تفسير الطبري تفسير الصفحة 314 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 314
315
313
 الآية : 36 -38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَمُوسَىَ * وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرّةً أُخْرَىَ * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّكَ مَا يُوحَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال الله لـموسى صلى الله عليه وسلم: قد أعطيت ما سألت يا موسى ربك من شرحه صدرك وتـيسيره لك أمرك, وحلّ عقدة لسانك, وتصيـير أخيك هارون وزيرا لك, وشدّ أزرك به, وإشراكه فـي الرسالة معك وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَـيْكَ مَرّةً أُخُرَى يقول تعالـى ذكره: ولقد تطوّلنا علـيك يا موسى قبل هذه الـمرّة مرّة أخرى, وذلك حين أوحينا إلـى أمك, إذ ولدتك فـي العام الذي كان فرعون يقتل كلّ مولود ذكر من قومك ما أوحينا إلـيها ثم فسّر تعالـى ذكره ما أوحى إلـى أمه, فقال: هو أن اقذفـيه فـي التابوت فأن فـي موضع نصب ردّا علـى «ما» التـي فـي قوله: ما يُوحَى, وترجمة عنها.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد مننا علـيك يا موسى مرّة أخرى حين أوحينا إلـى أمك, أن اقذفـي ابنك موسى حين ولدتك فـي التابوت فـاقْذِفِـيهِ فِـي الـيَـمّ يعنـي بـالـيـم: النـيـل فَلْـيُـلْقِهِ الـيَـمّ بـالساحِلِ يقول: فـاقذفـيه فـي الـيـم, يـلقه الـيـم بـالساحل, وهو جزاء أخرج مخرج الأمر, كأن الـيـم هو الـمأمور, كما قال جلّ ثناؤه: اتّبِعُوا سَبِـيـلَنَا ولْنَـحْمِلْ خَطَاياكُمْ يعنـي: اتبعوا سبـيـلنا نـحمل عنكم خطاياكم, ففعلت ذلك أمه به فألقاه الـيـم بـمَشْرَعة آل فرعون, كما:
18183ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما ولدت موسى أمه أرضعته, حتـى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إلـيه, فصنعت به ما أمرها الله تعالـى, جعلته فـي تابوت صغير, ومهدت له فـيه, ثم عمدت إلـى النـيـل فقذفته فـيه, وأصبح فرعون فـي مـجلس له كان يجلسه علـى شفـير النـيـل كلّ غداة, فبـينا هو جالس, إذ مرّ النـيـل بـالتابوت فقذف به وآسية ابنة مُزَاحم امرأته جالسة إلـى جنبه, فقال: إن هذا لشيء فـي البحر, فأتونـي به, فخرج إلـيه أعوانه حتـى جاءوا به, ففتـح التابوت فإذا فـيه صبـيّ فـي مهده, فألقـى الله علـيه مـحبته, وعطف علـيه نفسه. وعنى جلّ ثناؤه بقوله: يأْخُذْهُ عَدُوّ لـي وَعَدُوّ لَهُ فرعون هو العدوّ, كان لله ولـموسى.
18184ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: فـاقْذِفِـيهِ فِـي الـيَـمّ وهو البحر, وهو النـيـل.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمـحبة التـي قال الله جلّ ثناؤه وألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً مِنّـي فقال بعضهم: عنى بذلك أنه حببه إلـى عبـاده. ذكر من قال ذلك:
18185ـ حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصدائي والعبـاس بن مـحمد الدوري, قالا: حدثنا حسين الـجعفـي عن موسى بن قبس الـحضرمي, عن سلـمة بن كهيـل, فـي قول الله: وألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً منّـي قال عبـاس: حببتك إلـى عبـادي وقال الصّدَائي: حببتك إلـى خـلقـي.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أي حسنت خـلقك. ذكر من قال ذلك:
18186ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي إبراهيـم بن مهدي, عن رجل, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قوله: وألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً منّـي قال: حسنا وملاحة.
قال أبو جعفر: والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله ألقـى مـحبته علـى موسى, كما قال جلّ ثناؤه وألْقَـيْتَ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً مِنّـي فحببه إلـى آسية امرأة فرعون, حتـى تبنّته وغذّته وربّته, وإلـى فرعون, حتـى كفّ عنه عاديته وشرّه. وقد قـيـل: إنـما قـيـل: وألقـيت علـيك مـحبة منـي, لأنه حببه إلـى كل من رآه. ومعنى ألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً مِنّـي حببتك إلـيهم يقول الرجل لاَخر إذا أحبه: ألقـيت علـيك رحمتـي: أي مـحبتـي.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي فقال بعضهم: معناه: ولتغذى وتربى علـى مـحبتـي وإرادتـي. ذكر من قال ذلك:
18187ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: ولِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي قال: هو غذاؤه, ولتُغذى علـى عينـي.
