تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 406 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 406

406- تفسير الصفحة رقم406 من المصحف
الآية: 16 {وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون}
قوله تعالى: "وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا" تقدم الكلام فيه. "ولقاء الآخرة" أي بالبعث. "فأولئك في العذاب محضرون" أي مقيمون. وقيل: مجموعون. وقيل: معذبون. وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى: "إذا حضر أحدكم الموت" [البقرة: 180] أي نزل به؛ قاله ابن شجرة، والمعنى متقارب.
الآية: 17 - 18 {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون}
قوله تعالى: "فسبحان الله" الآية فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن؛ قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى "فسبحان الله حين تمسون" صلاة المغرب والعشاء "وحين تصبحون" صلاة الفجر "وعشيا" العصر "وحين تظهرون" الظهر؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر؛ قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في "وزلفا من الليل" [هود: 114] وفي ذكر أوقات العورة. وقال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" في الصلوات. وسمعت على بن سليمان يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح في الصلاة؛ وهو القول الثاني. والقول الثالث: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون؛ ذكره الماوردي. وذكر القول الأول، ولفظه فيه: فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون. وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان: أحدهما: لما تضمنها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني: مأخوذ من السبحة والسبحة الصلاة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون لهم سبحة يوم القيامة) أي صلاة.
قوله تعالى: "وله الحمد في السماوات والأرض" اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل: معنى "وله الحمد" أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة "الإسراء" بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي: وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
قرأ عكرمة "حينا تمسون وحينا تصبحون" والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه؛ فحذف "فيه" تخفيفا، والقول فيه كالقول في "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا" [البقرة: 48]. "وعشيا وحين تظهرون" قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة؛ تقول: أتيته عشية أمس وعشي أمس. وتصغير العشي: عشيان، على غير قياس مكبره؛ كأنهم صغروا عشيانا، والجمع عشيانات. وقيل أيضا في تصغيره: عشيشيان، والجمع عشيشيات. وتصغير العشية عشيشية، والجمع عشيشيات. والعشاء (بالكسر والمد) مثل العشي. والعشاء إن المغرب والعتمة. وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا:
غدونا غدوة سحرا بليل عشاء بعدما انتصف النهار
الماوردي: والفرق بين المساء والعشاء: أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس.
الآية: 19 {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون}
بين كمال قدرته؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس؛ وقد مضى في "آل عمران" بيان "تخرج الحي من الميت" [آل عمران: 27].
الآية: 20 - 26 {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون}
قوله تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من تراب" أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في "الأنعام". و"أن" في موضع رفع بالابتداء وكذا "أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا".
قوله تعالى: "ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثا؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: "خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" أزواجا" أي نساء تسكنون إليها. "من أنفسكم" أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة. "وجعل بينكم مودة ورحمة" قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل؛ قال الله تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من تراب" الآية. وقال: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" [الشعراء: 166] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج؛ فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها). وفي لفظ آخر: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح). "ومن آياته خلق السماوات والأرض" تقدم في "البقرة". وكانوا يعترفون بأن الله هو الخالق. "واختلاف ألسنتكم وألوانكم" اللسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربية والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلا بد من فاعل، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. "إن في ذلك لآيات للعالمين" أي للبر والفاجر. وقرأ حفص: "للعالِمين" بكسر اللام جمع عالم.
قوله تعالى: "ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله" قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. "إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون" يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. "ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا" قيل: المعنى أن يريكم، فحذف "أن" لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضُرُ الوغى وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي
وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. "خوفا" أي للمسافر. "وطمعا" للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك: "خوفا" من الصواعق، "وطمعا" في الغيث. يحيى بن سلام: "خوفا" من البرد أن يهلك الزرع، "وطمعا" في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر: "خوفا" أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر، "وطمعا" أن يكون ممطرا؛ وأنشد قول الشاعر:
لا يكن برقك برقا خلّبا إن خير البرق ما الغيث معه
وقال آخر:
فقد أرد المياه بغير زاد سوى عدي لها برق الغمام
والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة.
قوله تعالى: "وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" تقدم. "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" "أن" في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: "بأمره" بإذنه؛ والمعنى واحد. "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل:
دعوت كليبا باسمه فكأنما دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ "ثم" لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" [الزمر: 68]. "وإذا" الأولى في قوله تعالى: "إذا دعاكم" للشرط، والثانية في قوله تعالى: "إذا أنتم" للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في "تخرجون". واختلفوا في التي في "الأعراف" فقرأ أهل المدينة: "ومنها تخرجون" [الأعراف: 25] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في "الأعراف" بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ "تخرجون" بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. "وله من في السماوات والأرض" خلقا وملكا وعبدا. "كل له قانتون" روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة). قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: "قانتون" مقرون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس: "قانتون" مصلون. الربيع بن أنس: "كل له قانتون" أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" [المطففين: 6] أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير "قانتون" مخلصون.