تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 350 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 350


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـٰدَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ * وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ}
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل زانية وكل زان يجب جلد كل واحد منهما مائة جلدة؛ لأنّ الألف واللام في قوله: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى}، إن قلنا: إنهما موصول وصلتهما الوصف الذي هو اسم الفاعل الذي هو {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى}، فالموصولات من صيغ العموم.
وإن قلنا: إنهما للتعريف لتناسي الوصفية، وأن مرتكب تلك الفاحشة يطلق عليه اسم الزاني، كإطلاق أسماء الأجناس، فإن ذلك يفيد الاستغراق، فالعموم الشامل لكل زانية وكل زان، هو ظاهر الآية، على جميع الاحتمالات.
وظاهر هذا العموم شموله للعبد، والحر، والأَمَة، والحرّة، والبكر، والمحصن من الرجال وا لنساء.
وظاهره أيضًا: أنه لا تغرّب الزانية، ولا الزاني عامًا مع الجلد، ولكن بعض الآيات القرءانية دلّ على أن عموم الزانية يخصّص مرتين.
إحداهما: تخصيص حكم جلدها مائة بكونها حرّة، أمّا إن كانت أمة، فإنها تجلد نصف المائة وهو خمسون، وذلك في قوله تعالىٰ في الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر والعذاب الجلد، وهو بالنسبة إلى الحرة الزانية: مائة جلدة والأَمة عليها نصفه بنص آية «النساء» هذه، وهو خمسون؛ فآية {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، مخصّصة لعموم قوله: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى}، بالنسبة إلى الزانية الأنثى.
وأمّا التخصيص المرة الثانية لعموم الزانية في آية «النور» هذه فهو بآية منسوخة التلاوة، باقية الحكم، تقتضي أن عموم الزانية هنا مخصّص بكونها بكرًا.
أما إن كانت محصنة، بمعنى أنها قد تزوّجت من قبل الزنى، وجامعها زوجها في نكاح صحيح فإنها ترجم.
والآية التي خصصتها بهذا الحكم الذي ذكرنا أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم، هي قوله تعالىٰ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من اللَّه، واللَّه عزيز حكيم).
وهذا التخصيص إنما هو على قول من يقول: لا يجمع للزاني المحصن، بين الجلد والرجم، وإنما يرجم فقط بدون جلد.
أمّا على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، وإنما في آية الرجم زيادته على الجلد، فكلتا الآيتين أثبتت حكمًا لم تثبته الأخرى، وسيأتي أيضاح هذا إن شاء اللَّه غير بعيد وأقوال أهل العلم فيه ومناقشة أدلّتهم.
أمّا الزاني الذكر فقد دلّت الآية التي ذكرنا، أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم على تخصيص عمومه، وأن الذي يجلد المائة من الذكور، إنما هو الزاني البكر، وأمّا المحصن فإنه يرجم، وهذا التخصيص في الذكر أيضًا إنّما هو على قول من لا يرى الجمع بين الجلد والرجم؛ كما أوضحناه قريبًا في الأنثى.
وأمّا على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، بل كل واحدة من الآيتين أثبتت حكمًا لم تثبته الأخرى.
وعموم الزاني في آية «النور» هذه، مخصّص عند الجمهور أيضًا مرة أخرى، بكون جلد المائة خاصًّا بالزاني الحرّ، أمّا الزاني الذكر العبد فإنه يجلد نصف المائة، وهو الخمسون.
ووجه هذا التخصيص: إلحاق العبد بالأَمة في تشطير حدّ الزنى بالرقّ؛ لأن مناط التشطير الرق بلا شكّ؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى الحدود وصفان طرديّان، لا يترتّب عليهما حكم، فدلّ قوله تعالىٰ في آية «النساء» في الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، أن الرقّ مناط تشطير حدّ الزنى، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى في الحدود، فالمخصّص لعموم الزاني في الحقيقة، هو ما أفادته آية: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، وإن سمّاه الأصوليّون تخصيصًا بالقياس، فهو في الحقيقة تخصيص آية بما فهم من آية أخرى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن رجم الزانيين المحصنين دلّت عليه آيتان من كتاب اللَّه، إحداهما نسخت تلاوتها، وبقي حكمها. والثانية: باقية التلاوة والحكم، أمّا التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها فهي قوله تعالىٰ: (الشيخ والشيخة) إلى آخرها؛ كما سيأتي. وكون الرجم ثابتًا بالقرءان ثابت في الصحيح.
قال البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت:
حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه، حدّثني إبرٰهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: كنت أقرىء رجالاً من المهاجرين منهم: عبد الرحمٰن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إلى عبد الرحمٰن، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فواللَّه ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثمّ قال: إني إن شاء اللَّه لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، الحديث بطوله.
وفيه: إن اللَّه بعث محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللَّه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، انتهى محل الغرض من صحيح البخاري.
وفيه: أن الرجم نزل في القرءان في آية من كتاب اللَّه، وكونها لم تقرأ في الصحف، يدلّ على نسخ تلاوتها، مع بقاء حكمها؛ كما هو ثابت في الحديث المذكور.
وفي رواية في البخاري من حديث عمر رضي اللَّه عنه: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، ألا وإن الرجم حقّ على من زنى، وقد أحصن إذا قامت البيّنة، أو كان الحمل، أو الاعتراف.
قال سفيٰن: كذا حفظت: ألا وقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
وقال ابن حجر في «فتح الباري»، في شرحه لهذه الرواية الأخيرة، وقد أخرجه الإسمٰعيلي من رواية جعفر الفريابي، عن عليّ بن عبد اللَّه شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله: أو الاعتراف، وقد قرأناها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة)، وقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فسقط من رواية البخاري من قوله: وقد قرأناها إلى قوله: البتّة، ولعلّ البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا، فقد أخرجه النسائي عن محمّد بن منصور، عن سفيٰن كرواية جعفر، ثم قال: لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث: (الشيخ والشيخةَ...) غير سفيٰن، وينبغي أن يكون وهم في ذلك.
قلت: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مٰلك، ويونس، ومعمر، وصالح بن كيسان، وعقيل، وغيرهم من الحفاظ عن الزهري.
وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيىٰ بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، قال: لما صدر عمر من الحجّ، وقدم المدينة خطب الناس فقال: أيّها الناس، قد سنّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، ثم قال: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب اللَّه، فقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها بيدي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة). قال مٰلك: الشيخ والشيخة: الثيّب والثيّبة.
ووقع في الحلية في ترجمة داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر: لكتبتها في آخر القرءان.
ووقعت أيضًا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها، في الباب الذي يليه فقال متّصلاً بقوله: قد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقولوا: كتب عمر ما ليس في كتاب اللَّه، لكتبته قد قرأنا: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم).
وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم، من حديث أُبيّ بن كعب، قال: ولقد كان فيها، أي سورة «الأحزاب»، آية الرجم: (الشيخ)، فذكر مثله.
ومن حديث زيد بن ثابت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «الشيخ والشيخة» مثله، إلى قوله: «البتّة».
ومن رواية أُسامة بن سهل أن خالته أخبرته، قالت: لقد أقرأنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فذكره إلى قوله: «البتة»، وزاد «بما قضيا من اللذّة».
وأخرج النسائي أيضاً أن مروان بن الحكم قال لزيد: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا ألا ترى أن الشابين الثيّبين يرجمان ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) اكتبني آية الرجم، فقال: «لا أستطيع».
وروينا في فضائل القرءان لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم، عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم فإنه حقّ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أُبيّ بن كعب، فقال: أليس أتيتني، وأنا أستقرئها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدفعت في صدري، وقلت: استقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر، ورجاله ثقات، وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.
وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت، قال: كان زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف، فمرّا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة»، فقال عمر: لمّا نزلت أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: أكتبها، فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى، ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.
فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها، انتهى بطوله من فتح الباري.
وفيه الدلالة الظاهرة على ما ذكرنا من أن آية الرجم منسوخة التلاوة، باقية الحكم، وأنها مخصّصة لآية الجلد، على القول بعدم الجمع بين الرجم والجلد، كما تقدّم.
ولكن ما أشار إليه ابن حجر من استفادة سبب نسخ تلاوتها من بعض الأحاديث المذكورة غير ظاهر؛ لأن كثيرًا من الآيات يبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم تخصيص عمومه، ويوضح المقصود به وإن كان خلاف الظاهر المتبادر منه، ولم يؤد شىء من ذلك إلى نسخ تلاوته كما هو معلوم، والآية القرءانيّة عند نزولها تكون لها أحكام متعدّدة، كالتعبد بتلاوتها، وكالعمل بما تضمّنته من الأحكام الشرعيّة، والقراءة بها في الصّلاة، ونحو ذلك من الأحكام. وإذا أراد اللَّه أن ينسخها بحكمته فتارة ينسخ جميع أحكامها من تلاوة، وتعبّد، وعمل بما فيها من الأحكام كآية عشر رضعات معلومات يحرمن، وتارة ينسخ بعض أحكامها دون بعض، كنسخ حكم تلاوتها، والتعبّد بها مع بقاء ما تضمّنته من الأحكام الشرعيّة، وكنسخ حكمها دون تلاوتها، والتعبّد بها كما هو غالب ما في القرءان من النسخ.
