تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 537 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 537

537 : تفسير الصفحة رقم 537 من القرآن الكريم

** فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ لَقَسَمٌ لّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مّكْنُونٍ * لاّ يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَـَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ
قال جويبر عن الضحاك: إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه, وهذا القول ضعيف, والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه, وهو دليل على عظمته, ثم قال بعض المفسرين: لا ههنا زائدة وتقديره أقسم بمواقع النجوم, ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير ويكون جوابه {إنه لقرآن كريم} وقال آخرون: ليست لا زائدة لا معنى لها بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسماً به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها. لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط, وهكذا ههنا تقدير الكلام: لا أقسم بمواقع النجوم, ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أوكهانة بل هو قرآن كريم. وقال ابن جرير وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فلا أقسم} فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل أقسم واختلفوا في معنى قوله: {بمواقع النجوم} فقال حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا, ثم نزل مفرقاً في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الاَية, وقال الضحاك عن ابن عباس: نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا, فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة, ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة فهو قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} نجوم القرآن, وكذا قال عكرمة ومجاهد والسدي وأبو حزرة, وقال مجاهد أيضاً: مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها.
وكذا قال الحسن وقتادة وهو اختيار ابن جرير, وعن قتادة: مواقعها منازلها, وعن الحسن أيضاً: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك {فلا أقسم بمواقع النجوم} يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا. وقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم, لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه {إنه لقرآن كريم} أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم {في كتاب مكنون} أي معظم, في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن جرير حدثني إسماعيل بن موسى: أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لا يمسه إلا المطهرون} قال: الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس {لا يمسه إلا المطهرون} يعني الملائكة, وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد, وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور, حدثنامعمر عن قتادة {لا يمسه إلا المطهرون} قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون, فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوس النجس, والمنافق الرجس, وقال: وهي في قراءة ابن مسعود: ما يمسه إلا المطهرون, وقال أبو العالية {لا يمسه إلا المطهرون} ليس أنتم, أنتم أصحاب الذنوب, وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين, فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون} وهذا القول قول جيد, وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله, وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون {لا يمسه إلا المطهرون} أي من الجنابة والحدث قالوا: ولفظ الاَية خبر ومعناها الطلب, قالوا: والمراد بالقرآن ههنا المصحف, كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر.
وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره, ومثل هذا ينبغي الأخذ به, وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منهما نظر, والله أعلم. وقوله تعالى: {تنزيل من رب العالمين} أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر, بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع. وقوله تعالى: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} قال العوفي عن ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين, وكذا قال الضحاك وأبو حزرة والسدي, وقال مجاهد {مدهنون} أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} قال بعضهم: معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون أي تكذبون بدل الشكر, وقد روي عن علي وابن عباس أنهما قرآها {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} كما سيأتي وقال ابن جرير: وقد ذكر عن الهيثم بن عدي أن من لغة أزدشنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر فلان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وتجعلون رزقكم يقول: شكركم أنكم تكذبون, وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا» وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مخول بن إبراهيم النهدي, وابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبيد الله بن موسى, وعن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى بن أبي بكير, ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعاً, وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن حسين بن محمد وهو المروزي به, وقال: حسن غريب, وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافراً يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وقال مالك في الموطأ عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت في الليل, فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب, وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي, كلهم من حديث مالك به.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي وعمرو بن سواد, حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين, ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا» انفرد به مسلم من هذا الوجه. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين, يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا», قال محمد: هو ابن إبراهيم, فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة, وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي, فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس يا عم رسول الله كم أبقى من نوء الثريا ؟ فقال: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعاً, قال: فما مضت سابعة حتى مطروا, وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر, لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر, فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده, وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له}.
وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا سفيان عن إسماعيل بن أمية فيما أحسبه أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ومطروا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد, فقال: «كذبت بل هو رزق الله» ثم قال ابن جرير: حدثني أبو صالح الصراري, حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي, حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم, عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين ـ ثم قال ـ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} يقول قائل مطرنا بنجم كذا وكذا». وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: «لو قحط الناس سبع سنين ثم أمطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدع». وقال مجاهد {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} قال: قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا, وبنوء كذا, يقول: قولوا هو من عند الله وهو رزقه, وهكذا قال الضحاك وغير واحد, وقال قتادة: أما الحسن فكان يقول بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب, فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.

** فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـَكِن لاّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
يقول تعالى: {فلولا إذا بلغت} أي الروح {الحلقوم} أي الحلق وذلك حين الاحتضار, كما قال تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق. وظن أنه الفراق: والتفت الساق بالساق, إلى ربك يومئذ المساق} ولهذا قال ههنا: {وأنتم حينئذ تنظرون} أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت {ونحن أقرب إليه منكم} أي بملائكتنا {ولكن لا تبصرون} أي ولكن لا ترونهم, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} وقوله تعالى: {فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونه} معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها من الجسد إن كنتم غير مدينين. قال ابن عباس: يعني محاسبين, وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي حزرة مثله.
وقال سعيد ين جبير والحسن البصري {فلولا إن كنتم غير مدينين} غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس, وعن مجاهد {غير مدينين} غير موقنين. وقال ميمون بن مهران: غير معذبين مقهورين.

** فَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّاتُ نَعِيمٍ * وَأَمّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم, إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين, وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله, ولهذا قال تعالى: {فأما إن كان} أي المحتضر {من المقربين} وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات, وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات {فروح وريحان وجنة نعيم} أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه, اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فروح} يقول راحة وريحان يقول مستراحة, وكذا قال مجاهد: إن الروح الاستراحة, وقال أبو حزرة: الراحة من الدنيا, وقال سعيد بن جبير والسدي: الروح الفرح, وعن مجاهد {فروح وريحان} جنة ورخاء وقال قتادة: فروح فرحمة, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وريحان ورزق, وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة, فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة, والفرح والسرور والرزق الحسن, {وجنة نعيم} وقال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه. وقال محمد بن كعب: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار, وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ولوكتبت ههنا لكان حسناً, من جملتها حديث تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب, ائتني فلأريحه ـ قال ـ فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة, ومعهم ضبائر الريحان ـ أصل الريحانة واحد ـ وفي رأسها عشرون لوناً لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه, ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك» وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الاَية.
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {فروح وريحان} برفع الراء, وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون, وهو ابن موسى الأعور به, وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه, وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرءوا {فروح وريحان} بفتح الراء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانىء, أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون النسم طيراً يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها». هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن, ومعنى يعلق يأكل, ويشهد له بالصحة أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري, عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه». وهذا إسناد عظيم ومتن قويم.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش» الحديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام , حدثنا عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخاً أبيض الرأس واللحية على حمار, وهو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال: فأكب القوم يبكون, فقال: «ما يبكيكم ؟» فقالوا: إنا نكره الموت, قال: «ليس ذاك ولكنه إذا احتضر {فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم} فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل, والله عز وجل للقائه أحب {وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم} فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقائه أكره», هكذا رواه الإمام أحمد, وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه.
وقوله تعالى: {وأما إن كان من أصحاب اليمين} أي وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين {فسلام لك من أصحاب اليمين} أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة, أنت من أصحاب اليمين, وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله, كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين, وهذا معنى حسن, ويكون ذلك كقول الله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاَخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم} وقال البخاري {فسلام لك} أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين, وألغيت أن وبقي معناها كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل, وقد يكون كالدعاء له كقولك سقياً لك من الرجال إن رفعت السلام, فهو من الدعاء, وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم} أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى {فنزل} أي فضيافة {من حميم} وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود {وتصلية جحيم} أي وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم قال تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحد عنه {فسبح باسم ربك العظيم} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا موسى بن أيوب الغافقي, حدثني إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فسبح باسم ربك العظيم} قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» وكذا رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به, وقال روح بن عبادة: حدثنا حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» هكذا رواه الترمذي من حديث روح, ورواه هو والنسائي أيضاً من حديث حماد بن سلمة, من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به, وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير, وقال البخاري في آخر كتابه: حدثنا أحمد بن أشكاب حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله, آخر تفسير سورة الواقعة و لله الحمد والمنة.