18188ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي قال: جعله فـي بـيت الـملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الـملك, فتلك الصنعة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت بعينـي فـي أحوالك كلها. ذكر من قال ذلك:
18189ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي قال: أنت بعينـي إذ جعلتك أمك فـي التابوت, ثم فـي البحر, و إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ. وقرأ ابن نهيك: «وَلِتَصْنَعَ» بفتـح التاء. وتأوّله كما:
18190ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نهيك يقرأ «وَلِتَصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي» فسألته عن ذلك, فقال: ولتعمل علـى عينـي.
قال أبو جعفر: والقراءة التـي لا أستـجيز القراءة بغيرها وَلِتُصْنَعَ بضم التاء, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. وإذا كان ذلك كذلك, فأولـى التأويـلـين به, التأويـل الذي تأوّله قَتادَة, وهو: وَألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبّةً مِنّـي ولتغذى علـى عينـي, ألقـيت علـيك الـمـحبة منـي. وعنى بقوله: عَلـى عَيْنِـي بـمرأى منـي ومـحبة وإرادة.
وقوله: إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلـى مَنْ يَكْفُلُهُ يقول تعالـى ذكره: حين تـمشي أختك تتبعك حتـى وجدتك, ثم تأتـي من يطلب الـمراضع لك, فتقول: هل أدلكم علـى من يكلفه؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ استغناء بدلالة الكلام علـيه. وإنـما قالت أخت موسى ذلك لهم لِـما:
18191ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما ألقته أمه فـي الـيـم قالَتْ لاِخْتِهِ قُصّيهِ فلـما التقطه آل فرعون, وأرادوا له الـمرضعات, فلـم يأخذ من أحد من النساء, وجعل النساء يطلبن ذلك لـينزلن عند فرعون فـي الرضاع, فأبى أن يأخذ, فقالت أخته: هَلْ أدُلّكُمْ عَلـى أهْلِ بَـيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟ فأخذوها وقالوا: بل قد عرفِت هذا الغُلام, فدلّـينا علـى أهله, قالت: ما أعرفه, ولكن إنـما قلت هم للـملك ناصحون.
18192ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: قالت, يعنـي أمّ موسى لأخته: قصّيه فـانظري ماذا يفعلون به, فخرجت فـي ذلك فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وقد احتاج إلـى الرضاع والتـمس الثدي, وجمعوا له الـمراضع حين ألقـى الله مـحبتهم علـيه, فلا يؤتـى بـامرأة, فـيقبل ثديها, فـيرمضهم ذلك, فـيؤتـى بـمرضع بعد مرضع, فلا يقبل شيئا منهم, فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم علـيه هَلْ أدُلّكُمْ عَلـى أهْلِ بَـيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي لـمنزلته عندكم وحرصكم علـى مسرّة الـملك, وعنى بقوله: هَلْ أدُلّكُمْ عَلـى مَنْ يَكْفُلُهُ هل أدلكم علـى من يضمه إلـيه فـيحفظه ويرضعه ويربـيه. وقـيـل: معنى وكَفّلَها زَكَرِيّا ضمها.
وقوله: فَرَجَعْناكَ إلـى أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلا تَـحْزَن يقول تعالـى ذكره: فرددناك إلـى أمك بعد ما صرت فـي أيدي آل فرعون, كيـما تقرّ عينها بسلامتك ونـجاتك من القتل والغرق فـي الـيـم, وكيلا تـحزن علـيك من الـخوف من فرعون علـيك أن يقتلك, كما:
18193ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما قالت أخت موسى لهم ما قالت, قالوا: هات, فأتت أمه فأخبرتها, فـانطلقت معها حتـى أتتهم, فناولوها إياه فلـما وضعته فـي حجرها أخذ ثديها, وسرّوا بذلك منه, وردّه الله إلـى أمه كي تقرّ عينها, ولا تـحزن, فبلغ لطف الله لها وله, أن ردّ علـيها ولدها وعطف علـيها نفع فرعون وأهل بـيته مع الأمنة من القتل الذي يتـخوف علـى غيره, فكأنهم كانوا من أهل بـيت فرعون فـي الأمان والسعة, فكان علـى فرش فرعون وسرره.
