تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 405 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 405


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِىۤ أَدْنَى ٱلاٌّرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلاٌّمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلاٌّخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ}
قوله تعالىٰ: {وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلاٌّخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ }. قوله تعالىٰ: {وَعَدَ ٱللَّهُ}، مصدر مؤكّد لنفسه، لأن قوله قبله: {وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ}، هو نفس الوعد كما لا يخفى، أي: وعد اللَّه ذلك وعدًا.
وقد ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أمور:
الأول: أنه لا يخلف وعده.
والثاني: أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون.
والثالث: أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا.
والرابع: أنهم غافلون عن الآخرة. وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أمّا الأول منها: وهو كونه لا يخلف وعده، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ}. وقد بيَّن تعالىٰ أن وعيده للكفار لا يخلف أيضًا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالىٰ: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ}.
والتحقيق: أن القول الذي لا يبدّل لديه في هذه الآية الكريمة، هو وعيده للكفار.
وكقوله تعالىٰ: {كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}، وقوله: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}، فقوله: {حَقّ} في هاتين الآيتين، أي: وجب وثبت، فلا يمكن تخلفه بحال.
وأما الثاني منها: وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة، فقد بيَّن تعالىٰ في آيات أن أكثر الناس هم الكافرون؛ كقوله تعالىٰ: {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بيَّن جلَّ وعلا أيضًا في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون؛ كقوله تعالىٰ: {أَوْ * لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلاُ}، وقوله تعالىٰ: {أَوْ * لَّوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * يأَيُّهاَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلاْنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيل}، وقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ}،وقوله تعالىٰ: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الثالث منها: وهو كونهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ}، أي: في الدنيا، وقوله تعالىٰ: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ}.
وأما الرابع منها: وهو كونهم غافلين عن الآخرة، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ عنهم: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا}.
وقوله تعالىٰ عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}، {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، {مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ}، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
تنبيــه
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبّر آية «الروم» هذه تدبّرًا كثيرًا، ويبيّن ما دلّت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى اللَّه بها ضعاف العقول من المسلمين، شدّة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله اللَّه في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن {أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ويدخل فيهم أصجاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أوليًّا، فقد نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمّن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبديّة في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم؛ كما دلّت عليه الآيات القرءانيّة المذكورة، ثم لما نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعًا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلّته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز {ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا}، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السمٰوات والأرض جلَّ وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءه هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِر}، أنه بدل من قوله قبله {لاَّ يَعْلَمُونَ}، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في «الكشاف»: وقوله: {يَعْلَمُونَ} بدل من قوله: {لاَّ يَعْلَمُونَ}، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: {ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعّم بملاذها، وباطنها وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزوّد منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها. و {هُمْ} الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، و {غَـٰفِلُونَ} خبره، والجملة خبر {هُمْ} الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و {غَـٰفِلُونَ} خبر الأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرّها، ومحلّها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع، انتهى كلام صاحب «الكشاف».
وقال غيره: وفي تنكير قوله: {ظَاهِر} تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، اهــ، ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلّم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاع في سورة «مريم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْدا}، وهذه العلوم الدنيوية التي بيّنا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلّمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر اللَّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة اللَّه ومرضاته جلَّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن؛ كما قال تعالىٰ: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ}، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر اللَّه تعالىٰ وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ * أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلاٌّرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ * ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَـٰفِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا وَلِقَآءِ ٱلاَّخِرَةِ فَأُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَيُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ }. لما بيَّن جلَّ وعلا أن أكثر الناس وهم الكفّار لا يعلمون، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم غافلون، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة، مع شدّة وضوع أدلّتها بقوله: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ}، والتفكر: التأمّل والنظر العقلي، وأصله إعمال الفكر، والمتأخرون يقولون: الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات، وأمّا حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.
وقال الزمخشري في «الكشاف»: {فِى أَنفُسِهِمْ} ، يحتمل أن يكون ظرفًا كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والفكر لا يكون إلاّ في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين؛ كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك: تفكّر في الأمر أجال فيه فكره، و {مَا خَلَقَ} متعلّق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عليه {إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى}، أي: ما خلقها باطلاً وعبثًا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بدّ لها أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب.
ألا ترى إلى قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}، كيف سمّى تركهم غير راجعين إليه عبثًا، والباء في قوله: {إِلاَّ بِٱلْحَقّ} مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها، وكذلك المعنى: ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به.
فإن قلت: إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه؟
قلت: معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبّروا ما أودعها اللَّه ظاهرًا وباطنًا، من غرائب الحكم الدالَّة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بدّ لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبّر أمرها على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير، وأنّه لا بدّ لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمّى، انتهى كلام صاحب «الكشاف»، في تفسير هذه الآية.
وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن خلقه تعالىٰ للسمٰوات والأرض، وما بينهما لا يصحّ أن يكون باطلاً ولا عبثًا، بل ما خلقهما إلاّ بالحق؛ لأنه لو كان خلقهما عبثًا لكان ذلك العبث باطلاً ولعبًا، سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلاّ بالحق، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق، ويكلّفهم فيأمرهم، وينهاهم، ويعدهم ويوعدهم، حتى إذا انتهى الأجل المسمّى لذلك بعث الخلائق، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، وتظهر في الكافرين صفات عظمته، وشدّة بطشه، وعظم نكاله، وشدّة عدله وإنصافه، دلّت عليه آيات كثيرة من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَا خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَـٰتُهُمْ أَجْمَعِينَ}، فقوله تعالىٰ: {إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ}، بعد قوله: {مَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ}، يبيّن ما ذكرنا. وقوله تعالىٰ: {وَمَا خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ}.
فقوله تعالىٰ: {وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ}، بعد قوله: {وَمَا خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ} يوضح ذلك، وقد أوضحه تعالىٰ في قوله: {وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى}.
وقد بيَّن جلَّ وعلا أن الذين يظنون أنه خلقهما باطلاً لا لحكمه الكفار، وهددهم على ذلك الظنّ الكاذب بالويل من النار؛ وذلك في قوله تعالىٰ: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ}، وبيَّن جلَّ وعلا أنه لو لم يبعث الخلائق ويجازهم، لكان خلقه لهم أوّلاً عبثًا، ونزّه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالىٰ عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًّا كبيرًا؛ وذلك في قوله تعالىٰ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ}.
فهذه الآيات القرءانية تدلّ على أنه تعالىٰ ما خلق الخلق إلا بالحق، وأنه لا بدّ باعثهم، ومجازيهم على أعمالهم، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون هذا، فكانوا غافلين عن الآخرة، كافرين بلقاء ربّهم.
وقوله تعالىٰ في الآيات المذكورة: {وَمَا بَيْنَهُمَ}، أي: ما بين السمٰوات والأرض،
يدخل فيه السحاب المسخّر بين السماء والأرض، والطير صافّات، ويقبض بين السماء والأرض والهواء الذي لا غنى للحيوان عن استنشاقه. {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، إلى قوله تعالىٰ: {كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ}. وفي «المائدة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى}. وفي «هود»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}. وفي «الإسراء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ}، وفي غير ذلك.
وقوله تعالىٰ في آية «الروم» هذه: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلاْرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}، جاء موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً فِى ٱلاْرْضِ}، ونحو ذلك من الآيات. {ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ }. قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو: {كَانَ عَـٰقِبَةَ}، بضم التاء اسم كان، وخبرها { السُّوْأَىٰ}. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ}، بفتح التاء خبر {كَانَ} قدم على اسمها على حدّ قوله في «الخلاصة»: وفي جميعها توسط الخبر أجز ...

وعلى هذه القراءة فـ { السُّوأَىٰ} اسم {إِن كَانَ}، وإنما جرد الفعل من التاء مع أن { السُّوأَىٰ} مؤنثة لأمرين:
الأول: أن تأنيثها غير حقيقي.
والثاني: الفصل بينها وبين الفعل، كما هو معلوم. وأمّا على قراءة ضمّ التاء فوجه تجريد الفعل من التاء هو كون تأنيث العاقبة غير حقيقي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية عندي، أن المعنى على قراءة ضمّ التاء، كانت عاقبة المسيئين السوأى، وهي تأنيث الأسوإ، بمعنى: الذي هو أكثر سوءًا، أي: كانت عاقبتهم العقوبة، التي هي أسوأ العقوبات، أي: أكثرها سوءًا وهي النار أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منها.
وأمّا على قراءة فتح التاء، فالمعنى: كانت السوأى عاقبة الذين أساءوا، ومعناه واضح مما تقدم، وأن معنى قوله: {ٱلسُّوءىٰ أَن كَذَّبُوا}، أي: كانت عاقبتهم أسوأ العقوبات لأجل أن كذبوا.
وهذا المعنى تدلّ عليه آيات كثيرة توضح أن الكفر والتكذيب، قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وسوء عاقبته، والعياذ باللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقوله: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضً}، وقوله: {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على هذا في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرا}. وفي «الأعراف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، وفي غير ذلك.
وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن { ٱلْسُّوأَىٰ} منصوب بــ {ٱلَّذِينَ أَسَاءو}،أي: اقترفوا الجريمة السوأىٰ خلاف الصواب، وكذلك قول من قال: إن {ءانٍ} في قوله: {أَن كَذَّبُوا} تفسيرية، فهو خلاف الصواب أيضًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في «البقرة»، و «النحل»، و «الحج»، وغير ذلك. {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ}، وفي غير ذلك. {وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَـٰفِرِينَ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا}، وفي غير ذلك. {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }. قد قدّمنا في سورة «النساء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُودا}، أن قوله هنا: {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ}، الآيتين من الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس، وأوضحنا وجه ذلك مع إيضاح جميع الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس. {وَيُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في ذكرنا براهين البعث في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ}. وفي سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ}، وفي غير ذلك.