وقد أوضحنا جميع ذلك بأمثلته في سورة «النحل» في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ}، وله الحكمة البالغة في جميع ما يفعله من ذلك.
فآية الرجم المقصود منها إثبات حكمها، لا التعبّد بها، ولا تلاوتها، فأنزلت وقرأها الناس، وفهموا منها حكم الرجم، فلمّا تقرّر ذلك في نفوسهم نسخ اللَّه تلاوتها، والتعبّد بها، وأبقى حكمها الذي هو المقصود، واللَّه جلَّ وعلا أعلم.
فالرجم ثابت في القرءان، وما سيأتي عن عليّ رضي اللَّه عنه أنّه قال: جلدتها بكتاب اللَّه، ورجمتها بسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا ينافي ذلك؛ لأنَّ السنّة هي التي بيّنت أن حكم آية الرجم باقٍ بعد نسخ تلاوتها فصار حكمها من هذه الجهة، فإنَّه ثابت بالسنّة، واللَّه تعالىٰ أعلم.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه اللَّه في صحيحه: حدّثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيـىٰ قالا: حدّثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة: أنه سمع عبد اللَّه بن عباس يقول: قال عمر بن الخطّاب، وهو جالس على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه قد بعث محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب اللَّه، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، وإن الرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، اهـــ منه.
فهذا الحديث الذي اتّفق عليه الشيخان، عن هذا الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، دليل صريح صحيح على أن الرجم ثابت بآية من كتاب اللَّه، أنزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقرأها الصحابة، ووعوها، وعقولوها وأن حكمها باقٍ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله والصحابة رضي اللَّه عنهم فعلوه بعده.
فتحقّقنا بذلك بقاء حكمها مع أنها لا شكّ في نسخ تلاوتها مع الروايات التي ذكرنا في كلام ابن حجر، ومن جملة ما فيها لفظ آية الرجم المذكورة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
وأمّا الآية التي هي باقية التلاوة والحكم، فهي قوله تعالىٰ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم}، على القول بأنها نزلت في رجم اليهوديين الزانيين بعد الإحصان، وقد رجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة رجمه لهما مشهورة، ثابتة في الصحيح، وعليه فقوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ}، أي: عمّا في التوراة من حكم الرجم، وذمّ المعرض عن الرجم في هذه الآية، يدلّ على أنه ثابت في شرعنا، فدلّت الآية على هذا القول أن الرجم ثابت في شرعنا، وهي باقية التلاوة.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلاّ على من زنى، وهو محصن.
ومعنى الإحصان: أن يكون قد جامع في عمره، ولو مرة واحدة في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل حرّ، والرجل والمرأة في هذا سواء، وكذلك المسلم، والكافر، والرشيد، والمحجور عليه لسفه، والدليل على أن الكافر إذا كان محصنًا يرجمْ الحديث الصحيح الذي ثبت فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديّين زنيا بعد الإحصان، وقصّة رجمهما مشهورة مع صحتها؛ كما هو معلوم.
الفرع الثاني: أجمع أهل العلم على أن من زنى، وهو محصن يرجم، ولم نعلم بأحد من أهل القبلة خالف في رجم الزاني المحصن، ذكرًا كان أو أُنثى إلاّ ما حكاه القاضي عياض وغيره عن الخوارج، وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه. فإنّهم لم يقولوا بالرّجم، وبطلان مذهب من ذكر من الخوارج، وبعض المعتزلة واضح من النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده كما قدّمنا من حديث عمرالمتّفق عليه، وكما سيأتي إن شاء اللَّه.
الفرع الثالث: أجمع العلماء على أن الزاني ذكرًا كان أو أنثى، إذا قامت عليه البيّنة، أنهم رأوه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أنه يجب رجمه إذا كان محصنًا، وأجمع العلماء أن بيّنة الزنى، لا يقبل فيها أقلّ من أربعة عدول ذكور، فإن شهد ثلاثة عدول، لم تقبل شهادتهم وحدّوا، لأنهم قذفة كاذبون؛ لأن اللَّه تعالىٰ يقول: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ويقول جلّ وعلا: {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ}، وكلتا الآيتين المذكورتين صريحة في أن الشهود في الزنى، لا يجوز أن يكونوا أقلّ من أربعة، وقد قال جلّ وعلا: {لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ}، وقد بيّنت هذه الآية اشتراط الأربعة كما في الآيتين المذكورتين قبلها، وزادت أن القاذفين إذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة هم الكاذبون عند اللَّه.
ومن كذب في دعواه الزنى على محصن أو محصنة وجب عليه حدّ القذف؛ كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللَّه.
وما ذكره أبو الخطاب من الحنابلة عن أحمد والشافعي من أن شهود الزنى، إذا لم يكملوا لا حد قذف عليهم، لأنهم شهود لا قذفة، لا يعوّل عليه، والصواب إن شاء اللَّه هو ما ذكرنا.
ومما يؤيّده قصة عمر مع الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة فإن رابعهم لما لم يصرّح بالشهادة على المغيرة بالزنى، جلد عمر الشهود الثلاثة جلد القذف ثمانين، وفيهم أبو بكرة رضي اللَّه عنه، والقصّة معروفة مشهورة، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع.
وجمهور أهل العلم أن العبيد لا تقبل شهادتهم في الزنى، ولا نعلم خلافًا عن أحد من أهل العلم، في عدم قبول شهادة العبيد في الزنى، إلا رواية عن أحمد ليست هي مذهبه وإلا قول أبي ثور.
ويشترط في شهود الزنى أن يكونوا ذكورًا ولا تصحّ فيه شهادة النساء بحال، ولا نعلم أحدًا من أهل العلم خالف في ذلك، إلاّ شيئًا يروى عن عطاء، وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان.
وقال ابن قدامة في «المغني»: وهو شذوذ لا يعوّل عليه؛ لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكورين، ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة، ولا خلاف أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم، وأن أقلّ ما يجزىء خمسة، وهذا خلاف النصّ؛ ولأن في شهادتهنّ شبهة لتطرّق الضلال إليهن، قال اللَّه تعالىٰ: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ}، والحدود تدرأ بالشبهات، انتهى منه.
ولا خلاف بين أهل العلم أن شهادة الكفار كالذميين لا تقبل على المسلم بالزنى.
واختلف هل تقبل على كافر مثله؟ فقيل: لا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رجم اليهوديين باعترافهما بالزنى، لا بشهادة شهود من اليهود عليهم بالزنى، والذين قالوا هذا القول زعموا أن شهادة الشهود في حديث جابر أنها شهادة شهود مسلمين، يشهدون على اعتراف اليهوديين المذكورين بالزنى، وممّن قال هذا القول: ابن العربي المالكي.
وقال بعض أهل العلم: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض إن تحاكموا إلينا.
وقال القرطبي: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر لا في حدّ ولا في غيره، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين، وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم.
وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهوديين بأنه صلى الله عليه وسلم نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة، وألزمهم العمل به ظاهرًا لتحريفهم كتابهم، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصًّا بهذه الواقعة.
وقال ابن حجر بعد نقله كلام القرطبي المذكور، كذا قال: والثاني مردود، ثم قال: وقال النووي: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعلّ الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعيّن أنهما أقرّا بالزنى.
ثم قال ابن حجر: قلت: لم يثبت أنهما كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك بقية اليهود، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلامهم، ولم يحكم فيهما إلاّ مستندًا لما أطلعه اللَّه تعالىٰ عليه، فحكم بالوحي، وألزمهم الحجّة بينهم؛ كما قال تعالىٰ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَ}، وأن شهودهم شهدوا عليهما عند إخبارهم بما ذكر، فلما رفعوا الأمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستند حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ ما أطلعه اللَّه عليه، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر في «فتح الباري».
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل، هو مذهب الجمهور من عدم قبول شهادة الكفار مطلقًا؛ لأن اللَّه يقول في المسلمين الفاسقين: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ}، وإذا نصّ اللَّه جلّ وعلا في محكم كتابه على عدم قبول شهادة الفاسق، فالكافر أولى بذلك، كما لا يخفى. وقد قال جلّ وعلا في شهود الزنا، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منه: {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ}،فخصّ الأربعة بكونهم منّا، ويمكن أن يجيب المانع بأن أوّل الآية فيه {مّن نِّسَائِكُمُ}، فلا نتناول نساء أهل الذمّة ونحوهم من الكفّار، وأنه لا تقبل شهادة كافر في شىء إلاّ بدليل خاص كالوصيّة في السفر، إذا لم يوجد مسلم؛ لأن اللَّه نصّ على ذلك بقوله: {يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ}.
والتحقيق أن حكمها غير منسوخ، لأن القرءان لا يثبت نسخ حكمه، إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه، والآيات التي زعم من ادّعى النسخ أنها ناسخة لها؛ كقوله: {ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ}، وقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء}، وقوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَد}.
والجمهور على أن الأعمّ لا ينسخ الأخص، خلافًا لأبي حنيفة.
أمّا حديث جابر المشار إليه الذي يفهم منه قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض في حدّ الزنى، فقد قال فيه أبو داود رحمه اللَّه في سننه: حدّثنا يحيىٰ بن موسى البلخي، ثنا أبو أُسامة، قال مجالد: أخبرنا عن عامر، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجلين منكم»، الحديث. وفيه: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برجمهما، انتهى محل الغرض منه.
وظاهر المتبادر منه: أن الشهود الذين شهدوا من اليهود كما لا يخفى، فظاهر الحديث دال دلالة واضحة على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، في حدّ الزنى، إن كان صحيحًا، والسند المذكور الذي أخرجه به أبو داود لا يصحّ؛ لأن فيه مجالدًا وهو مجالد بن سعيد بن عمير بن بسطام بن ذي مران بن شرحبيل الهمداني أبو عمرو، ويقال أبو سعيد الكوفي، وأكثر أهل العلم على ضعفه، وعدم الاحتجاج به، والإمام مسلم بن الحجاج، إنما أخرج حديثه مقرونًا بغيره، فلا عبرة بقول يعقوب بن سفيٰن، إنه صدوق، ولا بتوثيق النسائي له مرة، لأنه ضعفه مرة أخرى، ولا بقول ابن عدي أن له عن الشعبي، عن جابر أحاديث صالحة؛ لأن أكثر أهل العلم بالرجال على تضعيفه، وعدم الاجتجاج به. أمّا غير مجالد من رجال سند أبي داود فهم ثقات معروفون؛ لأن يحيىٰ بن موسى البلخي ثقة، وأبو أُسامة المذكور فيه هو حماد بن أُسامة القرشي مولاهم، وهو ثقة ثبت، ربما دلس وكان بأخرة يحدث من كتب غيره، وعامر الذي روى عن مجالد هو الإمام الشعبي، وجلالته معروفة.
والحاصل: أن مثل هذا السند الذي فيه مجالد المذكور، لا يجب الرجوع إليه عن عموم النصوص الصحيحة المقتضية، أن الكفار لا تقبل شهادتهم مطلقًا، واللَّه تعالىٰ أعلم.
الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في اشتراط اتّحاد المجلس لشهادة شهود الزنا، وعلى اشتراط ذلك لو شهدوا في مجلسين أو مجالس متفرّقة، بطلت شهادتهم، وحدّوا حدّ القذف. وعلى عدم اشتراط اتّحاد المجلس تصح شهادتهم ولو جاءُوا متفرّقين، وأدّوا شهادتهم في مجالس متعدّدة، وممن قال باشتراط اتّحاد المجلس: مٰلك وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه. وممّن قال بعدم اشتراط اتّحاد المجلس: الشافعي، وعثمٰن البتي، وابن المنذر.
قال في المغني: وإنما قالوا بعدم اشتراط ذلك لقوله تعالىٰ: {لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء}، ولم يذكر المجلس. وقال تعالىٰ: {فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ}، ولأن كل شهادة مقبولة، إن اتّفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات، ولنا أن أبا بكرة، ونافعًا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر رضي اللَّه عنه على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحدّ الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدّهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة فحدّهم، ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط اتّحاد المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات.
وأمّا الآية فإنها لم تتعرّض للشروط، ولهذا لم تذكر العدالة، وصفة الزنى، ولأن قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ}، لا يخلو من أن يكون مطلقًا في الزمان كله أو مقيّدًا، ولا يجوز أن يكون مطلقًا؛ لأنه يمنع من جواز جلدهم، لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به، فيكون تناقضًا، وإذا ثبت أنه مقيّد فأولى ما قيّد به المجلس، لأن المجلس كلّه بمنزلة الحال الواحدة، ولهذا ثبت فيه خيار المجلس، واكتفى فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا، فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءُوا متفرّقين واحدًا بعد واحد في مجلس واحد، قبلت شهادتهم.
وقال مٰلك وأبو حنيفة: إن جاءُوا متفرّقين فهم قذفة؛ لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم، فلم تقبل شهادتهم، كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة، فإن الشهود جاءُوا واحدًا بعد واحد وسمعت شهادتهم، وإنما حدّوا لعدم كمالها.
وفي حديثه أن أبا بكرة، قال: أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده، ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءُوا وكانوا مجتمعين، ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه، وإذا تفرّقوا في مجالس فعليهم الحدّ، لأن من شهد بالزنى، ولم يكمل الشهادة يلزمه الحدّ؛ لقوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، انتهى من «المغني» لابن قدامة.
وقد عرفت أقوال أهل العلم في اشتراط اتّحاد المجلس لشهادة شهود الزنى، وما احتجّ به كل واحد من الفريقين.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين عندي دليلاً هو قبول شهادتهم، ولو جاءُوا متفرّقين في مجالس متعدّدة، لأن اللَّه جلَّ وعلا صرّح في كتابه بقبول شهادة الأربعة في الزنى، فإبطالها مع كونهم أربعة بدعوى عدم اتّحاد المجلس إبطال لشهادة العدول بغير دليل مقنع يجب الرجوع إليه، وما وجه من اشتراط اتّحاد المجلس قوله به لا يتّجه كل الاتّجاه، فإن قال: الشهود معنا من يشهد مثل شهادتنا، انتظره الإمام، وقبل شهادته فإن لم يدعو زيادة شهود ولا علم الحاكم بشاهد أقام عليهم الحدّ، لعدم كمال شهادتهم، هذا هو الظاهر لنا من عموم الأدلّة، وإن كان مخالفًا لمذهب مٰلك، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
تنبيــه
اعلم أن مٰلكًا وأصحابه يشترط عندهم زيادة على أداء شهود الزنى شهادتهم في وقت واحد، أن يكونوا شاهدين على فعل واحد، فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد، لم تصح شهادتهم على الأصح من مذهب مٰلك؛ لاحتمال تعدّد الوطء وأن يكون الزاني نزع فرجه من فرجها بعد رؤية الأول، ورأى الثاني إيلاجًا آخر غير الإيلاج الذي رآه من قبله؛ لأن الأفعال لا يضمّ بعضها إلى بعض في الشهادة عندهم، ومتى لم تقبل شهادتهم حدّوا حدّ القذف. ومشهور مذهب مٰلك أيضًا: وجوب تفرقتهم، أعني شهود الزنى خاصّة، دون غيرهم من سائر الشهود.
ومعناه عندهم: أنه لا بدّ من إتيانهم مجتمعين، فإذا جاءُوا مجتمعين فرق بينهم عند أداء الشهادة فيسأل كل واحد منهم دون حضرة الآخرين، ويشهد كل واحد منهم، أنه رآه أدخل فرجه في فرجها، أو أولجه فيه، ولا بدّ عندهم من زيادة كالمرود في المكحلة ونحوه، ويجوز للشهود النظر إلى عورة الزانيين، ليمكنهم أن يؤدّوا الشهادة على وجهها، ولا إثم عليهم في ذلك، ولا يقدح في شهادتهم لأنه وسيلة إقامة حدّ من حدود اللَّه، ومحل هذا إن كانوا أربعة، فإن كانوا أقلّ من أربعة لم يجز لهم النظر إلى عورة الزاني إذ لا فائدة في شهادتهم، ولأنهم يجلدون حدّ القذف.
وقال بعض المالكية: لا يجوز لهم النظر إلى عورات الزناة، ولو كانوا أربعة، لما نبّه عليه الشرع من استحسان الستر، ويندب للحاكم عند المالكية سؤال الشهود في الزنى عمّا ليس شرطًا في صحة الشهادة، كأن يقول لكل واحد من الشهود بانفراده دون حضرة الآخرين: على أي حال رأيتهما وقت زناهما، وهل كانت المرأة على جنبها الأيمن، أو الأيسر، أو على بطنها، أو على قفاها، وفي أي جوانب البيت ونحو ذلك، فإن اختلفوا بأن قال أحدهم: كانت على قفاها، وقال الآخر: كانت على جنبها الأيمن ونحو ذلك بطلت شهادتهم؛ لدلالة اختلافهم على كذبهم، وكذلك إن اختلفوا في جانب البيت الذي وقع فيه الزنى.
ولا شكّ أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين، لأنهم إن كانوا صادقين لم يختلفوا، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم، وقد قدّمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى، وسؤالهم متفرّقين في قصّة سليمٰن وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمٰن بالصبيان، وجعل منهم شهودًا، وفرّقهم وسألهم متفرّقين عن لون الكلب الذي زنت به، فأخبر كل واحد منهم بلون غير اللون الذي أخبر به الآخر، فأرسل داود للشهود، وفرّقهم وسألهم متفرّقين عن لون الكلب الذي زنت به، فاختلفوا في لونه؛ كما تقدّم إيضاحه.
واعلم أن كلما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متّحدة لا فرق بينهما، كما لا يخفى.
الفرع الخامس: اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى، فقد اختلف أهل العلم هل قبل شهادتهم، نظرًا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى، أو لا تقبل؛ لأنه لم تشهد أربعة على زنى واحد، فكلّ زنى شهد عليه اثنان، ولا يثبت زنى باثنين.
قال ابن قدامة في «المغني»: الجميع قذفة وعليهم الحدّ، وبهذا قال مٰلك، والشافعي، واختار أبو بكر أنه لا حدّ عليهم، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنهم كملوا أربعة، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد، فوجب عليهم الحدّ كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما. فأمّا المشهود عليه، فلا حدّ عليه في قولهم جميعًا، وقال أبو بكر: عليه الحدّ، وحكاه قولاً لأحمد، وهذا بعيد، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة، فلم يجب الحدّ، ولأن جميع ما تعتبر له البيّنة يعتبر فيه كمالها في حقّ واحد، فالموجب للحدّ أولى؛ لأنه ممّا يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات؛ وقد قال أبو بكر: إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله، انتهى منه. ثم قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى، وكانت الزاويتان متباعدتين، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم، وحدّ المشهود عليه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا حدّ عليه، لأن شهادتهم لم تكمل، ولأنهم اختلفوا في المكان، فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم، سواء تقاربت الزاويتان، أو تباعدتا، ولنا أنها إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتّفقوا، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلاً واحدًا.
فإن قيل: فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين، فلم أوجبتم الحدّ مع الاحتمال، والحدّ يدرأ بالشبهات؟
قلنا: ليس هذا بشبهة، بدليل ما لو اتّفقوا على موضع واحد، فإن هذا يحتمل فيه والحدّ واجب، والقول في الزمان كالقول في هذا، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم، ومتى تقاربا كملت شهادتهم، انتهى من «المغني».
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متّحد ووقت متّحد؛ فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدّوا، لأنهما فعلان، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول، فلم يثبت واحد منهما. والقول بتلفيق شهادتهم، وضمّ شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر، وقد علمت أن مٰلكًا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متّحد، فلو نظروا واحدًا بعد واحد مع اتّحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وله وجه.
الفرع السادس: إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خزّ.
فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا؟ فقال بعضهم: لا تكمل شهادتهم؛ لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين، وممن روي عنه ذلك الشافعي، وقال بعضهم: تكمل شهادتهم قائلاً: إنه لا تنافي بين الشهادتين؛ لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين، وتركا ذكر الآخر، فيكون الجميع صادقين؛ لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه، فلا تنافي، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر، وعليه هو قميص أبيض كعكسه، أو عليه هو ثوب كتان، وعليها هي ثوب خزّ كعكسه، فيمكن صدق الجميع؛ وإذا أمكن صدقهم فلا وجه لردّ شهادتهم، وبهذا جزم صاحب المغني موجّهًا له بما ذكرنا.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبًا واحدًا أحمر، وجزم الآخران أن عليه ثوبًا واحدًا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين، وإن اتّفقوا على أن عليه ثوبين مثلاً أحدهما أحمر، والثاني أبيض، وذكر كل اثنين أحد الثوبين، فلا إشكال في كمال شهادتهم؛ لاتّفاق الشهادتين. وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم، أو غيبتهم غيبة يتعذّر معها سؤالهم، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم؛ لاحتمال تخالف شهادتهما، ومطلق احتمال اتّفاقهما لا يكفي في إقامة الحدّ؛ لأن الحدّ يدرأ بالشبهات، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه.
والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدّون حدّ القذف. أمّا في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم، فإن فسروا. بما يقتضي كمال شهادتهم حدّ المشهود عليه بشهادتهم، وإن فسّروا بما يوجب بطلان شهادتهم، فالظاهر أنهم يحدّون حدّ القذف؛ كما قدّمنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع السابع: إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة، فلا حدّ على المرأة إجماعًا؛ لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحدّ، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود.
قال ابن قدامة في «المغني»: وفي الرجل وجهان:
أحدهما: لا حدّ عليه، وهو قول أبي بكر، والقاضي وأكثر الأصحاب، وقول أبي حنيفة، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن البيّنة لم تكمل على فعل واحد، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتمّ العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع قبول الشهادة، أو يكون شبهة في درء الحدّ ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذّبًا للآخر إلاّ بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما، مكرهة في الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها، ولم تكمل البيّنة عليها، فلا تقبل شهادتهما على غيرها.
والوجه الثاني: أنه يجب الحدّ عليه، اختاره أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمّد، ووجه ثان للشافعي؛ لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله، فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
وفي الشهود ثلاثة أوجه:
أحدها: لا حدّ عليهم، وهو قول من أوجب الحدّ على الرجل بشهادتهم.
والثاني: عليهم الحدّ لأنهم شهدوا بالزنى، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحدّ، كما لو لم يكمل عددهم.
والثالث: يجب الحدّ على شاهدي المطاوعة، لأنهما قذفا المرأة بالزنى، ولم تكمل شهادتهم عليها، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة، وقد كملت شهادتهم على الرجل، وإنما انتفى عنه الحدّ للشبهة.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع، وأظهر أقوالهم عندي فيه: أن الرجل والمرأة لا حدّ على واحد منهما، وأن على الشهود الأربعة حدّ القذف. أمّا نفي الحدّ عن المرأة، فلا خلاف فيه، ووجهه ظاهر؛ لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى. وأمّا نفي الحدّ عن الرجل، فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذّبان الشاهدين بالإكراه كعكسه، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذّبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد؛ لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حدّه هو الأظهر، أمّا وجه حدّ الشهود، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدّهما لقذفهما المرأة ظاهر جدًّا؛ ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها، ولم تكمل شهادتهم؛ لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدّهما لقذفهما للرجل، ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر. أمّا كون الأربعة قد اتّفقت شهادتهم على أنه زنى بها، فيردّه أن كل اثنين منهما يكذّبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر، فثبوت الأمرين طريقه واحدة.
الفرع الثامن: اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمّت شهادتهم على الوجه المطلوب، فقالت إنها عذراء، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل. فقد اختلف أهل العلم: هل تدرأ شهادة النساء عنها الحدّ أو لا؟ فذهب مٰلك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحدّ ولا يلتفت لشهادة النساء، وعبارة المدونة في ذلك: إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول، فقالت: إنها عذراء ونظر إليها النساء، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحدّ. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وبالبيّنة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحدّ، وهو مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة في «المغني»: وبه قال الشعبي، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي ووجه قول مٰلك وأصحابه بأنها يقام عليها الحدّ، هو أن الشهادة على زناها تمّت بأربعة عدول، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحدّ هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرًا؛ لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم توطأ في قُبُلِهَا، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحدّ، كما لو قامت البيّنة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب.
وقال ابن قدامة في «المغني»: ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة، لأنها مقبولة فيما لا يطّلع عليه الرجال، يعني البكارة المذكورة، انتهى. وأمّا الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حدّ عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة.
وقال صاحب «المغني»: وإنما لم يجب الحدّ عليهم لكمال عدّتهم، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها، ثم عادت عذرتها، فيكون ذلك شبهة في درء الحدّ عنهم. وأمّا إن شهدت بيّنة على رجل بالزنى فثبت ببيّنة أخرى أنه مجبوب، أو شهدت بيّنة على امرأة بالزنى فثبت ببيّنة أخرى أنها رتقاء، فالظاهر وجوب حدّ القذف على بيّنة الزنى، لظهور كذبها؛ لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما، كما هو معلوم.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى، ووجوب الحدّ رجمًا كان أو جلدًا بإقرار الزاني والزانية، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة، أو لا يكفي ذلك حتى يقرّ به أربع مرات؟ فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، والحكم: إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقرّ به أربع مرات، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى: أن يكون ذلك في أربع مجالس، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد. وذهب مٰلك، والشافعي، والحسن، وحمّاد، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الزّنىٰ يثبت بالإقرار مرّة واحدة.
أمّا حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة، فمنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»، فاعترفت فرجمها. وفي رواية في الصحيح: فأعترفت فأمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرجمت، قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنهما ظاهرًا ظهورًا واضحًا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرّة واحدة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: «فإن اعترفت فارجمها»، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، إذ لو كان الاعتراف أربع مرّات لا بدّ منه لقال له صلى الله عليه وسلم: فإن اعترفت أربع مرّات فارجمها، فلمّا لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
ومن أدلّتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبيّ اللَّه، أصبت حدًّا فأقمه عليّ، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم وليّها فقال: «أحسن إليها فإذا وضعت فأْتني بها»،، ففعل فأمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلّى عليها، فقال له عمر: تصلّي عليها يا نبيّ اللَّه وقد زنت؟ فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها للَّه تعالىٰ»، هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو نصّ صحيح في أنه صلى الله عليه وسلم، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة؛ لأنها قالت: إني أصبت حدًّا، مرة واحدة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر برجمها من غير تعدّد الإقرار؛ لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة.
ومن أدلّتهم على ذلك أيضًا: ما ثبت في الصحيح من قصّة الغامدية التي جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول (صلى الله عليه وسلم)، إني قد زنيت فطهّرني، وأنه ردّها، فلمّا كان من الغد، قالت: يا رسول اللَّه، لم تردّني لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فواللَّه إني لحبلى، فقال: «أما لا فاذهبي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتّه، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبيّ اللَّه، قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبيّ إلى رجل من السلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبّها، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبّه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له»، ثم أمر بها فصلّي عليها ودفنت، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، وهو من أصرح الأدلّة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة؛ لأن الغامدية المذكورة لمّا قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلّك أن تردّني كما رددت ماعزًا، لم ينكر ذلك عليها، ولو كان الإقرار أربع مرّات شرطًا في لزوم الحدّ لقال لها إنما رددته، لكونه لم يقرّ أربعًا.