وقوله: وَقَتَلْتَ نَفْسا يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه علـيه الإسرائيـلـي, فوكزه موسى. وقوله: فَنَـجّيْناكَ مِنَ الغَمّ يقول تعالـى ذكره: فنـجيناك من غمك بقتلك النفس التـي قتلت, إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخـلصناك منهم, حتـى هربت إلـى أهل مدين, فلـم يصلوا إلـى قتلك وقودك. وكان قتله إياه فـيـما ذُكر خطأ, كما:
18194ـ حدثنـي واصل بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أبـيه, عن سالـم, عن عبد الله بن عمر, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّـمَا قَتَلَ مُوسَى الّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطأ, فقال اللّهُ لَهُ: وَقَتَلْتَ نَفْسا فَنَـجَيّنْاكَ مِنَ الغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُونا».
18195ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة, ومـحمد بن عمرو, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَنَـجّيْناك مِنَ الغَمّ قال: من قتل النفس.
18196ـ حدثنا بِشْر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَنَـجّيْناكَ مِنَ الغَمّ النفس التـي قتل.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله وَفَتَنّاكَ فُتُونا فقال بعضهم: ابتلـيناك ابتلاء واختبرناك اختبـارا. ذكر من قال ذلك:
18197ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَفَتَنّاكَ فُتُونا يقول: اختبرناك اختبـارا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, وَفَتَنّاكَ فُتُونا قال: ابتلـيت بلاء.
18198ـ حدثنـي العبـاس بن الولـيد الاَملـي, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا أصبغ بن زيد الـجهنـي, قال: أخبرنا القاسم بن أيوب, قال: ثنـي سعيد بن جبـير, قال: سألت عبد الله بن عبـاس, عن قول الله لـموسى وَفَتَنّاكَ فُتُونا فسألته علـى الفتون ما هي؟ فقال لـي: استأنف النهار يا بن جبـير, فإن لها حديثا طويلاً, قال: فلـما أصبحت غدوت علـى ابن عبـاس لأنتـجز منه ما وعدنـي, قال: فقال ابن عبـاس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيـم أن يجعل فـي ذرّيته أنبـياء وملوكا, فقال بعضهم: إن بنـي إسرائيـل ينتظرون ذلك وما يشكون, ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلـما هلك قالوا: لـيس هكذا كان الله وعد إبراهيـم, فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتـمروا بـينهم, وأجمعوا أمرهم علـى أن يبعث رجالاً معهم الشفـار يطوفون فـي بنـي إسرائيـل, فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه فلـما رأوا أن الكبـار من بنـي إسرائيـل يـموتون بآجالهم, وأن الصغار يذبحون قالوا: يوشك أن تفنوا بنـي إسرائيـل, فتصيرون إلـى أن تبـاشروا من الأعمال والـخدمة التـي كانوا يكفونكم, فـاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر, فـيقلّ أبناؤهم, ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا, فتشبّ الصغار مكان من يـموت من الكبـار, فإنهم لن يكثروا بـمن تستـحيون منهم, فتـخافون مكاثرتهم إياكم, ولن يقلوا بـمن تقتلون, فأجمعوا أمرهم علـى ذلك.
فحملت أمّ موسى بهارون فـي العام الـمقبل الذي لا يذبح فـيه الغلـمان, فولدته علانـية آمنة, حتـى إذا كان العام الـمقبل حملت بـموسى, فوقع فـي قلبها الهمّ والـحزن, وذلك من الفتون يا ابن جبـير, مـما دخـل علـيه فـي بطن أمه مـما يراد به, فأوحى الله إلـيها ألاّ تَـخافِـي وَلا تَـحْزَنِـي إنّا رَادّوهُ إلَـيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الـمُرْسَلِـينَ, وأمرها إذا ولدته أن تـجعله فـي تابوت ثم تلقـيه فـي الـيـم فلـما ولدته فعلت ما أمرت به, حتـى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبلـيس, فقالت فـي نفسها: ما صنعت بـابنـي لو ذبح عندي, فواريته وكفنته كان أحبّ إلـيّ من أن ألقـيه بـيدي إلـى حيتان البحر ودوابه, فـانطلق به الـماء حتـى أوفـى به عند فرضة مستقـى جواري آل فرعون, فرأينه فأخذنه, فهمـمن أن يفتـحن البـاب, فقال بعضهنّ لبعض: إن فـي هذا مالاً, وإنا إن فتـحناه لـم تصدّقنا امرأة فرعون بـما وجدنا فـيه, فحملنه كهيئته لـم يحرّكن منه شيئا, حتـى دفعنه إلـيها فلـما فتـحته رأت فـيه الغلام, فأُلقـي علـيه منها مـحبة لـم يُـلق مثلها منها علـى أحد من الناس وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فـارِغا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى.
