تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 405 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 405

404

6- "وعد الله لا يخلف الله وعده" أي وعد الله وعداً لا يخلفه، وهو ظهور الروم على فارس "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن الله لا يخلف وعده، وهم الكفار، وقيل كفار مكة على الخصوص.
7- "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا" أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية، وقيل هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع، وقيل الظاهر الباطل "وهم عن الآخرة" التي هي النعمة الدائمة، واللذة الخالصة "هم غافلون" لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه، أو غافلة عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها.
8- " أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما " الهمزة للإنكار عليهم والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، وفي أنفسهم ظرف للتفكر وليس مفعولاً للتفكر والمعنى: أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه. وقيل إنها مفعول للتفكر. والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاً، و ما في ما خلق الله نافية: أي لم يخلقها إلا بالحق الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم في محل نصبعلى إسقاط الخافض: أي بما خلق الله والعامل فيها إما العلم الذي يؤدي إليه التفكر وقال الزجاج في الكلام حذف: أي فيعلموا، فجعل ما معمولة للفعل المقدر لا للعلم المدلول عليه، والباء في "إلا بالحق" إما للسببية، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال: أي ملتبسة بالحق. قال الفراء: معناه إلا للحق: أي للثواب والعقاب، وقيل بالحق بالعدل، وقيل بالحكمة، وقيل بالحق: أي أنه هو الحق وللحق خلقها "وأجل مسمى" معطوف على الحق: أي وبأجل مسمى للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء، وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه. وقيل معنى "وأجل مسمى" أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء "وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون" أي لكافرون بالبعث بعد الموت، واللام هي المؤكدة، والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق، أو كفار مكة.
9- " أولم يسيروا في الأرض " الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والفاء في "فينظروا" للعطف على يسيروا داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ، والمعنى: أنهم قد ساروا وشاهدوا "كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل، وجملة "كانوا أشد منهم قوة" مبينة للكيفية التي كانوا عليها، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية، ومعنى "وأثاروا الأرض" حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك ولم يكن أهل مكة أهل حرث "وعمروها أكثر مما عمروها" أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء، لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً، وأقوى أجساماً، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش. فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس "وجاءتهم رسلهم" بالبينات أي المعجزات، وقيل بالأحكام الشرعية "فما كان الله ليظلمهم" بتعذيبهم على غير ذنب "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" بالكفر والتكذيب.
10- " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا " أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي "السوأى" هي فعلى من السوء تأنيث الأسوإ، وهو الأقبح: أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وقيل هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، ويجوز أن تكون مصدراً كالبشرى والذكرى. وصفت به العقوبة مبالغة. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو و "عاقبة" بالرفع على أنها اسم كان، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازياً، والخبر السوأى: أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر "أن كذبوا" أي كان آخر أمرهم التكذيب عاقبة الذين أساءوا، والسوأى مصدر أساءوا أو صفة لمحذوف. وقال الكسائي: إن قوله: "أن كذبوا" في محل نصب على العلة: أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوأى جهنم الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين، وسميت سوأى لكونها تسوء صاحبها. قال الزجاج: المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم، وجملة "وكانوا بها يستهزئون" عطف على كذبوا داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين، أو في حكم الإسمية لكان، أو الخبرية لها على القول الآخر. وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: " الم * غلبت الروم " قال:" كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم كانوا أصحاب أوثان، وكان المسملون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته أراه قال دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: " الم * غلبت الروم " فغلبت، ثم غلبت بعد بقول الله " لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله " " .قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه، وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارساً، ساء النبي ما جعله أبو بكر من المدة وكرهه وقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: تصديقاً لله ولرسوله فقال: تعرض لهم وأعظم الخطى واجعله إلى بضع سنين، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود فإن العود أحمد؟ قالوا نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارساً وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية، فقمر أبو بكر فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا السحت تصدق به. وأخرج الترمذي وصححه والدارقطني في الأفراد والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في الشعب عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت " الم * غلبت الروم " الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله: " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله " وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل الكتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة " الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين " فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين لأن الله قال: "في بضع سنين" فأسلم عند ذلك ناس كثير. وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع". وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه. وأخرج الفريابي والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت " الم * غلبت الروم " قرأها بالنصب: يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله: " يفرح المؤمنون * بنصر الله ". قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال: سيجيء أقوام يقرأون " الم * غلبت الروم " يعني بفتح الغين، وإنما هي غلبت: يعني بضمها، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا" يعني معايشهم متى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "كانوا أشد منهم قوة" قال: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل.
قوله: 11- "الله يبدأ الخلق ثم يعيده" أي يخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا "ثم إليه ترجعون" إلى موقف الحساب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأفراد الضمير في يعيده باعتبار لفظ الخلق، وجمعه في ترجعون باعتبار معناه. قرأ أبو بكر وأبو عمرو "يرجعون" بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة.
12- "ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون" قرأ الجمهور "يبلس" على البناء للفاعل. وقرأ السلمي على البناء للمفعول يقال أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته. قال الفراء والزجاج: المبلس الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها، ومنه قول العجاج: يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً قال نعم أعرفه وأبلسا وقال الكلبي: أي يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب، وقد قدمنا تفسير الإبلاس عند قوله: "فإذا هم مبلسون".
13- "ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء" أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله "وكانوا" في ذلك الوقت "بشركائهم" أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله "كافرين" أي جاحدين لكونهم آلهة لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وقيل إن معنى الآية: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم، والأول أولى.
14- "ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون" أي يتفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله: "الله يبدأ الخلق" والمراد بالتفرق أن كل طائفة تنفرد، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، وليس المراد تفرق كل فرد منهم عن الآخر، ومثله قوله تعالى: "فريق في الجنة وفريق في السعير" وذلك بعد تمام الحساب فلا يجتمعون أبداً .
ثم بين سبحانه كيفية تفرقهم فقال: 15- "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون" قال النحاس: سمعت الزجاج يقول معنى أما دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه: إن معناه: مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه، والروضة كل أرض ذات نبات. قال المفسرون: والمراد بها هنا الجنة، ومعنى يحبرون يسرون، والحبور والحبرة السرور: أي فهم في رياض الجنة ينعمون. قال أبو عبيد: الروضة ما كان في سفل، فإذا كان مرتفعاً فهو ترعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع، ومنه قول الأعشى: ‌ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل وقيل معنى يحبرون يكرمون. قال النحاس: حكى الكسائي حبرته: أي أكرمته ونعمته، والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربي، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم، وفي السرور زيادة على ذلك. وقيل التحبير التحسين فمعنى يحبرون يحسن إليهم، وقيل هو السماع الذي يسمعونه في الجنة، وقيل غير ذلك،