وقد قال الشوكاني في «نيل الأوطار»، بعد ذكره لهذه الواقعة: وهذه الواقعة من أعظم الأدلّة الدالَّة على أن تربيع الإقرار، ليس بشرط للتصريح فيها، بأنها متأخرة عن قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي، اهـ منه.
وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث سليمٰن بن بريدة عن أبيه، ما نصّه: قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول اللَّه طهّرني، فقال: «ويحك ارجعي فاستغفري اللَّه وتوبي إليه»، فقالت: أراك تريد أن تردّني كما رددت ماعز بن مٰلكٰ قال: «وما ذاك»؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: «آنت»؟ قالت: نعم، فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك»، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: «إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه»، فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبيّ اللَّه، قال: فرجمها، اهـ منه.
وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرّة واحدة إلى غير ذلك من الأدلّة الدّالة على عدم اشتراط تكرّر الإقرار بالزنا أربعًا، وأمّا حجة من قالوا: يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا، أن يقرّ به أربع مرّات، وأنه لا يجب عليه الحدّ إلا بالإقرار أربعًا، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه المتفق عليه، قال: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول اللَّهٰ إني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتنحّى لشقّ وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول اللَّهٰ إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقّ وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبك جنون»؟ قال: لا يا رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «أحصنت»؟ قال: نعم، قال: «اذهبوا فارجموه»، الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم: فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبك جنون»؟ قال: لا، قال: «فهل أحصنت»؟ قال: نعم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه» اهــ.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه، أي: أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط؛ لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحدّ على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه، دليل على اشتراط الأربع المذكورة، والرجل المذكور في هذا الحديث، هو ماعز بن مٰلك وقصّته مشهورة صحيحة، وفي ألفاظ رواياتها ما يدلّ على أنه لم يرجمه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات؛ كما رأيت في الحديث المذكور آنفًا، وقد علمت مما ذكرنا ما استدلّ به كل واحد من الفريقين.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي: هو الجمع بين الأحاديث الدالّة على اشتراط الأربع، والأحاديث الدالّة على الاكتفاء بالمرة الواحدة؛ لأن الجمع بين الأدلّة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي، عن إقامة الحدّ بعد صدور الإقرار مرّة على من كان أمره مُلْتبسًا في صحّة عقله، واختلاله، وفي سكره، وصحوه من السكر، ونحو ذلك. وحمل أحاديث إقامة الحدّ بعد الإقرار مرّة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر، وسلامة إقراره من المبطلات، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في «نيل الأوطار».
ومما يؤيّده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلّها في قصّة ماعز، وقد دلّت روايات حديثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يدري أمجنون هو أم لا؟ صاحٍ هو أو سكران؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفًا: «أبك جنون»؟ وسؤاله صلى الله عليه وسلم لقومه عن عقله، وسؤاله صلى الله عليه وسلم: «أشرب خمرًا»؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، وكل ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قويّ على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحدّ الذي هو الزنى تصريحًا ينفي كل احتمال؛ لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبًا للحدّ.
ويدلّ لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: إنه زنى، «لعلّك قَبَّلْتَ أو غمزت أو نظرت»؟ قال: لا، قال: «أفنكتها»؟ ــ لا يَكْنِى ــ، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر اللَّه فإنه غفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمّت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقرّ أنه زنى مرّة واحدة فصارت الشهادة تامّة، والإقرار غير تامّ عند من يشترط أربعًا.
فأظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحدّ يقام عليه لكمال البيّنة خلافًا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحدّ؛ لأن شرط صحة البيّنة الإنكار، وهذا غير منكر.
وقال ابن قدامة في «المغني»: إن سقوط الحدّ بإقراره مرة قول أبي حنيفة اهـــ. وكذلك لو تمّت عليه شهادة البيّنة وأقرّ على نفسه أربع مرّات، ثم رجع عن إقراره، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحدّ عليه بشهادة البيّنة، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا أقرّ بزنى قديم قبل إقراره، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقرّ إلا بعد زمن طويل؛ لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقًا، سواء تقادم عهده، أو لم يتقادم، وكذلك شهادة البيّنة، فإنها تقبل، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن؛ لأن عموم النصوص يقتضي ذلك، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها، خلافًا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم: إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير.
وقال ابن قدامة في «المغني»: وإن شهدوا بزنى قديم أو أقرّ به وجب الحد، وبهذا قال مٰلك، والأوزاعي، والثوري، واسحٰق، وأبو ثور.
وقال أبو حنيقة: لا أقبل بيّنة على زنىٰ قديم وأحدّه بالإقرار به، وهذا قول ابن حامد، وذكره ابن أبي موسى مذهبًا لأحمد، اهـ منه.
أمّا قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحدّ به فلا وجه للعدول عنه بحال؛ لأنه مقرّ على نفسه، ولا يتّهم في نفسه.
وأمّا شهادة البيّنة بزنا قديم، فالأظهر قبولها، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفًا. وحجّة أبي حنيفة، ومن وافقه في ردّ شهادة البيّنة على زنا قديم، هو أن تأخير الشهادة، يدلّ على التهمة فيدرأ ذلك الحدّ.
وقال في «المغني»: ومن حجّتهم على ذلك ما روي عن عمر، أنّه قال: أيّما شهود شهدوا بحدّ لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن، ثم قال: رواه الحسن مرسلاً، ومراسيل الحسن ليست بالقوية، اهـــ منه.
وقد قدّمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الرابع: اعلم أنه إن أقرّ بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته، وقالت: إنه لم يزن بها.
فأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه يجب عليه حدّ الزنى بإقراره، وحدّ القذف أيضًا؛ لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأتِ بأربعة شهود فوجب عليه حدّ القذف.
وقال في «المغني»: وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا حدّ عليه، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكومًا بكذبه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : وجوب الحدّ عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه، ولا يمكن أن يصحّ خلافه لأمرين:
الأوّل: أنه أقرّ على نفسه بالزنا إقرارًا صحيحًا، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح، بل نحن لم نصدقها، ولم نقل إنها صادقة، ولكن انتفاء الحدّ عنها إنما وقع لأنها لم تقرّ، ولم تقم عليها بيّنة؛ فعدم حدّها لانتفاء مقتضيه، لا لأنها صادقة كما ترى.
الأمر الثاني: ما رواه أبو داود في سننه: حدّثنا عثمٰن بن أبي شيبة، ثنا طلق بن غنام، ثنا عبد السّلام بن حفص، ثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً أتاه، فأقرّ عنده أنه زنى بامرأة سمّاها له، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحدّ وتركها، اهـــ منه. وعبد السّلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي: إنه غير معروف؛ لأن من حفظ حجّة على من لم يحفظ.
والحديث المذكور نصّ في أن المقرّ يقام عليه الحدّ وهو واضح؛ لأن من أقرّ على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحدّ عليه. وأمّا كونه يحدّ مع ذلك حدّ القذف فظاهر أيضًا، ويدلّ عليه عموم قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، والأخذ بعموم النصوص واجب، إلا بدليل مخصّص يجب الرجوع إليه، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفًا عند أبي داود ليس فيه أن النبيّ حدّ الرجل المذكور حدّ القذف، بل حدّ الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار»: وحدّه للزنا والقذف معًا هو الظاهر، لوجهين:
الأول: أن غاية ما في حديث سهل: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحدّ ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط؛ لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط، إلى أن قال: الوجه الثاني: أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف، اهـــ منه. وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مٰلك أنه عيّن الجارية التي زنا بها، ولم يحدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم لقذفها بل حدّه للزنا فقط، فإن ترك حدّه لم يوجه بما قدمنا قريبًا.
وعلى كل حال فمن قال: زنبت بفلانة فلا شكّ أنه مقرّ على نفسه بالزنا، وقاذف لها هي به، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه، وحدّه أيضًا حدّ القذف؛ لأنه قاذف بلا شكّ، كما ترى.
ومما يؤيّد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن يحيـىٰ بن فارس، ثنا موسى بن هٰرون البردي، ثنا هشام بن يوسف، عن القٰسم بن فياض الأبناوي، عن خلاد بن عبد الرحمٰن، عن ابن المسيّب، عن ابن عباس: أن رجلاً من بني بكر بن ليث أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقرّ أنه زنى بامرأة أربع مرّات، فجلده مائة وكان بكرًا، ثم سأله البيّنة على المرأة، فقالت: كذب واللَّه يا رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فجلده حدّ الفرية ثمانين، اهـ.
فإن قيل: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسناده القٰسم بن فياض الأبناوي الصنعاني، قال فيه ابن حجر في التقريب: مجهول. وقال فيه الذهبي في «الميزان»: ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين، فالجواب من وجهين:
الأول: أن القٰسم المذكور قال فيه أبو داود ثقة، كما نقله عنه الذهبي في الميزان، والتعديل يقبل مجملاً، والتجريح لا يقبل مجملاً، كما تقدّم.
الثاني: أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حدّ القذف، وحدّ الزنا إن قال: أنه زنى بامرأة عيّنها فأنكرت، معتضد اعتضادًا قويًّا بظواهر النصوص الدالّة على مؤاخذته بإقراره، والنصوص الدالّة على أن من قذف امرأة بالزنى، فأنكرت ولم يأت ببيّنة أنه يحدّ حدّ القذف.
فالحاصل: أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحدّ حدّ القذف وحدّ الزنا، وهو مذهب مٰلك، وقد نصّ عليه في المدونة خلافًا لمن قال يحدّ حدّ الزنا فقط، كأحمد والشافعي، ولمن قال: يحدّ حدّ القذف فقط، ويؤيّد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مٰلك وأصحابه: من أن الرجل لو قال لامرأة: زنيت، فقالت له: زنيت بك أنها تحدّ للقذف وللزنا معًا، ولا يحدّ الرجل لهما لأنها صدقته، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الخامس: اعلم أنه لا يصحّ إقرار المكره، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقرّ بالزنا فأقرّ به مكرهًا لم يلزمه إقراره به فلا يحدّ، ولا يثبت عليه الزنا، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الثالثة: اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبيّنة والإقرار، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب، أمّا ظهور الحمل بامرأة، لا يعرف لها زوج ولا سيّد، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحدْ به. فقال بعض أهل العلم: الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيّد يثبت عليها به الزنا، ويجب عليها الحدّ به، وقد ثبت هذا في حديث عمر رضي اللَّه عنه الذي قدمناه في قوله: إذا قامت البيّنة أو كان الحبل، أو الاعتراف. والحديث المذكور في الصحيحين وغيرهما كما تقدم. وقد صرّح فيه أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبيّنة والإقرار، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا، عمر رضي اللَّه عنه كما رأيت، ومٰلك وأصحابه. وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحدّ بمجرد الحبل، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيّد، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي، وأبي حنيفة، وجماهير أهل العلم، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، فهذه أدلّتهم.
أمّا الذين قالوا: إن الزنا يثبت بالحمل، إن لم يكن لها زوج ولا سيّد، فقد احتجّوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا، كالبيّنة والإقرار.
وقال ابن قدامة في «المغني»: إنما قال من قال: بوجوب الحدّ وثبوت الزنا بالحمل، لقول عمر رضي اللَّه عنه، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء، إذا كان محصنًا، إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي أن عثمٰن أُوتى بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمٰن أن ترجم، فقال عليّ: ليس لك عليها سبيل، قال اللَّه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر}، وهذا يدلّ على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو هذا، وروي عن عليّ رضي اللَّه عنه أنه قال: يا أيّها الناسٰ إن الزنا زناءان: زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر: أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، وزن العلانية: أن يظهر الحبل أو الاعتراف، فيكون الإمام أوّل من يرمي، وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف، فيكون إجماعًا، انتهى محل الغرض من «المغني».
وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة، هذا هو حاصل ما احتج به من قال: إن الزنا يثبت بالحمل.
وأما الذين قالوا: إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا، ولا يجب به الحدّ، بل لا بدّ من البيّنة أو الإقرار، فقد قال في «المغني»: حجّتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة يسقط بالشبهات، وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها، أو فعل غيرها، ولهذا تصوّر حمل البكر فقد وجد ذلك.
وأمّا قول الصحابة، فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد: حدّثنا خلف بن خليفة، حدثنا هاشم: أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، ليس لها زوج، وقد حملت فسألها عمر، فقالت: إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع عليّ رجل، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد. وروى البراء بن صبرة، عن عمر أنه أُوتي بامرأة حامل، فادّعت أنها أكرهت، فقال: خلّ سبيلها، وكتب إلى أمراء الأجناد، ألا يقتل أحد إلا بإذنه.
وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إذا كان في الحدّ لعل وعسى فهو معطل. وروى الدارقطني بإسناده عن عبد اللَّه بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر رضي اللَّه عنهم أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحدّ فادرأ ما استطعت، ولا خلاف في أن الحدّ يدرأ بالشبهات، وهي متحقّقة هنا، اهــ بلفظه من «المغني».
وانظر أيضًا أسانيد هذه الآثار التي ذكرها عن الصحابة، وهذا الذي ذكر هو حاصل ما احتجّ به الجمهور الذين قالوا إن الحبل لا يثبت به الزنا.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر قولي أهل العلم عندي: أن الزنا لا يثبت بمجرد الحبل، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيّد؛ لأن الحمل قد يقع لا شكّ من غير وطء في الفرج، بل قد يطأ الرجل المرأة في فخديها، فتتحرك شهوتها فينزل ماؤها وينزل الرجل، فيسيل ماؤه فيدخل في فرجها، فيلتقي ماؤه بمائها فتحمل من غير وطء وهذا مشاهد لا يمكن إنكاره.
ولأجل ذلك فالأصح أن الزوج إذا كان يطأ امرأته في الفخذين، ولم يجامعها في الفرج فظهر بها حمل أنه لا يجوز له اللعان لنفي ذلك الحمل؛ لأن ماءه قد يسيل إلى فرجها، فتحمل منه، وقول عمر رضي اللَّه عنه: إذا كان الحبل أو الاعتراف اجتهاد منه؛ لأنه يظهر له رضي اللَّه عنه أن الحمل يثبت به الزنا كالاعتراف والبيّنة.
وإنما قلنا: إن الأظهر لنا خلاف قوله رضي اللَّه عنه، لأنا نعلم أن وجود الحمل لا يستلزم الوطء في الفرج بل قد تحبل بدون ذلك، وإذا كان الحبل لا يستلزم الوطء في الفرج فلا وجه لثبوت الزنا، وإقامة الحدّ بأمر محتمل غير مستلزم لموجب الحدّ، كما ترى.
ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات، هذا هو الأظهر عندنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الذين قالوا: بوجوب الحدّ بالحمل قالوا: إن تلك الحامل إن كانت طارئة من بلاد أخرى، وادّعت أن حملها من زوج لها تركته في بلدها فلا حدّ عليها عندهم، ولا يثبت عليها الزنا بذلك الحمل.
الفرع الثاني: اعلم أنه إن ظهر بها حمل فادّعت أنها مكرهة لا يقبل دعواها الإكراه عند من يثبت الزنا بالحمل إلاّ إذا اعتضدت دعواها بما يقوّيها من القرائن كإتيانها صارخة مستغيثة ممّن فعل بها ذلك، وكأن تأتي متعلّقة برجل تزعم أنه هو الذي أكرهها وكأن تشتكي من الذي فعل بها ذلك قبل ظهور الحمل.
وقال بعض علماء المالكية: إن كانت شكواها من الرجل الذي فعل بها ذلك مشبهة لكون الرجل الذي ادّعت عليه غير معروف بالصلاح، فلا حدّ عليها، وإن كان الذي ادّعت عليه معروفًا بالصلاح، والعفاف، والتقوى حدث ولم يقبل قولها عليه.
وقال بعض المالكية: إن لم تسمّ الرجل الذي ادّعت أنه أكرهها تعزر، ولا تحدّ إن كانت معروفة بالصلاح والعفاف.
الفرع الثالث: قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي: أو مكرهة، ما نصّه: قال في الطراز أو في أواخر الجزء الثالث في ترجمة تفسير الطلاق، وما يلزم من ألفاظه، قال ابن عبد الغفور: ويقال إن عبد اللَّه بن عيسى سئل عن جارية بكر زوجها فابتنى بها زوجها فأتت بولد لأربعة أشهر، فذكر ذلك لها فقالت: إني كنت نائمة فانتهبت لبلل بين فخدي، وذكر الزوج أنه وجدها عذراء.
فأجاب فيها: أنها لا حدّ عليها إذا كانت معروفة بالعفاف، وحسن الحال، ويفسخ النكاح، ولها المهر كاملاً، إلا أن تكون علمت الحمل، وغرت فلها قدر ما استحلّ منها، انتهى من الاستغناء، انتهى كلام الطراز، انتهى ما نقله الحطاب، وهو يؤيّد أن الحمل قد يقع من غير وطء يوجب الحدّ كما ذكرنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الرابعة: اعلم أَن من ثبت عليه الزنا وهو محصن، اختلف أهل العلم فيه، فقال بعضهم: يجلد مائة جلدة أوّلاً ثم يرجم بعد ذلك، فيجمع له بين الجلد والرجم، وقال بعضهم: يرجم فقط ولا يجلد؛ لأن غير القتل يندرج في القتل، وممن قال بالجمع بينهما عليّ رضي اللَّه عنه، وهو إحدىٰ الروايتين عن الإمام أحمد. قال ابن قدامة في «المغني»: وبه قال ابن عباس، وأُبيّ بن كعب، وأبو ذرّ. ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره، وبه قال الحسن، وإسحٰق، وداود، وابن المنذر، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم مٰلك، وأبو حنيفة، والشافعي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي. واختاره أبو إسحٰق، الجوزجاني، وأبو بكر الأثرم، ونصراه في سننهما وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مروي عن عمر، وعثمٰن، وابن مسعود، قال ذلك كلّه ابن قدامة في «المغني»، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه النووي في شرح مسلم لجماهير العلماء.
