تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 468 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 468

467

8- "ربنا وأدخلهم جنات عدن" وأدخلهم معطوف على قوله: قهم ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها "التي وعدتهم" إياها "ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" أي وأدخل من صلح، والمراد بالصلاح ها هنا: الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم: أي ووعدت من صلح، والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم. قال الفراء والزجاج: نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم، وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي عبلة بضمها. وقرأ الجمهور "وذرياتهم" على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد "إنك أنت العزيز الحكيم" أي الغالب القاهر الكثير الباهرة.
9- "وقهم السيئات" أي العقوبات، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف. قال قتادة: وقهم ما يسؤوهم من العذاب "ومن تق السيئات يومئذ" أي يوم القيامة "فقد رحمته" يقال وقاه يقيه وقاية: أي حفظه، ومعنى "فقد رحمته" أي رحمته من عذابك وأدخلته جنتك، والإشارة بقوله: "وذلك" إلى ما تقدم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات وهو مبتدأ، وخبره "هو الفوز العظيم" أي الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا تساويها نجاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: "حم" اسم من أسماء الله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وأبو عبيد وابن سعد وابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال: "حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون". وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والحاكم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ذي الطول" قال: ذي السعة والغنى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "غافر الذنب" الآية قال: غافر الذنب لمن يقول لا إله إلا الله "قابل التوب" ممن يقول لا إله إلا الله "شديد العقاب" لمن لا يقول لا إله إلا الله "ذي الطول" ذي الغنى "لا إله إلا هو" كانت كفار قريش لا يوحدونه فوحد نفسه "إليه المصير" مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخله الجنة، ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخله النار. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن جدالاً في القرآن كفر". وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مراء في القرآن كفر".
لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال: 10- "إن الذين كفروا ينادون". قال الواحدي قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم وأدخلوا النار ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد "لمقت الله" إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "أكبر من مقتكم أنفسكم" اليوم. قال الأخفش: هذه اللام في لمقت هي لام الابتداء أوقعت بعد ينادون، لأن معناه يقال لهم، والنداء قول. قال الكلبي: يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار: مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم، فينادون: لمقت الله إياكم في الدنيا "إذ تدعون إلى الإيمان" أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في "إذ تدعون" منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور: أي مقتكم وقت دعائكم، وقيل بمحذوف هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور والمقت أشد البغض.
ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال: 11- "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف: أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحياءتين: أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله: "وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقيل معنى الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف. وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكياً عنهم "فاعترفنا بذنوبنا" التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم "فهل إلى خروج من سبيل" أي هل إلى خروج لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم " هل إلى مرد من سبيل " وقوله: "فارجعنا نعمل صالحاً" وقوله: "يا ليتنا نرد" الآية.
ثم أحاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله: 12- "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم" أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده "وإن يشرك به" غيره من الأصنام أو غيرها "تؤمنوا" بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، ومحل ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله إلخ "فالحكم لله" وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها و "العلي" المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، و"الكبير" الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك.
13- "هو الذي يريكم آياته" أي دلائل توحيده وعلامات قدرته "وينزل لكم من السماء رزقاً" يعني المطر فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمواته وأرضه وما فيهما وما بينهما. قرأ الجمهور "ينزل" بالتشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف "وما يتذكر إلا من ينيب" أي ما يتذكر ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب: أي يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله.
ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال: 14- " فادعوا الله مخلصين له الدين " أي إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها "ولو كره الكافرون" ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
15- "رفيع الدرجات" وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر على المبتدأ المتقدم: أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الدرجات، وكذلك "ذو العرش" خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره ذو العرش، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، ورفيع صفة مشبهة. والمعنى: رفيع الصفات، أو رفيع درجات ملائكته: أي معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة. وقال الكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع، ومعنى ذو العرش: مالكه وخالقه والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة "يلقي الروح من أمره" في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر، ومعنى ذلك أنه سبحانه يلقي الوحي "على من يشاء من عباده"، وسمي الوحي روحاً، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله: "من أمره" متعلق بيلقي، ومن لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" وقيل الروح جبريل كما في قوله: " نزل به الروح الأمين * على قلبك " وقوله: "نزله روح القدس من ربك بالحق" وقوله "على من يشاء من عباده" هم الأنبياء، ومعنى "من أمره" من قضائه "لينذر يوم التلاق" قرأ الجمهور لينذر مبنياً للفاعل ونصب اليوم، والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء، والمنذر به محذوف تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبي وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً. وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميفع لتنذر بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول، أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني لينذر على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، ومعنى "يوم التلاق" يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، وبه قال قتادة. وقال أبو العالية ومقاتل: يوم يلتقي العابدون والمعبودون، وقيل الظالم والمظلوم، وقيل الأولون والآخرون، وقيل جزاء الأعمال والعاملون.
وقوله: 16- "يوم هم بارزون" بدل من يوم التلاق. وقال ابن عطية: هو منتصب بقوله: " لا يخفى على الله " وقيل منتصب بإضمار اذكر، والأول أولى، ومعنى بارزون: خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء، وجملة "لا يخفى على الله منهم شيء" مستأنفة مبينة لبروزهم ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً للمبتدأ: أي لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وجملة "لمن الملك اليوم" مستأنفة جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يقال لبروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات والأرض، فيقول الرب تبارك وتعالى: "لمن الملك اليوم" يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه، وقول "لله الواحد القهار" قال الحسن: هو السائل تعالى، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه، وقيل إنه سبحانه يأمر منادياً ينادي بذلك، فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم "لله الواحد القهار" وقيل إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار، وقيل هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين، كما في قوله تعالى: " وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ".