تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 459 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 459

459- تفسير الصفحة رقم459 من المصحف
قوله تعالى: "خلقكم من نفس واحدة" يعني آدم عليه السلام "ثم جعل منها زوجها" يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في "الأعراف" وغيرها. "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج؛ ومثله قوله تعالى: "قد أنزلنا عليكم لباسا" [الأعراف: 26] الآية. وقيل: أنزل أنشأ وجعل. وقال سعيد بن جبير: خلق. وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض؛ كما قيل في قوله تعالى: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" [الحديد: 25] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. وقيل: "وأنزل لكم من الأنعام" أي أعطاكم. وقيل: جعل الخلق إنزالا؛ لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج. وقد تقدم هذا. "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق" قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: "خلقا من بعد خلق" خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم. وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. "في ظلمات ثلاث" ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح. وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. "ذلكم الله" أي الذي خلق هذه الأشياء "ربكم له الملك لا إله إلا هو". "فأنى تصرفون" أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة: "إمهاتكم" بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
الآية: 7 {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور}
قوله تعالى: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم" شرط وجوابه. "ولا يرضى لعباده الكفر" أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" [الإسراء: 65]. وكقوله: "عينا يشرب بها عباد الله" [الإنسان: 6] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده؛ فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: "وإن تشكروا يرضه لكم" أي يرضى الشكر لكم؛ لأن "تشكروا" يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في "البقرة" وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل "لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم: 7] وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و"يرضه" بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. "ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور" قد تقدم.
الآية: 8 - 9 {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}
قوله تعالى: "وإذا مس الإنسان" يعني الكافر "ضر" أي شدة من الفقر والبلاء "دعا ربه منيبا إليه" أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. "ثم إذا خوله نعمة منه" أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشيء أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول
قوله تعالى: "نسي ما كان يدعو إليه من قبل" أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه. فـ "ما" على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" [الكافرون: 3] والمعنى واحد. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. "وجعل لله أندادا" أي أوثانا وأصناما. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. "ليضل عن سبيله" أي ليقتدي به الجهال. "قل تمتع بكفرك قليلا" أي قل لهذا الإنسان "تمتع" وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. "إنك من أصحاب النار" أي مصيرك إلى النار.
قوله تعالى: "أمن هو قانت آناء الليل" بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي "أمن" بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة: "أمن هو" بالتخفيف على معنى النداء؛ كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين؛ كما قال أوس بن حجر:
أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد
وقال آخر هو ذو الرمة:
أدارا بحزوي هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالتقدير عل هذا "قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار" يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة؛ كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر؛ فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في "أمن" ألف استفهام أي "أمن هو قانت آناء الليل" أفضل؟ أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد"أمن" فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير "أمن هو قانت" فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي؛ والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع؛ قاله ابن مسعود. الثاني أنه الخاشع في صلاته؛ قاله ابن شهاب. الثالث أنه القائم في صلاته؛ قاله يحيى بن سلام. الرابع أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل) وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت) وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبدالله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن. وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضى هكذا؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه. وقال مقاتل: إنه عمار بن ياسر. الكلبى: صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. "آناء الليل" قال الحسن: ساعاته؛ أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس: "آناء الليل" جوف الليل. قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه. وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. "يحذر الآخرة" قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة. "ويرجو رحمة ربه" أي نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا متمن. ولا يقف على قوله: "رحمة ربه" من خفف "أمن هو قانت" على معنى النداء؛ لأن قوله: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر، على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. "إنما يتذكر أولو الألباب" أي أصحاب العقول من المؤمنين.
الآية: 10 {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}
قوله تعالى: "قل ياعباد الذين آمنوا" أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين "اتقوا ربكم" أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال: "للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة" يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا.
قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء.
قوله تعالى: "وأرض الله واسعة" فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في "النساء" وقيل: المراد أرض الجنة؛ رغبهم في سعتها وسعة نعيمها؛ كما قال: "عرضها السماوات والأرض" [آل عمران: 133] والجنة قد تسمى أرضا؛ قال الله تعالى: "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء" [الزمر: 74] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق؛ لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه؛ لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان.
قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم.
قوله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل: "بغير حساب" أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و"الصابرون" هنا الصائمون؛ دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: (الصوم لي وأنا أجزي به" قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا؛ وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم. وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل). وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا) ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم"إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا؛ قال النحاس. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.