وفي المسألة قول ثالث: وهو ما حكاه القاضي عياض، عن طائفة من أهل الحديث، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخًا ثيّبًا فإن كان شابًّا ثيّبًا اقتصر على الرجم.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلّتهم، أمّا الذين قالوا: يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم، فقد احتجّوا بأدلّة.
منها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صرّح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحًا ثابتًا عن ثبوتًا لا مطعن فيه.
قال مسلم بن الحجاج رحمه اللَّه في صحيحه: حدثنا يحيىٰ بن يحيىٰ التميمي، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حطان بن عبد اللَّه الرقاشي، عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الثيّب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم، وهذا اللفظ أخرجه مسلم أيضًا بإسناد آخر. وفي لفظ في صحيح مسلم: «الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة»، وهو تصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما. وفي لفظ عند مسلم أيضًا: «والثيب يجلد ويرجم»، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه صلى الله عليه وسلم بالجمع بين الجلد والرجم.
ومن أدلّتهم على الجمع بينهما: أنّ عليًّا رضي اللَّه عنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب اللَّه، ورجمتها بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: حدّثنا ءادم، حدثنا شعبة، ثنا سلمة بن كهيل، قال: سمعت الشعبي يحدّث عن عليّ رضي اللَّه عنه، حين رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: قد رجمتها بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، انتهى منه.
وقال ابن حجر في «الفتح» في الكلام على هذا الحديث، ما نصّه في رواية عليّ بن الجعد: أنّ عليًّا أُتي بامرأة زنت فضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة إلى آخر ما ذكره من الروايات، بأن عليًّا ضربها ورجمها، وهي شراحة الهمدانية كما تقدّم. وفي رواية: أنها مولاة لسعيد بن قيس. ومن أدلّتهم على الجمع بينهما أن اللَّه تعالىٰ قال: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}، واللفظ عام في البكر والمحصن، ثم جاءت السنة بالرجم في حق المحصن والتغريب سنة في حقّ البكر، فوجب الجمع بينهما عملاً بدلالة الكتاب والسنّة معًا، كما قال عليّ رضي اللَّه عنه، قالوا: وقد شرع في كل من المحصن والثيب عقوبتان: أما عقوبتا الثيب: فهما الجلد والرجم، وأمّا عقوبنا البكر: فهما الجلد والتغريب.
هذا هو حاصل ما احتجّ به الذين قالوا: إنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم.
وأمّا الذين قالوا: يرجم فقط، ولا يجلد فاحتجّوا بأدلّة.
منها: أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا، ولم يجلده مع الرجم؛ لأن جميع الروايات في رجم ماعز بن مٰلك ليس في شىء منها أنه جلده مع الرجم بل ألفاظها كلّها مقتصرة على الرجم، قالوا: ولو كان الجلد مع الرجم لم ينسخ لأمر بجلد ماعز مع الرجم، ولو أمر به لنقله بعض رواة القصّة، قالوا: وقصّة ماعز متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه الذي فيه التصريح بالجمع بينهما.
والدليل على أن حديث عبادة متقدم وأنه أوّل نص نزل في حدّ الزنا أن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: «خذوا عني، قد جعل اللَّه لهنّ سبيلاً» الحديث، يشير بجعل اللَّه لهن سبيلاً بالحدّ، إلى قوله تعالىٰ: {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ}، فالزواني كن محبوسات في البيوت إلى أحد أَمرين: وهما الموت، أو جعل اللَّه لهن سبيلاً فلمّا قال صلى الله عليه وسلم: «قد جعل اللَّه لهن سبيلاً»، ثم فسر السبيل بحدّ الزنا علمنا بذلك أن حديث عبادة أوّل نص في حدّ الزنا، وأن قصة ماعز متأخرة عن ذلك.
ومن أدلّتهم أنه رجم الغامدية كما تقدم، ولم يقل أحد أنه جلدها، لو جلدها مع الرجم لنقل ذلك بعض الرواة.
ومن أدلّتهم: أنه قال صلى الله عليه وسلم: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»، ولم يقل فاجلدها مع الرجم، فدلّ ذلك على سقوط الجلد؛ لأنه لو وقع لنقله بعض الرواة. وهذه الوقائع كلّها متأخّرة عن حديث عبادة بن الصامت كما أشرنا إلى ما يقتضي ذلك آنفًا.
ومن أدلّتهم على أنه يرجم فقط، ولا يجلد مع الرجم الروايات الصحيحة التي قدّمناها في رجمه صلى الله عليه وسلم للمرأة الجهنية، والغامدية، فإنها كلها مقتصرة على الرجم، ولم يذكر فيها جلد. وقال أبو داود: قال الغساني: جهينة وغامد وبارق واحد، انتهى منه. وعليه فالجهنية هي الغامدية.
وعلى كل حال فجميع الروايات الواردة في رجم الغامدية، ورجم الجهنية ليس في شيء منها ذكر الجلد، وإنما فيها كلها الاقتصار على الرجم، وكذلك قصة اليهوديين اللذين رجمهما صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا الرجم ولم يذكر فيها جلد، هذا هو حاصل ما احتجّ به أهل هذا القول.
وأمّا الذين قالوا: إن الجمع بين الرجم والجلد خاص بالشيخ والشيخة. وأمّا الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم فقط إن أحصن، فقد احتجّوا بلفظ الآية التي نسخت تلاوتها، وهي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) إلى آخره، قالوا: فرجم الشيخ والشيخة ثبت بهذه الآية، وإن نسخت تلاوتها فحكمها باقٍ. وقال ابن حجر في «الفتح»: وقال عياض: شذّت فرقة من أهل الحديث، فقالت: الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب، ولا أصل له. وقال النووي: هو مذهب باطل كذا قاله، ونفى أصله، ووصفه بالبطلان إن أراد به طريقه فليس بجيد؛ لأنّه ثابت كما سأبيّنه في باب البكران يجلدان وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضًا؛ لأن الآية وردت بلفظ: (الشيخ) ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة فهو معنى مناسب، وفيه جمع بين الأدلّة فكيف يوصف بالبطلان، انتهى محل الغرض من «فتح الباري».
وقد قال صاحب «فتح الباري»: إن هذا القول حكاه ابن المنذر وابن حزم، عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذرّ وابن عبد البرّ، عن مسروق، انتهى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وحججهم، فاعلم أن كل طائفة منهم ترجّح قولها على قول الأخرى.
أمّا الذين قالوا: يجمع بين الجلد والرجم للمحصن، فقد قالوا هذا القول، هو أرجح الأقوال، ولا ينبغي العدول عنه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صرّح في حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه أن المحصن يجلد ويرجم بالحجارة، فهو حديث صحيح صريح في محل النزاع، فلا يعارض بعدم ذكر الجلد في قصة ماعز، والجهنية، والغامدية، واليهوديين؛ لأن ما صرّح به النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعدل عنه بأمر محتمل، ويجوز أن يكون الجلد وقع لماعز ومن ذكر معه ولم يذكره الرواة؛ لأن عدم ذكره لا يدلّ دلالة قطعية على عدم وقوعه، لأن الراوي قد يتركه لظهوره، وأنه معروف عند الناس جلد الزاني، قالوا: والمحصن داخل قطعًا في عموم {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}، وهذا العموم القرءاني لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وعدم ذكر الجلد مع الرجم لا يعارض الأدلّة الصريحة في القرءان، والسنّة الصحيحة. قالوا: وعمل أمير المؤمنين عليّ رضي اللَّه عنه به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم ينسخ، ولم يعلم أن أحدًا من الصحابة أنكر عليه ذلك، ولا تخفى قوّة هذا الاستدلال الذي استدلّ به أهل هذا القول.
وأمّا الذين قالوا: بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد، فقد رجحوا أدلّتهم بأنها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت، الذي فيه التصريح بالجمع بين الرجم والجلد، والعمل بالمتأخر أولى. والحق أنها متأخرة عن حديث عبادة المذكور؛ كما يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «قد جعل اللَّه لهنّ سبيلاً»، فهو دليل على أن حديث عبادة، هو أول نصّ ورد في حدّ الزنا كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالىٰ: {حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيل}، قالوا: ومن أصرح الأدلّة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرًا عنده: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه»، وهذا قسم منه صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بينهما بكتاب اللَّه، ثم قال في الحديث الذي أقسم على أنه قضاء بكتاب اللَّه: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»، قالوا: إن قوله: «فإن اعترفت» شرط، وقوله: «فارجمها» جزاء هذا الشرط، فدلّ الربط بين الشرط، وجزائه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب اللَّه تعالىٰ.
وهذا دليل من لفظ النبيّ الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا هو رجمها فقط، فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قضاء بكتاب اللَّه وهو متأخّر عن حديث عبادة، لما قدّمنا.
وهذا الدليل أيضًا قويّ جدًا، لأن فيه إقسامه صلى الله عليه وسلم بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتّب عليه الرجم، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم اقتصر على قوله: «فارجمها»، أو يكون قال مع ذلك فاجلدها، وترك الراوي الجلد، فإن كان قد اقتصر على الرجم، فذلك يدلّ على نسخ الجلد؛ لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده، لأن ربط الجزاء بالشرط يدلّ على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت، وإن كان قال مع الرجم: واجلدها، وحذف الراوي الجلد، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع؛ لأن حذف بعض جزاء الشرط مخلّ بالمعنى موهم غير المراد، والحذف إن كان كذلك فهو ممنوع، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله.