سورة الحديد
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن عرباض بن سارية أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: «إن فيهن آية أفضل من ألف آية, وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن بقية به. وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه النسائي عن ابن أبي السرح عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بجير بن سعد, عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا, ولم يذكر عبد الله بن أبي بلال ولا العرباض بن سارية, والاَية المشار إليها في الحديث هي والله أعلم قوله تعالى: {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى, وبه الثقة وعليه التكلان, وهو حسبنا ونعم الوكيل..

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** سَبّحَ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأوّلُ وَالاَخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض أي من الحيوانات والنباتات, كما قال في الاَية الأخرى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفور} وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي الذي قد خضع له كل شيء {الحكيم} في خلقه وأمره وشرعه {له ملك السموات والأرض يحيي ويميت} أي هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ويعطي من يشاء ما يشاء {وهو على كل شيء قدير} أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن} وهذه الاَية هي المشار إليها في حديث عرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية, وقال أبو داود: حدثنا عباس بن عبد العظيم, حدثنا النضر بن محمد, حدثنا عكرمة ـ يعني ابن عمار ـ حدثنا أبو زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري ؟ قال: ما هو ؟ قلت: والله لا أتكلم به. قال: فقال لي: أشيء من شك ؟ قال وضحك, قال: ما نجا من ذلك أحد, قال: حتى أنزل الله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} الاَية, قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الاَية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولاً.
وقال البخاري: قال يحيى: الظاهر على كل شيء علماً والباطن على كل شيءٍ علماً. وقال شيخنا الحافظ المزي: يحيى هذا هو ابن زياد الفراء, له كتاب سماه معاني القرآن, وقد ورد في ذلك أحاديث, فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد, حدثنا ابن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم, ربنا ورب كل شيء, منزل التوراة والإنجيل والفرقان, فالق الحب والنوى لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته, أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الاَخر فليس بعدك شيء, وأنت الظاهر فليس فوقك شيء, وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين, وأغننا من الفقر» ورواه مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب, حدثنا جرير عن سهل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن, ثم يقول: اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم, ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى, ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان, أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته, اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الاَخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء, وأنت الباطن فليس دونك شيء, اقض عنا الدين, واغننا من الفقر, وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا فقال: حدثنا عقبة, حدثنا يونس, حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة, فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس ما يدرى ما يقول, فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال: «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم, إله كل شيء ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان, فالق الحب والنوى. أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء, وأنت الاَخر الذي ليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء, وأنت الباطن فليس دونك شيء, اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» السري بن إسماعيل هذا هو ابن عم الشعبي وهو ضعيف جداً والله أعلم.
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا عبد بن حميد وغير واحد المعنى واحد قالوا حدثنا يونس بن محمد, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال حدث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ـ حتى عد سبع سماوات ـ ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل بعد ما بين السماءين, ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض. ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة ـ حتى عد سبع أرضين ـ بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة, ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلاً إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ: {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}.
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه, ويروى عن أيوب ويونس يعني ابن عبيد وعلي بن زيد وقالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه, وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه, انتهى كلامه. وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره وعنده وبعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام وقال: لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على الله ثم قرأ {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} ورواه ابن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر الحديث ولم يذكر ابن أبي حاتم آخره, وهو قوله لو دليتم بحبل وإنما قال حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام, ثم تلا {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}. وقال البزار: لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة, ورواه ابن جرير عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن}. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ مر عليهم سحاب فقال: هل تدرون ما هذا ؟ وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء, إلا أنه مرسل من هذا الوجه, ولعل هذا هو المحفوظ والله أعلم. وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه, رواه البزار في مسنده والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات, ولكن في إسناده نظر وفي متنه غرابة ونكارة, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى: {ومن الأرض مثلهن}: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال: التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض فقال بعضهم لبعض: من أين جئت ؟ قال أحدهم: أرسلني ربي عز وجل من السماء السابعة وتركته ثَمّ. قال الاَخر: أرسلني ربي عز وجل من الأرض السابعة وتركته ثَمّ. قال الاَخر: أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ. قال الاَخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ. وهذا حديث غريب جداً, وقد يكون الحديث الأول موقوفاً على قتادة كما روي ههنا من قوله, والله أعلم.