فلـما سمع الذبّـاحون بأمره أقبلوا إلـى امرأة فرعون بشفـارهم يريدون أن يذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جُبـير فقالت للذبـاحين: انصرفوا عنـي, فإن هذا الواحد لا يزيد فـي بنـي إسرائيـل, فآتـي فرعون فأستوهبه إياه, فإن وهبه لـي كنتـم قد أحسنتـم وأجملتـم, وإن أمر بذبحه لـم ألـمكم. فلـما أتت به فرعون قالت: قرّةُ عَينٍ لِـي وَلَكَ قال فرعون: يكون لك, وأما أنا فلا حاجة لـي فـيه. فقال: والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به, لهداه الله به كما هدى به امرأته, ولكن الله حرمه ذلك. فأرسلت إلـى من حولها من كلّ أنثى لها لبن, لتـختار له ظِئرا, فجعل كلـما أخذته امرأة منهم لترضعه لـم يقبل ثديها, حتـى أشفقت امرأة فرعون أن يـمتنع من اللبن فـيـموت, فحزنها ذلك, فأمرت به فأخرج إلـى السوق مـجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها, فلـم يقبل من أحد.
وأصبحت أمّ موسى, فقالت لأخته: قُصّيه واطلبـيه, هل تسمعين له ذكرا, أحيّ ابنـي, أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها, فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون, فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات: أنا أدلكم علـى أهل بـيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون, فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتـى شكوا فـي ذلك, وذلك من الفتون يا ابن جُبـير فقالت: نصحهم له وشفقتهم علـيه, رغبتهم فـي ظؤورة الـملك, ورجاء منفعته, فتركوها فـانطلقت إلـى أمها فأخبرتها الـخبر, فجاءت فلـما وضعته فـي حجرها نزا إلـى ثديها حتـى امتلأ جنبـاه, فـانطلق البُشَراء إلـى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا, فأرسلت إلـيها, فأتـيت بها وبه فلـما رأت ما يصنع بها قالت: امكثـي عندي حتـى ترضعي ابنـي هذا فإنـي لـم أحبّ حبه شيئا قطّ قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بـيتـي وولدي, فـيضيع, فإن طابت نفسك أن تعطينـيه, فأذهب به إلـى بـيتـي فـيكون معي لا آلوه خيرا فعلت, وإلا فإنـي غير تاركة بـيتـي وولدي وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها, فتعاسرت علـى امرأة فرعون, وأيقنت أن الله تبـارك وتعالـى منـجز وعده, فرجعت بـابنها إلـى بـيتها من يومها, فأنبته الله نبـاتا حسنا, وحفظه لـما قضى فـيه, فلـم يزل بنو إسرائيـل وهم مـجتـمعون فـي ناحية الـمدينة يـمتنعون به من الظلـم والسخرة التـي كانت فـيهم.
فلـما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيرينـي ابنـي. فوعدتها يوما تزيرها إياه فـيه, فقالت لـخواصّها وظؤورتها وقهارمتها: لا يبقـينّ أحد منكم إلا استقبل ابنـي بهدية وكرامة لـيرى ذلك, وأنا بـاعثة أمينة تـحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسان منكم فلـم تزل الهدية والكرامة والتـحف تستقبله من حين خرج من بـيت أمه إلـى أن دخـل علـى امرأة فرعون. فلـما دخـل علـيها نـحلته وأكرمته, وفرحت به, وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها علـيه, وقالت: انطلقن به إلـى فرعون, فلـينـحله, ولـيكرمه. فلـما دخـلوا به علـيه جعلته فـي حجره, فتناول موسى لـحية فرعون حتـى مدّها, فقال عدوّ من أعداء الله: ألا ترى ما وعد الله إبراهيـم أنه سيصرعك ويعلوك, فأرسِلْ إلـى الذبـاحين لـيذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جُبـير, بعد كلّ بلاء ابتلـي به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلـى فرعون, فقالت: ما بدا لك فـي هذا الصبـيّ الذي قد وهبته لـي؟ قال: ألا ترين يزعم أنه سيصرعنـي ويعلونـي, فقالت: اجعل بـينـي وبـينك أمرا تعرف فـيه الـحقّ, ائت بجمرتـين ولؤلؤتـين, فقرّبهنّ إلـيه, فإن بطش بـاللؤلؤتـين واجتنب الـجمرتـين علـمت أنه يعقل وإن تناول الـجمرتـين ولـم يرد اللؤلؤتـين, فـاعلـم أن أحدا لا يؤثر الـجمرتـين علـى اللؤلؤتـين وهو يعقل, فقرّب ذلك إلـيه, فتناول الـجمرتـين, فنزعوهما منه مخافة أن تـحرقا يده, فقالت الـمرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به, وكان الله بـالغا فـيه أمره.
فلـما بلغ أشدّه, وكان من الرجال, لـم يكن أحد من آل فرعون يخـلص إلـى أحد من بنـي إسرائيـل معه بظلـم ولا سخرة, حتـى امتنعو كلّ امتناع. فبـينـما هو يـمشي ذات يوم فـي ناحية الـمدينة, إذ هو برجلـين يقتتلان, أحدهما من بنـي إسرائيـل, والاَخر من آل فرعون, فـاستغاثه الإسرائيـلـي علـى الفرعونـي, فغضب موسى واشتدّ غضبه, لأنه تناوله وهو يعلـم منزلة موسى من بنـي إسرائيـل, وحفظه لهم, ولا يعلـم الناس إلا أنـما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى, إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك علـى ما لـم يطلع علـيه غيره فوكز موسى الفرعونـي فقتله, ولـيس يراهما أحد إلا الله والإسرائيـلـي, فقال موسى حين قتل الرجل: هَذَا مِنْ عَمَل الشّيْطانِ إنّه عَدوّ مُضلّ مُبِـينٌ ثم قال: رَبّ إنّـي ظَلَـمْتُ نَفْسِي فـاغْفِرْ لِـي فَغَفَرَ لَهُ إنهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيـم فأصْبَحَ فِـي الـمَدِينَةِ خائِفـا يَتَرَقّبُ الأخبـار, فأتـى فرعون, فقـيـل له: إن بنـي إسرائيـل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون, فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فـي ذلك, فقال: ابغونـي قاتله ومن شهد علـيه, لأنه لا يستقـيـم أن يقضي بغير بـيّنه ولا ثبت, فطلبوا له ذلك فبـينـما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتا, إذ مرّ موسى من الغد, فرأى ذلك الإسرائيـلـي يقاتل فرعونـيا, فـاستغاثه الإسرائيـلـي علـى الفرعونـي, فصادف موسى وقد ندم علـى ما كان منه بـالأمس وكره الذي رأى, فغضب موسى, فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بـالفرعونـي, قال للإسرائيـلـي لـما فعل بـالأمس والـيوم إنّكَ لَغَوِيّ مُبِـينٌ فنظر الإسرائيـلـي موسى بعد ما قال, فإذا هو غضبـان كغضبه بـالأمس الذي قتل فـيه الفرعونـي, فخاف أن يكون بعد ما قال له إنّكَ لَغَوِيّ مُبِـينٌ أن يكون إياه أراد, ولـم يكن أراده, وإنـما أراد الفرعونـي, فخاف الإسرائيـلـي, فحاجز الفرعونـي فقال: يا مُوسَى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِـي كمَا قَتَلْتَ نَفْسا بـالأَمْسِ وإنـما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى لـيقتله, فتتاركا فـانطلق الفرعونـي إلـى قومه, فأخبرهم بـما سمع من الإسرائيـلـي من الـخبر حين يقول: أتريد أن تقتلنـي كما قتلت نفسا بـالأمس؟ فأرسل فرعون الذبـاحين, فسلك موسى الطريق الأعظم, فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى الـمدينة, فـاختصر طريقا قريبـا حتـى سبقهم إلـى موسى, فأخبره الـخبر, وذلك من الفتون يا ابن جُبـير.
18199ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فُتُونا قال: بلاءً, إلقاؤه فـي التابوت, ثم فـي البحر, ثم التقاط آل فرعون إياه, ثم خروجه خائفـا.
