أنت بمنافق) يريد بذلك أن يسمع المنافقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما استأذن عمر رضي الله عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له: (يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك).
قلت: والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال. واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب. قال: والذي يبين ذلك أمران: أحدهما: قوله في الآية الأخرى: "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" [النور: 63]. وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك يتبين إيمانه. الثاني: قوله: "لم يذهبوا حتى يستأذنوه" وأي إذن في الحدث والإمام يخطب، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقد قال: "فأذن لمن شئت منهم"؛ فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب.
قلت: القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى. "فأذن لمن شئت منهم" فكان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع. وقال قتادة: قوله: "فأذن لمن شئت منهم" منسوخة بقوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" [التوبة: 43]. "واستغفر لهم الله" أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا. "إن الله غفور رحيم".
الآية: 63 {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}
قوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" يريد: يصيح من بعيد: يا أبا القاسم! بل عظموه كما قال في الحجرات: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" [الحجرات:3] الآية. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه. ابن عباس: لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة. "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" التسلل والانسلال: الخروج واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك؛ فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة. "لواذا" مصدر في موضع الحال؛ أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة؛ حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه. وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ بعضهم ببعض. وقال الحسن: لواذا فرارا من الجهاد؛ ومنه قول حسان:
وقريش تجول منا لواذا لم تحافظ وخف منها الحلوم
وصحت واوها لتحركها في لاوذ. يقال: لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا. ولاذ يلوذ لوذا ولياذا؛ انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال؛ فإذا كان مصدر فاعل لم يعل؛ لأن فاعل لا يجوز أن يعل.
قوله تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب. ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: "أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره. والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس. عطاء: الزلازل والأهوال. جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم. وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول. والضمير في "أمره" قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قال قتادة. ومعنى "يخالفون عن أمره" أي يعرضون عن أمره. وقال أبو عبيدة والأخفش: "عن" في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة؛ والمعنى: يخالفون بعد أمره؛ كما قال:
... لم تنتطق عن تفضل
ومنه قوله: "ففسق عن أمر ربه" [الكهف: 50] أي بعد أمر ربه. و"أن" في موضع نصب "بيحذر". ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيدا، وهو في "أن" جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها.
الآية: 64 {ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "ألا إن لله ما في السماوات والأرض" خلقا وملكا. "قد يعلم ما أنتم عليه" فهو يجازيكم به. و"يعلم" هنا بمعنى علم. "ويوم يرجعون إليه" بعد ما كان في خطاب رجع في خبر وهذا يقال له: خطاب التلوين. "فينبئهم بما عملوا" أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها. "والله بكل شيء عليم" من أعمالهم وأحوالهم.
سورة الفرقان
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي: "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" [الفرقان: 68] إلى قوله: "وكان الله غفورا رحيما" [الفتح: 14]. وقال الضحاك: هي مدنية، وفيها آيات مكية؛ قوله: "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" الآيات. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم وجهالاتهم؛ فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله.
الآية: 1 - 3 {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشور}
قوله تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان" "تبارك" اختلف في معناه؛ فقال الفراء: هو في العربية و"تقدس" واحد، وهما للعظمة. وقال الزجاج: "تبارك" تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير. وقيل: "تبارك" تعالى. وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر. وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق؛ من برك الشيء إذا ثبت؛ ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت. فأما القول الأول فمخلط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء. قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك؛ لأنه ينتهي في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف. وقال الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقال آخر:
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى "المبارك" وذكرناه أيضا في كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عده؛ كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله.
و"الفرقان" القرآن. وقيل: إنه اسم لكل منزل؛ كما قال: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان" [الأنبياء: 48]. وفي تسميته فرقانا وجهان: أحدهما: لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. الثاني: لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام؛ حكاه النقاش. "على عبده" يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. "ليكون للعالمين نذيرا" اسم "يكون" فيها مضمر يعود على "عبده" وهو أولى لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون يعود على "الفرقان". وقرأ عبدالله بن الزبير: "على عباده". ويقال: أنذر إذا خوف؛ وقد تقدم في أول "البقرة". والنذير: المحذر من الهلاك. الجوهري: والنذير المنذر، والنذير الإنذار. والمراد بـ "العالمين" هنا الإنس والجن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق.
قوله تعالى: "الذي له ملك السماوات والأرض" عظم تعالى نفسه. "ولم يتخذ ولدا" نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله؛ يعني بنات الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله؛ جل الله تعالى. وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله؛ تعالى الله عن ذلك. "ولم يكن له شريك في الملك" كما قال عبدة الأوثان. "وخلق كل شيء" لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد. فالآية رد على هؤلاء. "فقدره تقديرا" أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر؛ فإياه فاعبدوه.
قوله تعالى: "واتخذوا من دونه آلهة" ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. "لا يخلقون شيئا" يعني الآلهة. "وهم يخلقون" لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. "ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا" أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف. وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات. "ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا. وقال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر