تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 564 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 564

563

ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال: 27- "فلما رأوه زلفة" يعني رأوا العذاب قريباً، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل: أي مزدلفاً أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف: أي ذا زلفة وقرب. أو ظرف: أي رأوه في مكان ذي زلفة. قال مجاهد: أي قريباً. وقال الحسن: عياناً. قال أكثر المفسرين: المراد عذاب يوم القيامة، وقال مجاهد: المراد عذاب بدر، وقيل رأوا ما وعدوا به من الحش قريباً منهم كما يدل عليه قوله: "وإليه تحشرون" وقيل لما رأوا عملهم السيء قريباً "سيئت وجوه الذين كفروا" أي اسودت وعلتها الكآبة وغشيتها الذلة، يقال ساء الشيء يسوء فهو سيىء إذا قبح. قال الزجاج: المعنى تبين فيها السوء: أي ساءهم ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم كقوله: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه". قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وابن محيصن بالإشمام "وقيل هذا الذي كنتم به تدعون" أي قيل لهم توبيخاً وتقريعاً هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الذي كنتم به تدعون في الدنيا: أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء، على أن معنى تدعون الدعاء. قال الفراء: تدعون من الدعاء: أي تتمنون وتسألون، وبهذا قال الأكثر من المفسرين. وقال الزجاج: هذا الذي كنتم به تدعون الأباطيل والأحاديث. وقيل معنى تدعون: تكذبون، وهذا على قراءة الجمهور "تدعون" بالتشديد، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر، أو من الجعوى كما قال الزجاج ومن وافقه، والمعنى: أنهم كانوا يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك:"تدعون " مخففا ، ومعناها ظاهر . قال قتادة : هو قولهم " ربنا عجل لنا قطنا " وقال الضحاك : هو قولهم "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية. قال النحاس: تدعون وتدعون بمعنى واحد كما تقول قدر واقتدر، وغدا واغتدى، إلا أن أفعل معناه مضى شيئاً بعد شيء، وفعل يقع على القليل والكثير.
28- "قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي" أي أخبروني إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب، أو رحمنا فلم يعذبنا " فمن يجير الكافرين من عذاب أليم " أي فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب. والمعنى: أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه، أو أمهلهم. وقيل المعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم.
29- "قل هو الرحمن آمنا به" وحده، لا نشرك به شيئاً "وعليه توكلنا" لا على غيره. والتوكل: تفويض الأمور إليه عز وجل: "فستعلمون من هو في ضلال مبين" منا ومنكم. وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف. قرأ الجمهور "ستعلمون" بالفوقية على الخطاب. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر.
ثم احتج سبحانه عليهم ببعض نعمه، وخوفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال: 30- "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً" أي أخبروني إن صار ماؤكم غاراً في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلاً، أو صار ذاهباً في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء. يقال غار الماء غوراً: أي نضب، والغور الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة، كما يقال رجل عدل، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف "فمن يأتيكم بماء معين" أي ظاهر تراه العيون، وتناله الدلاء، وقيل هو من معن الماء: أي كثر. وقال قتادة والضحاك: أي جار، وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن. وقرأ ابن عباس فمن يأتيكم بماء عذب. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "أفمن يمشي مكباً" قال: في الضلالة "أمن يمشي سوياً" قال: مهتدياً. وأخرج الخطيب في تاريخه وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هذه الآية "هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون"". وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات "وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع" إلى "يفقهون" و"هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون" فإنه يبرأ بإذن الله". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إن أصبح ماؤكم غوراً" قال: داخلاً في الأرض "فمن يأتيكم بماء معين" قال: الجاري. وأخرج ابن المنذر عنه "إن أصبح ماؤكم غوراً" قال: يرجع في الأرض: وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "بماء معين" قال: ظاهر. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً "بماء معين" قال عذب. سورة القلم هي اثنتان وخمسون آية وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله: "سنسمه على الخرطوم" مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله: "من الصالحين" مدني، وباقيها مكي كذا قال الماوردي. وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم نون، ثم المزمل، ثم المدثر. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عنه قال: نزلت سورة ن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. قوله: 1- "ن" قرأ أبو بكر وورش وابن عامر والكسائي وابن محيصن وابن هبيرة بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو، وقرأ الباقون بالإظهار، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل. وقرأ ابن عامر ونضر وابن إسحاق بكسرها على إضمار القسم، أو لأجل التقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السميفع وهارون بضمها على البناء. قال مجاهد ومقاتل والسدي: هو الحوت الذي يحمل الأرض وبه قال مرة الهمذاني وعطاء الخرساني والكلبي. وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن. وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله به. وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هي النون من نصر وناصر. قال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره المؤمنين، وقيل هو حرف من حروف الهجاء، كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك، وقد عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة، والواو في قوله: "والقلم" واو القسم، أسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به، وقال جماعة من المفسرين: المراد به القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيماً له. قال قتادة: القلم من نعمة الله على عباده "وما يسطرون" ما موصولة: أي والذي يسطرون، والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره، لأن ذكر آلة الكتابة تدل على الكاتب. والمعنى: والذي يسطرون: أي يكتبون كل ما يكتب، أو الحفظة على ما تقدم. ويجوز أن تكون ما مصدرية: أي وسطرهم، وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء.
