تفسير الطبري تفسير الصفحة 556 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 556
557
555
 سورة التغابن مدنية
وآياتها ثماني عشرة
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: يسجد له ما في السموات السبع وما في الأرض من خلقه ويعظمه.
وقوله: لَهُ المُلْكُ يقول تعالى ذكره: له ملك السموات والأرض وسلطانه ماض قضاؤه في ذلك نافذ فيه أمره.
وقوله: وَلَهُ الحَمْدُ يقول: وله حمد كلّ ما فيها من خلق, لأن جميع من في ذلك من الخلق لا يعرفون الخير إلا منه, وليس لهم رازق سواه فله حمد جميعهم وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول: وهو على كلّ شيء ذو قدرة, يقول: يخلق ما يشاء, ويميت من يشاء, ويغني من أراد, ويفقر من يشاء ويعزّ من يشاء, ويذلّ من يشاء, لا يتعذرّ عليه شيء أراده, لأنه ذو القدرة التامة التي لا يعجزه معها شيء.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مّؤْمِنٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: الله الّذِي خَلَقَكُمْ أيها الناس, وهو من ذكر اسم الله فَمِنكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مِوءْمِنٌ يقول: فمنكم كافر بخالقه وأنه خلقه ومنكم مؤمن يقول: ومنكم مصدّق به موقن أنه خالقه أو بارئه وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول: والله الذي خلقكم بصير بأعمالكم عالم بها, لا يخفى عليه منها شيء, وهو مجازيكم بها, فاتقوه أن تخالفوه في أمره أو نهيه, فيسطو بكم.
26444ـ حدثنا محمد بن منصور الطوسي, قال: حدثنا حسن بن موسى الأشيب, قال: حدثنا ابن لهيعة, قال: حدثنا بكر بن سوادة, عن أبي تميم الجيشاني, عن أبي ذرّ: «إن المَنِيّ إذ مكث في الرحم أربعين ليلة, أتى ملك النفوس, فعرج به إلى الجبار في راحته, فقال: أي ربّ عبدك هذا ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله إليه ما هو قاض, ثم يقول: أي ربّ أشقيّ أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق». قال: وقرأ أبو ذرّ فاتحة التغابن خمس آيات.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالى ذكره: خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف, وصوّركم: يقول: ومثلكم فأحسن مثَلكم, وقيل: إنه عُنِي بذلك تصويره آدم, وخلقه إياه بيده. ذكر من قال ذلك:
26445ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ وَصَورّرَكُمْ فأحْسَنَ صُوَرَكُمْ يعني آدم خلقه بيده.
وقوله: وَإلَيْهِ المَصِيرُ يقول: وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصّدُورِ }.
يقول تعالى ذكره: يعلم ربكم أيها الناس ما في السموات السبع والأرض من شيء, لا يخفى عليه من ذلك خافية وَيَعْلَمُ ما تُسِرّون أيها الناس بينكم من قول وعمل وَما تُعْلِنُونَ من ذلك فتظهرونه وَاللّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ يقول جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده, وما تنطوي عليه نفوسهم, الذي هو أخفى من السرّ, لا يعزب عنه شيء من ذلك. يقول تعالى ذكره لعباده: احذَروا أن تسرّوا غير الذي تعلنون, أو تضمروا في أنفسكم غير ما تُبدونه, فإن ربكم لا يخفى عليه من ذلك شيء, وهو محص جميعه, وحافظ عليكم كله.
الآية : 5-6
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنّهُ كَانَت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُوَاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلّواْ وّاسْتَغْنَىَ اللّهُ وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ }.
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: ألم يأتكم أيها الناس خبر الذين كفروا من قبلكم, وذلك كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط فَذَاقُوا وَبالَ أمْرِهِمْ فمسّهم عذاب الله إياهم على كفرهم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول: ولهم عذاب مؤلم موجع يوم القيامة في نار جهنم, مع الذي أذاقهم الله في الدنيا وبال كفرهم.
وقوله: ذلكَ بأنّهُ كانَتْ تأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ يقول: جلّ ثناؤه: هذا الذي نال الذين كفروا من قبل هؤلاء المشركين من وبال كفرهم, والذي أعدّ لهم ربهم يوم القيامة من العذاب, من أجل أنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات الذي أرسلهم إليهم ربهم بالواضحات من الأدلة والإعلام على حقيقة ما يدعونهم إليه, فقالوا لهم: أَبَشَرٌ يهدوننا؟ استكبارا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرا مثلهم واستكبارا عن اتباع الحقّ من أجل أن بشرا مثلهم دعاهم إليه وجمع الخبر عن البشر, فقيل: يهدوننا, ولم يقل: يهدينا, لأن البشر, وإن كان في لفظ الواحد, فإنه بمعنى الجميع.
وقوله: فَكَفَرُوا وَتَوّلُوْا يقول: فكفروا بالله, وجحدوا رسالة رسله الذين بعثهم الله إليهم استكبارا وَتَوَلّوا يقول: وأدبروا عن الحقّ فلم يقبلوه, وأعرضوا عما دعاهم إليه رسلهم واسْتَغْنَى اللّهُ يقول: واستغنى الله عنهم, وعن إيمانهم به وبرسله, ولم تكن به إلى ذلك منهم حاجة وَاللّهُ غَنِيّ حِميدٌ يقول: والله غنيّ عن جميع خلقه, محمود عند جميعهم بجميل أياديه عندهم, وكريم فعاله فيهم.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: زعم الذين كفروا بالله أن لن يبعثهم الله إليه من قبورهم بعد مماتهم. وكان ابن عمر يقول: زعم كنية الكذب.
26446ـ حدثني بذلك محمد بن نافع البصريّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن بعض أصحابه عن ابن عمر.
وقوله: قُلْ بَلى ورَبّي لَتُبْعَثُنّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: بلى وربي لتبعثن من قبوركم ثُمّ لَتُنَبّونّ بِمَا عَمِلْتُمْ يقول: ثم لتخبرنّ بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا, وذَلكَ على اللّهِ يَسِيرٌ يقول: وبعثكم من قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هين.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الّذِيَ أَنزَلْنَا وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون المكذّبون بالبعث, وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم, وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم, والنور الذي أنزلنا يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا, وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة محيط بها, محصٍ جميعها, لا يخفى عليه منها شيء, وهو مجازيكم على جميعها.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجِمْعِ الخلائق للعرض ذلكَ يَوْمَ التّغابُنِ يقول: الجمع يوم غَبْن أهلِ الجنة أهلَ النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26447ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ذَلك يَوْمُ التّغابُنِ قال: هو غبن أهل الجنة أهلَ النار.
26448ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ هو يوم القيامة, وهو يوم التغابن: يوم غَبن أهلِ الجنة أهلَ النار.
26449ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ذلك يَوْمُ التّغابُنِ من أسماء يوم القيامة, عظّمه وحذّره عبادَه.
وقوله: وَمَنْ يُوءْمِنْ باللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا يقول تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته, وينته إلى أمره ونهيه يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ يقول: يمح عنه ذنوبه وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: خالِدينَ فِيها أبَدا يقول: لابثين فيها أبدا, لا يموتون, ولا يخرجون منها.
وقوله: ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ يقول: خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم