تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 349 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 349


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّىۤ أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ * قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ * وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ}
قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ لَعَلِّىۤ أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَل}. الظاهر عندي: أن حتى في هذه الآية: هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويقال لها: حرف ابتداء، كما قاله ابن عطية، خلافاً للزمخشري القائل: إنها غاية لقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} ولأبي حيان القائل: إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون. ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق: فواعجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجاشع

قال: المعنى: يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة. وفي الآية دل ما قبلها عليها. انتهى الغرض من كلام أبي حيان، ولا يظهر عندي كل الظهور.
بل الأظهر عندي: هو ما قدمتها وهو قول ابن عطية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى:
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِىۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَ}. وقوله تعالى: {وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأايَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} وقوله تعالى: {وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} وقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ}. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن: أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: {رَبِّ ٱرْجِعُونِ} ولم يقل: رب ارجعني بالإفراد.
وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبيَّـنَّا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: ارجعون، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره:
ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل

وقول الآخر يخاطب امرأة:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

والنقاخ الماء البارد والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر.
الوجه الثاني: قوله: رب استغاثة به تعالى، وقوله: ارجعون: خطاب للملائكة، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدموني إلى الله وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون».
الوجه الثالث: وهو قول المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لَعَلِّىۤ أَعْمَلُ صَـٰلِح} الظاهر أن لعل فيه التعليل: أي ارجعون، لأجل أن أعمل صالحاً، وقيل: هي للترجي والتوقع، لأنه غير جازم، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحاً، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى. وقوله كلا: كلمة زجر: وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح.
قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}. في هذه الآية الآية الكريمة، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال.
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية: أنه إذا نفخ في الصور، والظاهر أنها النفخة الثانية، أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، فيقال: ما وجه نفي الأنساب بينهم، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ} ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.
السؤال الثاني: أنه قال: {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون، كقوله في سورة الطور {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} وقوله في الصافات {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب بما حاصله:
إن الجواب عن السؤال الأول: هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا، من التفاخر بالآباء، والنفع والعواطف والصلات. فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب، من أصلها بدليل قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}.
وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه:
الأول: هو قول من قال: إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معاً. وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض، فيما بينهم من الحقوق، لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أباً أو ابناً أو أماً أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان.
قوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ}. وقوله في سورة الكهف: {فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ} وغير ذلك. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ}. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار تلفح وجوههم النار: أي تحرقها إحراقاً شديداً، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ}. وقوله تعالى: {وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ}. وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ}. وقوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ}ز. وقوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} وقوله: {يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ}. إلى غير ذلك من الآيات وقوله: {وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ} الكالح: هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى:
وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلح

وعن ابن عباس: كالحون: عابسون.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ}. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار يسألون يوم القيامة، فيقول لهم ربهم {أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} أي في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون، وأنهم اعترفوا بذلك، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان، لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له، فلذلك كفروا، وكذبوا الرسل.
قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول} فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله هنا: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} الظاهر أن معنى قولهم: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أن الرسل بلغتهم، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية، غلب عليهم، فكذبوا الرسل، ليصيروا إلى ما سبق في علمه جل وعلا، من شقاوتهم. ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ} وقوله عن أهل النار {قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله صلى الله عليه وسلم «كلٌّ ميسر لما خلق له» وقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ} على أصح التفسيرين وقوله عنهم {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} اعتراف منهم بضلالهم، حيث لا ينفع الاعتراف بالذنب ولا الندم عليه، كقوله تعالى: {فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} ونحو ذلك من الآيات.
وهذا الذي فسرنا به الآية، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية، وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال الله عز وجل: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارا} لأن ذلك يؤديهم إلى النار ا هـ تكلف مخالف للتحقيق.
ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال: وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق ا هـ.
ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وقوله هنا: {قَوْماً ضَآلِّينَ} أي عن الإسلام إلى الكفر، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي: شقاوتنا بفتح الشين، والقاف وألف بعدها، وقرأه الباقون: بكسر الشين، وإسكان القاف وحذف الألف.
قوله تعالى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها، فإنا ظالمون، وأن الله يجيبهم بقوله: {ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} أي امكثوا فيها خاسئين: أي أذلاء صاغرين حقيرين، لأن لفظة أخسأ إنما تقال للحقير الذليل، كالكلب ونحوه. فقوله: {ٱخْسَئُواْ فِيهَ} أي ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان.
وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه كقوله تعالى {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وقوله تعالى: {كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرَٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} وقوله تعالى: {كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَ}، وقوله تعالى: {كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَ} فأجيبوا {ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وفي السجدة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِح} فأجيبوا {وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ}، وفي سورة المؤمن {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فأجيبوا {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ} وفي الزخرف {وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فأجيبوا ـ {إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ} وفي سورة إبراهيم {فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ} فيجابون {أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} وفي سورة فاطر {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ} فيجابون {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة.
وعن ابن عباس: أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم. وقوله في هذه الآية: ولا تكلمون: أي في رفع العذاب عنكم، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}. قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى}. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: {رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} وكقوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَ} وكل ذلك احتقار منهم لهم، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير، وكقوله تعالى: {أَهَـؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ}. وقوله تعالى عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} وكل ذلك احتقار منهم لهم. وقوله: {فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّ} والسخري بالضم والكسر: مصدر سخر منه، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار. قال الزمخشري في ياء النسب: زيادة في الفعل، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص، ومعناه: أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم: ومبالغتهم في ذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: سخريا بضم السين، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين، كما بينا. وممن قال بأن معناهما واحد: الخليل وسيبويه، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وعن الكسائي والفراء: أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء، وأن السخري بضم السين من التسخير، الذي هو التذليل والعبودية.
والمعنى: أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وحتى في قوله: {حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} حرف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً: أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار، والعياذ بالله.
قوله تعالى: {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة. وقوله: {بِمَا صَبَرُوۤ} أي بسبب صبرهم في دار الدنيا، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخرياً، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته، ورضوانه، جاء مبيناً في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار، ويضحكون منهم، والكفار في النار. والعياذ بالله كقوله تعالى: {أَهَـؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ حمزة والكسائي: إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن، وعلى قراءتهما فمفعول جزيتهم: محذوف: أي جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام، وقرأ الباقون: أنهم هم الفائزون. بفتح همزة أن، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك، من أن وصلتها: مفعول به لجزيتهم: أي جزيتهم فوزهم كما لا يخفى. والفوز نيل المطلوب الأعظم.
قوله تعالى: {قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ}. في هذه الآية سؤال معروف: وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى: {يَتَخَـٰفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْر} والعشر أكثر من يوم أو بعضه، وكقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ}
والساعة: أقل من يوم أو بعضه، وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـٰهَ} وقوله: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ}.
وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله: أن بعضهم يقول لبثنا يوماً أو بعض يوم، ويقول بعض آخر منهم: لبثنا ساعة ويقول بعض الآخر منهم: لبثنا عشراً.
والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكاً، وأرجحهم عقلاً، وأمثلهم طريقة هو من يقول: إنهم ما لبثوا إلا يوماً واحداً، وذلك في قوله تعالى: {يَتَخَـٰفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْم} فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ} أي الحاسبين، الذين يضبطون مدة لبثنا، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. والباقون: فاسأل بغير نقل، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر، وقرأ الباقون: قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي.
وقال الزمخشري ما حاصله: إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال. والله تعالى أعلم. وقد صدقهم الله جل وعلا في قلة لبثهم في الدنيا بقوله: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جداً. بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار، والعياذ بالله. وقرأ حمزة والكسائي: قل إن لبثتم إلا قليلاً بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي.
قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ}. الاستفهام في قوله: أفحسبتم للانكار، والحسبان هنا معناه: الظن. يعني: أظننتم أنا خلقناكم عبثاً لا لحكمة، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة، فنجازيكم على أعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً شر، ثم نزَّه جل وعلا نفسه، عن أن يكون خلقهم عبثاً، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء.
وقوله: {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ} أي تعاظم وتقدس، وتنزه عن كل ما لا يليقُ بكماله وجلاله، ومنه خلقكم عبثاً سبحانه وتعالى، عن ذلك علواً كبيراً.
وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ} وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ مَا خَلَقْنَـٰهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ} وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاٍّنثَىٰ} وقوله: سدى: أي مهملاً لا يحاسب ولا يجازي، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله: {أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وقوله: عبثاً: يجوز إعرابه حالاً، لأنه مصدر منكر أي إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين، ويجوز أن يعرب مفعولاً من أجله: أي إنما خلقناكم، لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم، وأعربه بعضهم مفعولاً مطلقاً، وليس بظاهر. قال القرطبي عبثاً: أي مهملين، والعبث في اللغة: اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ} وقوله: {ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ} قال بعضهم أي الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم: الملك الحق: الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبً} وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} معطوف على قوله: {أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَث} خلافاً لمن قال: إنه معطوف على قوله: عبثاً، لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ}.
البرهان: الدليل الذي لا يترك في الحق لبساً، وقوله: لا برهان له به كقوله {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰن}. والسلطان: هو الحجة الواضحة وهو بمعنى: البرهان وقوله في هذه الآية الكريمة {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} قد بين أن حسابه الذي عند ربه، لا فلاح له فيه بقوله بعده {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ} وأعظم الكفارين كفراً هو من يدعو مع الله إلٰهاً آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار، وقد حذر الله من دعاء إلٰه معه في آيات كثيرة كقوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُول} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول: أما من عبد معه إلٰهاً آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة آلٰه آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة، دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره ألبتة.
وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكراً لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذاً ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.
ومن أمثلته في القرآن هذه الآية لأن قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وصف مطابق للواقع، لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
ومن أمثلته في القرآن أيضاً قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله {مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع

وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة: {وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ} فيه الدليل على أَن ذلك الفريق، الذين كانوا يقولون: ربنا آمنا، فاغفر لنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين. موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم لتقتدي به أمته في ذلك، ومعمول اغفر وارحم حذف هنا، لدلالة ما تقدم عليه في وقوله: {فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَ} والمغفرة: ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمٰن، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله: {وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ} لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضاً، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ} والعلم عند الله تعالى.

تم بحمد الله تفسير سورة المؤمنون