قال مـحمد بن عمرو, وقال أبو عاصم: خائفـا, أو جائعا «شكّ أبو عاصم», وقال الـحارث: خائفـا يترقب, ولـم يشكّ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله وَقال: خَائِفـا يَتَرقّبُ, ولـم يشكّ.
18200ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَفَتَنّاكَ فُتُونا يقول: ابتلـيناك بلاءً.
18201ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَفَتَنّاكَ فُتُونا هو البلاء علـى إثر البلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخـلصناك. ذكر من قال ذلك:
18202ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَفَتَنّاكَ فُتُونا أخـلصناك إخلاصا.
18203ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن يعلـى بن مسلـم, قال: سمعت سعيد بن جُبـير, يفسّر هذا الـحرف: وَفَتَنّاكَ فُتُونا قال: أخـلصناك إخلاصا.
قال أبو جعفر: وقد بـيّنا فـيـما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة, وأنها الابتلاء والاختبـار بـالأدلة الـمُغنـية عن الإعادة فـي هذا الـموضع.
وقوله: فَلَبِثْتَ سِنِـينَ فِـي أهْلِ مَدْيَنَ وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تـمامه اكتفـاء بدلالة ما ذكر عم حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا, فخرجت خائفـا إلـى أهل مدين, فلبثت سنـين فـيهم.
وقوله: ثُمّ جِئْتَ عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلـى فرعون رسولاً ولـمقداره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18204ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ثُمّ جئْتَ عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى يقول: لقد جئت لـميقات يا موسى.
18205ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن مـجاهد, قال: عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى قال: موعد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قال: علـى ذي موعد.
18206ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى قال: قدر الرسالة والنبوّة.
والعرب تقول: جاء فلان علـى قدر: إذا جاء لـميقات الـحاجة إلـيه ومنه قول الشاعر:
نالَ الـخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَراكمَا أتَـى رَبّهُ مُوسعى عَلـى قَدَرِ
الآية : 41 - 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أنعمت علـيك يا موسى هذه النعم, ومننت علـيك هذه الـمنن, اجتبـاء منـي لك, واختـيارا لرسالتـي والبلاغ عنـي, والقـيام بأمري ونهيـي اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ هارون بِآياتـي يقول: بأدلتـي وحججي, اذهبـا إلـى فرعون بها إنه تـمرّد فـي ضلاله وغيه, فأبلغه رسالاتـي وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْري يقول: ولا تضعفـا فـي أن تذكرانـي فـيـما أمرتكما ونهيتكما, فإن ذكركما إيّاي يقوّي عزائمكما, ويثبت أقدامكما, لأنكما إذا ذكرتـمانـي, ذكرتـما مَنّـي علـيكما نِعَما جمّة, ومِنَنا لا تـحصى كثرة. يقال منه: وَنى فلان فـي هذا الأمر, وعن هذا الأمر: إذا ضعف, وهو يَنِـي وَنْـيا كما قال العجاج:
فَمَا وَنى مُـحَمّدٌ مُذْ أنْ غَفَرْلَهُ الإلهُ ما مَضَى وَما غَبَرْ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18207ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا تَنِـيا يقول: لا تبطئا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي يقول: ولا تضعفـا فـي ذكري.
18202حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي قال: لا تضعفـا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد تَنـيا تضعفـا.
18208ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي يقول: لا تضعفـا فـي ذكري.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي قال: لا تضعفـا.
18209ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي يقول: لا تضعفـا.
18210ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلا تَنِـيا فِـي ذِكْرِي قال: الوانـي: هو الغافل الـمفرط, ذلك الوانـي.

الآية : 44 - 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ * قَالاَ رَبّنَآ إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لـموسى وهارون: فقولا لفرعون قولاً لـيّنا. ذُكر أن القول اللـين الذي أمرهما الله أن يقولاه له, هو أن يكنـياه.
18211ـ حدثنـي جعفر ابن ابنة إسحاق بن يوسف الأزرق, قال: حدثنا سعيد بن مـحمد الثقـفـي, قال: حدثنا علـيّ بن صالـح, عن السديّ: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَـيّنا قال: كنـياه.
وقوله: لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أوْ يَخْشَى اختلف فـي معنى قوله: لَعَلّهُ فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم معناها ههنا الاستفهام, كأنهم وجهوا معنى الكلام إلـى: فقولا له قولا لـينا, فـانظرا هل يتذكر ويراجع أو يخشى الله فـيرتدع عن طغيانه. ذكر من قال ذلك:
18212ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أوْ يَخْشَى يقول: هل يتذكر أو يخشى.
وقال آخرون: معنى لعلّ ههنا كي. ووجّهوا معنى الكلام إلـى اذهبَـا إلـى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى فـادعواه وعظاه لـيتذكر أو يخشى, كما يقول القائل: اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك, بـمعنى: لتأخذ أجرك, وافرغ من عملك لعلنا نتغدّى, بـمعنى: لنتغدى, أو حتـى نتغدى, ولكلا هذين القولـين وجه حسن, ومذهب صحيح.
وقوله: قالا رَبّنا إنّنا نَـخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَـيْنا يقول تعالـى ذكره: قال موسى وهارون: ربنا إننا نـخاف فرعون إن نـحن دعوناه إلـى ما أمرتنا أن ندعوه إلـيه, أن يعجل علـينا بـالعقوبة وهو من قولهم: فرط منـي إلـى فلان أمر: إذا سبق منه ذلك إلـيه, ومنه: فـارط القوم, وهو الـمتعجل الـمتقدّم أمامهم إلـى الـماء أو الـمنزل كما قال الراجز:
قَدْ فَرَط العِلْـجُ عَلَـيْنا وَعَجِلْ
وأما الإفراط: فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي. يقال منه: أفرطت فـي قولك: إذا أسرف فـيه وتعدّى. وأما التفريط: فإنه التوانـي. يقال منه: فرّطت فـي هذا الأمر حتـى فـات: إذا توانى فـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18213ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أنْ يَفْرُطَ عَلَـيْنا قال: عقوبة منه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
18214ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّنا نَـخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَـيْنا أوْ أنْ يَطْغَى قال: نـخاف أن يعجل علـينا إذ نبلغه كلامك أو أمرك, يفرط ويعجل. وقرأ لا تَـخافـا إنّنـي مَعَكُما أسمَعُ وأرَى.

الآية : 46 و 47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ * فَأْتِيَاهُ فَقُولآ إِنّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رّبّكَ وَالسّلاَمُ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ }.
يقول الله تعالـى ذكره: قال الله لـموسى وهارون: لا تَـخافـا فرعون إنّنِـي مَعَكُما أعينكما علـيه, وأبصركما أسمَعُ ما يجري بـينكما وبـينه, فأفهمكما ما تـحاورانه به وأرَى ما تفعلان ويفعل, لا يخفـى علـيّ من ذلك شيء فَأْتِـياهُ فَقُولا له إنّا رَسُولا رَبّكَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18215ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج قالَ لا تَـخافـا إنّنِـي مَعَكُما أسَمَعُ وأرَى ما يحاوركما, فأوحي إلـيكما فتـجاوبـانه.
وقوله: فَأْتِـياهُ فَقُولا إنّا رَسُولا رَبّكَ أرسلنا إلـيك يأمرك أن ترسل معنا بنـي إسرائيـل, فأرسلهم معنا ولا تعذّبهم بـما تكلفهم من الأعمال الرديئة قَدْ جِئْناكَ بآيَةٍ معجزة مِنْ رَبّكَ علـى أنه أرسلنا إلـيك بذلك, إن أنت لـم تصدّقنا فـيـما نقول لك أريناكها, والسّلامُ عَلـى مَنِ اتّبَعَ الهُدَى يقول: والسلامة لـمن اتبع هدى الله, وهو بـيانه. يقال: السلام علـى من اتبع الهدى, ولـمن اتبع بـمعنى واحد.
الآية : 48 - 50
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنّ الْعَذَابَ عَلَىَ مَن كَذّبَ وَتَوَلّىَ * قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَمُوسَىَ * قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لرسوله موسى وهارون: قولا لفرعون إنا قد أوحى إلـينا ربك أن عذابه الذي لا نفـاد له, ولا انقطاع علـى من كذب بـما ندعوه إلـيه من توحيد الله وطاعته, وإجابة رسله وَتَوّلـى يقول: وأدبر مُعرضا عما جئناه به من الـحقّ, كما:
18216ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أنّ العَذَابَ عَلـى مَنْ كَذّبَ وَتَوَلّـى كذّب بكتاب الله, وتولـى عن طاعة الله.
