تفسير الطبري تفسير الصفحة 510 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 510
511
509
 الآية : 29-30
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَن لّن يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }.
يقول تعالى ذكره: أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شكّ في دينهم, وضعف في يقينهم, فهم حيارَى في معرفة الحقّ أن لن يُخرج الله ما في قلوبهم من الأضغان على المؤمنين, فيبديه لهم ويظهره, حتى يعرفوا نفاقهم, وحيرتهم في دينهم وَلَوْ نَشاءُ لأَرَيْناكَهُمْ يقول تعالى ذكره: ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء المنافقين حتى تعرفهم من قول القائل: سأريك ما أصنع, بمعنى سأعلمك.
وقوله: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ يقول: فلتعرفنهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم, وظاهر أفعالهم, ثم إن الله تعالى ذكره عرّفه إياهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24305ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أضْغانَهُمْ... إلى آخر الآية, قال: هم أهل النفاق, وقد عرّفه إياهم في براءة, فقال: وَلا تُصَلّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا, وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ, وقال: قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعي أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعي عَدُوّا.
24306ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... الآية, هم أهل النفاق فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْن القَوْلِ فعرّفه الله إياهم في سورة براءة, فقال: وَلا تُصَلّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا, وقال قُلْ لَنْ تَنْفُرُوا مَعيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعي عَدُوّا.
24307ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أضْغانَهُمْ قال: هؤلاء المنافقون, قال: والذي أسروا من النفاق هو الكفر.
24308ـ قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَوْ نَشاءُ لأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسيماهُمْ قال: هؤلاء المنافقون, قال: وقد أراه الله إياهم, وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد, قال: فأبَوا إلا أن تَمَسّكُوا بلا إله إلا الله فلما أبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا الله حُقِنت دماؤهم, ونكحوا ونوكحوا بها.
وقوله: وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنٍ القَوْلِ يقول: ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم ونحوه.
24309ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فِي لَحْنِ القَوْلِ قال قولهم: واللّهُ يَعْلَمُ أعمالَكُمْ لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته, والمخالف ذلك, وهو مجازي جميعكم عليها.
الآية : 31-32
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَشَآقّواْ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَىَ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَنَبْلُوَنّكُمْ أيها المؤمنون بالقتل, وجهاد أعداء الله حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ يقول: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم, وأهل الصبر على قتال أعدائه, فيظهر ذلك لهم, ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشكّ والحَيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخباركم, فنعرف الصادق منكم من الكاذب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24310ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: حتى نَعْلَمَ المُجاهِدينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ, وقوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الخَوْف والجُوعِ ونحو هذا قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء, وأنه مبتليهم فيها, وأمرهم بالصبر, وبشّرهم فقال: وَبَشّر الصّابِرِينَ, ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه, وصفوته لتطيب أنفسهم, فقال: مَسّتْهُمُ البأْساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا, فالبأساء: الفقر, والضرّاء: السقم, وزُلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم.
24311ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ قال: نختبركم, البلوى: الاختبار. وقرأ الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال: لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... الآية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخْبارَكُمْ, فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بالنون نبلو ونعلم, ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ جلاله عن نفسه, سوى عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليها, وإن كان للأخرى وجه صحيح.
وقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله, وصدّوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله وَشاقّوا الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول: وخالفوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم, فحاربوه وآذَوه من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث, ورسول مرسل, وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته, وأنه لله رسول.
وقوله: لَنْ يَضُرّوا اللّهَ شَيْئا لأن الله بالغ أمره, وناصر رسوله, ومُظهره على من عاداه وخالفه وسَيُحْبِطُ أعمالَهُمْ يقول: وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الاَخرة, ويبطلها إلا مما يضرّهم.
الآية : 33-34
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوَاْ أَعْمَالَكُمْ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ في أمرهما ونهيهما وَلا تَبْطِلُوا أعمالَكُمْ يقول: ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما, وكفركم بربكم ثواب أعمالكم فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24312ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أعمالَكُمْ.... الآية, من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحا عمله بعمل سيىء فليفعل, ولا قوّة إلا بالله, فإن الخير ينسخ الشرّ, وإن الشرّ ينسخ الخير, وإن ملاك الأعمال خواتيمها.
وقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ ماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ يقول تعالى ذكره: إن الذين أنكروا توحيد الله, وصدّوا من أراد الإيمان بالله وبرسوله عن ذلك, ففتنوهم عنه, وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من ذلك, ثم ماتوا وهم كفار: يقول: ثم ماتوا وهم على ذلك من كفرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ يقول: فلن يعفو الله عما صنع من ذلك, ولكنه يعاقبه عليه, ويفضحه به على رؤوس الأشهاد.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }.
يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين وتجبُنوا عن قتالهم. كما:
24313ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد فَلا تَهِنُوا قال: لا تضعفوا.
24314ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَلا تَهِنُوا لا تضعف أنت.
وقوله: وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ يقول: لا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم وَاللّهُ مَعَكُمْ يقول: والله معكم بالنصر لكم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, غير أنهم اختلفوا في معنى قوله: وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ فقال بعضهم: معناه: وأنتم أولى بالله منهم. وقال بعضهم: مثل الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك, وقال معنى قوله: وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ أنتم أولى بالله منهم.
24315ـ حدثني أحمد بن المقدام, قال: حدثنا المعتمر, قال: سمعت أبي يحدّث, عن قتادة, في قوله: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ قال: أي لا تكونوا أولى الطائفتين تصرع.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ قال: لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها, ودعتها إلى الموادعة, وأنتم أولى بالله منهم والله معكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ قال: لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت إلى صاحبتها وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ قال: يقول: وأنتم أولى بالله منهم ذكر من قال معنى قوله: وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ: أنتم الغالبون الأعزّ منهم.
