تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 459 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 459


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلاٌّخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلاٌّلْبَـٰبِ * قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّىۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ * وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّىۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى * فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ * لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ * وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلاٌّلْبَـٰبِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ * لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلاٌّرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـٰماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لاٌّوْلِى ٱلاٌّلْبَـٰبِ * أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَقِيلَ لِلظَّـلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْىَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـٰفِرِينَ * وَٱلَّذِى جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ * لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ}. قد بين جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق، وأنه لا يضره كفرهم به، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى {وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} وقوله تعالى: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}، وقوله تعالى: {قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ}. وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} وقوله تعالى: {نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ}، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ}. قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال، والجواب عن الأسئلة الواردة، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولا}، وأوضحنا ذلك، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة
له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا}. قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاٌّمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. قوله تعالى: {وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ}. الظاهر أن معنى الآية، أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب، فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة، حتى يجد محلاً تمكنه فيه إقامة دينه.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَـٰلِمِىۤ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلاٌّرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا}. وقوله تعالى: {يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَٱعْبُدُونِ}، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: {فَإِيَّاىَ فَٱعْبُدُونِ} على قوله: {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} دليل واضح على ذلك. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له، من أوجه في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}. قوله تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ}، وذكرنا طرفاً من ذلك، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرً}. قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من تحقيق معنى لا إله إلا الله، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الفاتحة، في الكلام على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ}. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ}. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسناً، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله.
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع. ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ} وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَ}.
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.
واعلم أولاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى: {وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قدموا فعل الخير الواجب، على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير، على مطلق الحسن الذي هو الجائز، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقال تعالى {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ} كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي: ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن

ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـٰبِرينَ} فالأمر في قوله: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـٰبِرينَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام، {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله بعده: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلاٍّمُورِ}، وكقوله في جواز الانتقام {لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِير}. وكقوله جل وعلا مثنياً على من تصدق، فأبدى صدقته {إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ} ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم، في قوله {إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
وكقوله في نصف الصداق اللازم، للزوجة بالطلاق، قبل الدخول، فنصف ما فرضتم، ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن، لأن الله شرعه في كتابه في قوله {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} مع أنه رغب كل واحد منهما، أن يعفو للآخر عن نصفه، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده {وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.
وقد قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} ثم أرشد إلى الأحسن بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ} وقال تعالى: {وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ثم أرشد إلى الأحسن، في قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}.
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالاً غير الذي اخترنا.
منها ما روي عن ابن عباس، في معنى {فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قال «هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به».
وقيل يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن.
وقيل: إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله، وبعض من يقول بهذا يقول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ}. أظهر القولين في الآية الكريمة، أنهما جملتان مستقلتان، فقوله أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة، لكن فيها حذفاً، وحذف ما دل المقام عليه واضح، لا إشكال فيه.
والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب، تخلصه أنت منه، والاستفهام مضمن معنى النفي، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحداً سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ}.
وقد قدمنا مراراً قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو وثم كقوله:
هنا: {أَفَمَنْ حَقَّ} وقوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ}.
أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية، كما قال الزمخشري: أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه جملة شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة، فإنه لا يظهر كل الظهور.
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ}، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب. قوله تعالى: {لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة سبأ {إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ}. وقوله تعالى في سورة التوبة: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَـٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ}. وقوله تعالى في سورة الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ}، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ، وقد قدمنا طرفاً من هذا في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلاٌّرْضِ}. الينابيع: جمع ينبوع، وهو الماء الكثير.
وقوله: فسلكه أي أدخله، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية، والآيات القرآنية في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}. قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهاُ}. قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ} وأحلنا عليه في سورة فاطر، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـٰماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لاٌّوْلِى ٱلاٌّلْبَـٰبِ}. قوله ثم يهيج: أي ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفراً يابساً، قد زالت خضرته ونضارته. ثم يجعله حطاماً أي فتاتاً، متكسراً، هشيماً، تذروه الرياح، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع، المختلف الألوان، لذكري أي عبرة وموعظة وتذكيراً لأولي الألباب، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير، وبين في موضع آخر، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضاً بالدنيا. فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد {ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلاٌّمْوَٰلِ وَٱلاٌّوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاما}. ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه، وذلك في قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}. قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}. قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ}. قوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ}، وفي غير ذلك من الموضع. قوله تعالى: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّم}. وقوله في هذه الآية الكريمة: قرآناً انتصب على الحال وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآناً توطئة له وقيل انتصب على المدح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: عربياً، أي لأنه بلسان عربي كما قال تعالى: {لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}. وقال تعالى في أول سورة يوسف {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال في أول الزخرف {إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال في طه {وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْر} وقال تعالى في فصلت: {وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} وقال تعالى في الشعراء {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} وقال تعالى في سورة شورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَ}.
وقال تعالى في الرعد {وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها، دلالة لا ينكرها إلا مكابر. قوله تعالى: {وَٱلَّذِى جَآءَ بِٱلصِّدْقِ}. أوضح جل وعلا، أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين، بدليل قوله بعده {أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ}.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الذي تأتي بمعنى الذين، في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلة ذلك في القرآن، قوله تعالى في آية الزمر هذه: {وَٱلَّذِى جَآءَ بِٱلصِّدْقِ}. وقوله تعالى في سورة البقرة {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَار} أي الذين استوقدوا بدليل قوله بعده: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} وقوله فيها أيضاً {كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ} أي كالذين ينفقون بدليل قوله بعده {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا}. وقوله تعالى في التوبة {وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواۤ} على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي: فبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيٌّ ورشدهم رشد

وقول الراجز: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منها ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى {جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ}. قوله تعالى: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له، في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.