وقوله: قالَ فَمَنْ رَبّكُما يا مُوسَى فـي هذا الكلام متروك, ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر علـيه عنه, وهو قوله: فَأْتِـياهُ فقالا له ما أمرهما به ربهما وأبلغاه رسالته, فقال فرعون لهما فَمَنْ رَبّكُما يا مُوسَى فخاطب موسى وحده بقوله: يا موسى, وقد وجه الكلام قبل ذلك إلـى موسى وأخيه. وإنـما فعل ذلك كذلك, لأن الـمـجاوبة إنـما تكون من الواحد وإن كان الـخطاب بـالـجماعة لا من الـجميع, وذلك نظير قوله: نَسِيا حُوَتُهما وكان الذي يحمل الـحوت واحد, وهو فتـى موسى, يدلّ علـى ذلك قوله: إنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ وَما أنْسانِـيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ.
وقوله: قالَ رَبّنا الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى يقول تعالـى ذكره: قال موسى له مـجيبـا: ربنا الذي أعطى كلّ شيء خـلقه, يعنـي: نظير خـلقه فـي الصورة والهيئة كالذكور من بنـي آدم, أعطاهم نظير خـلقهم من الإناث أزواجا, وكالذكور من البهائم, أعطاها نظير خـلقها, وفـي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا, فلـم يعط الإنسان خلاف خـلقه, فـيزوّجه بـالإناث من البهائم, ولا البهائم بـالإناث من الإنس, ثم هداهم للـمأتـي الذي منه النسل والنـماء كيف يأتـيه, ولسائر منافعه من الـمطاعم والـمشارب, وغير ذلك.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: بنـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
18217ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى يقول: خـلق لكلّ شيء زوجة, ثم هداه لـمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده.
18218ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قالَ رَبّنا الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى يقول: أعطى كلّ دابة خـلقها زوجا, ثم هدى للنكاح.
وقال آخرون: معنى قوله ثُمّ هَدَى أنه هداهم إلـى الأُلفة والاجتـماع والـمناكحة. ذكر من قال ذلك:
18219ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى يعنـي: هدى بعضهم إلـى بعض, ألّف بـين قلوبهم وهداهم للتزويج أن يزوّج بعضهم بعضا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أعطى كلّ شيء صورته, وهي خـلقه الذي خـلقه به, ثم هداه لـما يُصلـحه من الاحتـيال للغذاء والـمعاش. ذكر من قال ذلك:
18220ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى قال: أعطى كلّ شيء صورته ثم هدى كلّ شيء إلـى معيشته.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى قال: سوّى خـلق كلّ دابة, ثم هداها لـما يُصلـحها, فعلّـمها إياه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: رَبّنا الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى قال: سوّى خـلق كلّ دابة ثم هداها لـما يُصلـحها وعلّـمها إياه, ولـم يجعل الناس فـي خـلق البهائم, ولا خـلق البهائم فـي خـلق الناس, ولكن خـلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حميد عن مـجاهد أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى قال: هداه إلـى حيـلته ومعيشته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعطى كلّ شيء ما يُصلـحه, ثم هداه له. ذكر من قال ذلك:
18221ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ قال: أعطى كلّ شيء ما يُصلـحه. ثم هداه له.
قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك, لأنه جلّ ثناؤه أخبر أنه أعطى كلّ شيء خـلقه, ولا يعطي الـمعطي نفسه, بل إنـما يعطي ما هو غيره, لأن العطية تقتضي الـمعطي الـمُعطَى والعطية, ولا تكون العطية هي الـمعْطَى, وإذا لـم تكن هي هو, وكانت غيره, وكانت صورة كلّ خـلق بعض أجزائه, كان معلوما أنه إذا قـيـل: أعطى الإنسان صورته, إنـما يعنـي أنه أعطى بعض الـمعانـي التـي به مع غيره دعي إنسانا, فكأن قائله قال: أعطى كلّ خـلق نفسه, ولـيس ذلك إذا وجه إلـيه الكلام بـالـمعروف من معانـي العطية, وإن كان قد يحتـمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك, فـالأصوب من معانـيه أن يكون موجها إلـى أن كلّ شيء أعطاه ربه مثل خـلقه, فزوّجه به, ثم هداه لـما بـيّنا, ثم ترك ذكر مثل, وقـيـل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَه كما يقال: عبد الله مثل الأسد, ثم يحذف مثل, فـيقول: عبد الله الأسد