24316ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ قال: الغالبون مثل يوم أُحد, تكون عليهم الدائرة.
24317ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ وأنُتمُ الأَعْلَوْنَ قال: هذا منسوخ, قال: نسخه القتال والجهاد, يقول: لا تضعف أنت وتدعوهم أنت إلى السلم وأنت الأعلى, قال: وهذا حين كانت العهود والهدنة فيما بينه وبين المشركين قبل أن يكون القتال, يقول: لا تهن فتضعف, فيرى أنك تدعوه إلى السلم وأنت فوقه, وأعزّ منه وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ أنتم أعزّ منهم, ثم جاء القتال بعد فنسخ هذا أجمع, فأمره بجهادهم والغلظة عليهم. وقد قيل: عنى بقوله: وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وأنتم الغالبون آخر الأمر, وإن غلبوكم في بعض الأوقات, وقهروكم في بعض الحروب.
وقوله: فَلا تَهِنُوا جزم بالنهي, وفي قوله وَتَدْعُوا وجهان: أحدهما الجزم على العطف على تهنوا, فيكون معنى الكلام: فلا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم, والاَخر النصب على الصرف.
وقوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ يقول: ولن يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها, من قولهم: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً, فأخذت له مالاً غصبا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24318ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله يقول: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ يقول: لن يظلمكم أجور أعمالكم.
24319ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال: لن ينقصكم.
24320ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ: أي لن يظلمكم أعمالكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله.
24321ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال: لن يظلمكم, أعمالكم ذلك يتركم.
24322ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال: لن يظلمكم أعمالكم.
الآية : 36-37
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }.
يقول تعالى ذكره: حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه, والنفقة في سبيله, وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر, ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم, فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو, إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله, وطلب رضاه. فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو, يضمحلّ فيذهب ويندرس فيمرّ, أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه وَإنْ تُؤْمِنوا وَتَتّقُوا يُؤْتِكُمْ أجُورَكُمْ يقول: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها, فلعب ولهو, فتؤمنوا به وتتقوه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, وهو الذي يبقى لكم منها, ولا يبطل بطول اللهو واللعب, ثم يؤتكم ربكم عليه أجوركم, فيعوّضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم, وحاجتكم إلى أعمالكم وَلا يَسألْكُمْ أمْوَالَكُمْ يقول: ولا يسألكم ربكم أموالكم, ولكنه يكلفكم توحيده, وخلع ما سواه من الأنداد, وإفراد الألوهة والطاعة له إن يسألكموها: يقول جلّ ثناؤه: إن يسألكم ربكم أموالكم فيحفكم يقول: فيجهدكم بالمسألة, ويلحّ عليكم بطلبها منكم فيلحف, تبخلوا: يقول: تبخلوا بها وتمنعوها إياه, ضنا منكم بها, ولكنه علم ذلك منكم, ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
وقوله: ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ يقول: ويخرج جلّ ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان.
24323ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا قال: الإحفاء: أن تأخذ كلّ شيء بيديك.
الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هَا أَنتُمْ هَـَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنكُم مّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ها أنْتُمْ أيها الناس هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول: تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه فمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بالنفقة فيه, وأدخلت «ها» في موضعين, لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنيّ بين «ها» وبين «ذا», فقالت: ها أنت ذا قائما, لأن التقريب جواب الكلام, فربما أعادت «ها» مع «ذا», وربما اجتزأت بالأولى, وقد حُذفت الثانية, ولا يقدّمون أنتم قبل «ها», لأن ها جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله: وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله, فإنما يبخل عن بخل نفسه, لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله, ولكن كانت تجود بها وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم, لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه, وأنتم من خلقه, فأنتم الفقراء إليه, وإنما حضكم على النفقة في سبيله, ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24324ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لَتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ قال: ليس بالله تعالى ذكره إليكم حاجة وأنتم أحوج إليه.
وقوله تعالى ذكره: وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم, فترتدّوا راجعين عنه يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به, ويعملون بشرائعه ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله, ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم, ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24325ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ يقول: إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم. قادر والله ربنا على ذلك على أن يهلكهم, ويأتي من بعدهم من هو خير منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ قال: إن تولوا عن طاعة الله.
24326ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ.
وذُكر أنه عنى بقوله: يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيرَكُمْ: العجم من عجم فارس. ذكر من قال ذلك:
24327ـ حدثنا ابن بَزِيع البغدادي أبو سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن مسلم بن خالد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: لما نزلت وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ كان سَلْمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استُبدِلوا بنا, قال: فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان, فقال: «مِنْ هَذَا وَقَوْمِهِ, وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنّ الدّينَ تَعَلّقَ بالثّرَيّا لَنالَتْهُ رِجالٌ مِنْ أهْل فارِسِ».
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني مسلم بن خالد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ, ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ قالُوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا, ثم لا يكونوا أمثالنا, فضرب على فخذ سلمان قال: «هَذَا وَقَوْمُهُ, وَلَوْ كانَ الدّينُ عِنْدَ الثّرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنَ الفُرْسِ».
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ, قال: حدثنا عبد الله بن الوليد العَدَني, قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: نزلت هذه الآية وسلمان الفارسيّ إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكّ ركبته ركبته وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُم قالوا: يا رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا, قال: فضرب فخذ سلمان ثم قال: «هَذَا وَقَوْمُهُ».
24328ـ وقال: مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيرَكُمْ من شاء.
وقال آخرون: هم أهل اليمن. ذكر من قال ذلك:
24329ـ حدثني محمد بن عوف الطائيّ, قال: حدثنا أبو المغيرة, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, قال: حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير وشريح بن عبيد, في قوله: وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ قال: أهل اليمن.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة محمد