وجواب القسم قوله: 2- "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" ما نافية، وأنت اسمها، وبمجنون خبرها. قال الزجاج: أنت هو اسم ما، وبمجنون خبرها، وقوله: "بنعمة ربك" كلام وقع في الوسط: أي انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال أنت بحمد الله عاقل، قيل الباء متعلقة بمضمر هو حال، كأنه قيل أنت بريء من الجنون ملتبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة. وقيل الباء للقسم: أي وما أنت ونعمة ربك بمجنون. وقيل النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون".
3- "وإن لك لأجراً" أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة ، وقاسيت من أنواع الشدائد " غير ممنون " أي غير مقطوع، يقال مننت الحبل إذا قطعته. وقال مجاهد: غير ممنون غير محسوب، وقال الحسن: غير ممنون غير مكدر بالمن. وقال الضحاك: أجراً بغير عمل، وقيل غير مقدر، وقيل غير ممنون به عليك من جهة الناس.
4- "وإنك لعلى خلق عظيم" قيل هو الإسلام والدين، حكى هذا الواحدي عن الأكثرين. وقيل هو القرآن، روي هذا عن الحسن والعوفي. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله. قال الزجاج: المعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن، وقيل هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المعنى: إنك على طبع كريم. قال الماوردي: وهذا هو الظاهر، وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، وهذه الجملة والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم.
5- "فستبصر ويبصرون" أي ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء وذلك يوم القيامة.
6- " بأيكم المفتون " الباء زائدة للتأكيد: أي أيكم المفتون بالجنون، كذا قال الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما، ومثله قول الشاعر: نحن بنو جعدة أصحاب العلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقيل ليست الباء زائدة، والمفتون مصدر جاء على مفعول، كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتون أو الفتنة، ومنه قول الشاعر الراعي: حتـى إذا لـم يتركوا لعظـامـه لحمــاً ولا لــفـؤاده معــقــولاً أي عقلاً. وقال الفراء: إن الباء بمعنى في: أي في أيكم المفتون، أفي الفريق الذي أنت فيه، أم في الفريق الآخر؟ ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة في أيكم المفتون، وقيل الكلام على حذف مضاف: أي بأيكم فتن المفتون، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، روي هذا عن الأخفش أيضاً. وقيل المفتون المعذب، من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته، ومنه قوله: " يوم هم على النار يفتنون "، وقيل المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه، والمعنى: بأيكم الشيطان. وقال قتادة: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى: ستر ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون.
وجملة 7- "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله" تعليل للجملة التي قبلها، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما، والمعنى: هو أعلم بمن ضل عن سبيله الموصول إلى سعادة الدارين "وهو أعلم بالمهتدين" إلى سبيله الموصول إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة، فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
8- "فلا تطع المكذبين" نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة، لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه، فنهاه الله عن طاعتهم، أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار، أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير.
فنهاه الله عن ذلك كما يدل عليه قوله: 9- "ودوا لو تدهن فيدهنون" فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة. قال الفراء: المعنى لو تلين فيلينوا لك، وكذا قال الكلبي. وقال الضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون مع. وقال الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد: ودوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك. قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعيد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة، وقوله: فيدهنون عطف على تدهن داخل في حيز لو، أو هو خبر مبتدأ محذوف: أي فهم يدهنون. قال سيبويه: وزعم قالون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا بدون نون، والنصب على جواب التمني المفهوم من ودوا، والظاهر من اللغة في معنى الإدهان هو ما ذكرناه أولاً.
10- "ولا تطع كل حلاف" أي كثير الحلف بالباطل "مهين" فعيل من المهانة، وهي القلة في الرأي والتمييز. وقال مجاهد: هو الكذاب. وقال قتادة: المكثار في الشر، وكذا قال الحسن. وقيل هو الفاجر العاجز، وقيل هو الحقير عند الله، وقيل هو الذليل، وقيل هو الوضيع.
11- "هماز مشاء بنميم" الهماز المغتاب للناس. قال ابن زيد: هو الذي يهمز بأخيه، وقيل الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح، وقال مقاتل عكس هذا. والمشاء بنميم: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال نم ينم: إذا سعى بالفساد بين الناس، ومنه قول الشاعر: ومولى كبيت النمل لا خير عنده لمولاه إلا سعيه بنميم وقيل النميم جمع نيمية.
12- "مناع للخير" أي بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه، وقيل هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام. قال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً "معتد أثيم" أي متجاوز الحد في الظلم كثير الإثم.
13- "عتل" قال الواحدي: المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق. وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي. وقال الليث: هو الأكول المنوع، يقال عتلت الرجل أعتله: إذا جذبته جذباً عنيفاً، ومنه قول الشاعر: نقرعه قرعاً ولسنا نعتله "بعد ذلك زنيم" أي هو بعد ما عد من معايبه زنيم، والزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس هو منهم، مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة، أو الماعز، ومنه قول حسان: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وقال سعيد بن جبير: الزنيم المعروف بالشر، وقيل هو من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة، وقيل هو الظلوم.
14- "أن كان ذا مال وبنين" متعلق بقوله: لا تطع أي لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين. قال الفراء والزجاج: أي لأن كان، والمعنى: لا تطعه لماله وبنيه. قرأ ابن عامر وأبو جعفر والمغيرة وأبو حيوة " أن كان " بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضل " أن كان ": بهمزتين مخففتين، وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر، وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله. وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط.
15- "إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين" مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي، وقد تقدم معنى أساطير الأولين في غير موضع.