وقد أوضحنا في سورة «الأنعام»،في الكلام على قوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ}، أنه لا تعارض بين نصّين، مع اختلاف زمنهما؛ كما هو التحقيق.
وأمّا القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب، وإن وجهه ابن حجر بما ذكرنا، لا يخفى سقوطه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : دليل كل منهما قوي، وأقربهما عندي: أنه يرجم فقط، ولا يجلد مع الرجم لأمور:
منها: أنه قول جمهور أهل العلم. ومنها: أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز، والجهنية، والغامدية، واليهوديين، كلها متأخرة بلا شكّ عن حديث عبادة، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدّد طرقها.
ومنها: أن قوله الثابت في الصحيح: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»، تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن جزاء اعترافها رجمها، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء، وهو في الحديث الرجم فقط.
ومنها: أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ومنها: أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
قال بعضهم: ويؤيّده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة، فلا داعي للجلد معه؛ لاندراج الأصغر في الأكبر.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: إذا ثبت الزنا على الزاني فظنّ الإمام أنه بكر فجلده مائة، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن فإنه يرجم، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، وقد قال أبو داود رحمه اللَّه في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا (ح) وثنا ابن السرح المعنى، قال: أخبرنا عبد اللَّه بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه: أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجلد الحدّ، ثم أخبر أَنه محصن، فأمر به فرجم. قال أبو داود: روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج موقوفًا على جابر، ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب، لم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: إن رجلاً زنى فلم يعلم بإحصانه، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم.
حدّثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيىٰ البزاز، أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر: أن رجلاً زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم، اهــ من سنن أبي داود.
وقال الشوكاني رحمه اللَّه في «نيل الأوطار» في حديث أبي داود هذا، ما نصّه: حديث جابر بن عبد اللَّه سكت عنه أبو داود والمنذري، وقدمنا في أوّل الكتاب أن ما سكتا عنه، فهو صالح للاحتجاج به، وقد أخرجه أبو داود عنه من طريقين، ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا النسائي، اهــ منه.
الفرع الثاني: قد قدمنا في الروايات الصحيحة: أن الحامل من الزنا لا ترجم، حتى تضع حملها وتفطمه، أو يوجد من يقوم برضاعه؛ لأن رجمها وهي حامل فيه إهلاك جنينها الذي في بطنها وهو لا ذنب له، فلا يجوز قتله، وهو واضح مما تقدّم.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم، هل يحفر له أو لا يحفر له؟ فقال بعضهم: لا يحفر له مطلقًا، وقال بعضهم: يحفر لمن زنى مطلقًا، وقيل: يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتًا بالبيّنة دون الإقرار، واحتجّ من قال: بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي سعيد الخدري في قصة رجم ماعز، ولفظ مسلم في صحيحه في المراد من الحديث، قال: فما أوثقناه، ولا حفرنا له.. الحديث، وفيه التصريح من أبي سعيد في هذا الحديث الصحيح: أنهم لم يحفروا له. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على قول أبي سعيد:
فما أوثقناه، ولا حفرنا له ما نصّه: وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم، فلمّا كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم، وذكر بعده في حديث الغامدية، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. أما قوله: فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء. وأمّا الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء.
قال مٰلك، وأبو حنيفة، وأحمد رضي اللَّه عنهم في المشهور عنهم: لا يحفر لواحد منهما.
وقال قتادة، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأبو حنيفة في رواية: يحفر لهما.
وقال بعض المالكية: يحفر لمن يرجم بالبيّنة لا من يرجم بالإقرار.
وأما أصحابنا فقالوا: لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبيّنة أم بالإقرار.
وأمّا المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا.
أحدها: بستحب الحفر لها إلى صدرها، ليكون أستر لها.
والثاني: لا يستحب ولا يكره، بل هو إلى خيرة الإمام.
والثالث: وهو الأصح إن ثبت زناها بالبيّنة استحب، وإن ثبت بالإقرار فلا، ليمكنها الهرب إن رجعت. فمن قال بالحفر لهما احتجّ بأنه حفر للغامدية، وكذا لماعز في رواية، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة.
وأمّا من قال: لا يحفر فاحتجّ برواية من روى: فما أوثقناه، ولا حفرنا له، وهذا المذهب ضعبف؛ لأنه منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز.
وأمّا من قال بالتخيير فظاهر، وأمّا من فرَّق بين الرجل والمرأة، فيحمل رواية الحفر لماعز، على أنه لبيان الجواز، وهذا تأويل ضعيف، ومما احتجّ به من ترك الحفر حديث اليهوديين المذكور بعد هذا، وقوله جعل يجنأ عليها، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها. واحتجّوا أيضًا بقوله في حديث ماعز: فلما أذلقته الحجارة هرب، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة واللَّه أعلم، انتهى كلام النووي. وقد ذكر فيه أقوال أهل العلم في المسألة، وبين حججهم، وناقشها، وقد ذكر في كلامه، أن المشهور عن أبي حنيفة عدم الحفر للرجل والمرأة. والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل، وأنه لو ترك الحفر لهما معًا فلا بأس. قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي: ويحفر لها في الرجم لا له، وقال شارحه في تبيين الحقائق: ولا بأس بترك الحفر لهما؛ لأنه عليه الصّلاة والسّلام لم يأمر بذلك اهــ. وقال ابن قدامة في «المغني» في الفقه الحنبلي: وإن كان الزاني رجلاً أقيم قائمًا، ولم يوثق بشىء ولم يحفر له، سواء ثبت الزنا ببيّنة أو إقرار لا نعلم فيه خلافًا، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز.
قال أبو سعيد: لما أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، خرجنا به إلى البقيع فواللَّه ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنّه قام لنا، رواه أبو داود؛ ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقّه، فوجب ألا تثبت، وإن كان امرأة فظاهر كلام أحمد أنها لا يحفر لها أيضًا، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحدّ بالإقرار لم يحفر لها، وإن ثبت بالبيّنة حفر لها إلى الصدر.
قال أبو الخطاب: وهذا أصحّ عندي، وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر، وبريدة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة، رواه أبو داود، ولأنه أستر لها، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحدّ ثبت بالبيّنة، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار، فإنها تترك على حال، لو أرادت الهرب تمكّنت منه؛ لأن رجوعها عن إقرارها مقبول، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز، ولا لليهوديين، والحديث الذي احتجّوا به غير معمول به، ولا يقولون به، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدّها بإقرارها، ولا خلاف بيننا فيها، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشدّ عليها كيلا تنكشف. وقد روى أبو داود بإسناده عن عمران بن حصين، قال: فأمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ولأن ذلك أستر لها، اهــ من «المغني».
وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلّتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أقوى الأقوال المذكورة دليلاً بحسب صناعة أصول الفقه، وعلم الحديث: أن المرجوم يحفر له مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى، ثبت زناه ببيّنة أو بإقرار، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد في صحيح مسلم: فما أوثقناه ولا حفرنا له، يقدم عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة، بلفظ: فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، اهــ. وهو نصّ صحيح صريح في أنّ ماعزًا حفر له.
وظاهر الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الحافر له، أي بأمره بذلك فبريدة مثبت للحفر، وأبو سعيد نافٍ له، والمقرّر في الأصول وعلم الحديث: أن المثبت مقدم على النافي، وتعتضد رواية بريدة هذه بالحفر لماعز بروايته أيضًا في صحيح مسلم بنفس الإسناد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالحفر للغامدية إلى صدرها، وهذا نصّ صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معًا، أمّا الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها، وأمّا الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم مقدّمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم بعدم الحفر؛ لأن المثبت مقدم على النافي.
وقول ابن قدامة في «المغني»: والحديث الذي احتجّوا به غير معمول به ظاهر السقوط؛ لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم كما ترى، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم من حديث بريدة: أنه صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية، وزناها ثبت بإقرارها، لا ببيّنة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم فقال بعضهم: إن كان الزنا ثابتًا ببيّنة، فالسنّة أن يبدأ الشهود بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم، إن كان ثبت عنده، ثم يرجم الناس بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد، ومن وافقهما. واستدلّوا لبداءة الشهود، وبداءة الإمام بما ذكره ابن قدامة في الفقه الحنبلي، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي.
قال صاحب «المغني»: وروى سعيد بإسناده عن عليّ رضي اللَّه عنه، أنّه قال: الرجم رجمان، فما كان منه بإقرار فأوّل من يرجم الإمام ثم الناس، وما كان ببيّنة، فأول من يرجم البيّنة ثم الناس؛ ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه، اهــ منه.
وحاصل هذا الاستدلال: أثر مروي عن عليّ، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي. اهــ.
وقال صاحب «تبيين الحقائق» في شرحه لقول صاحب «كنزل الدقائق»: يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس، ويبدأ الإمام، ولو مقرًّا ثم الناس.
ما نصّه: أي يبدأ الشهود بالرجم. وقال الشافعي: لا تشترط بداءتهم اعتبارًا بالجلد، ولنا ما روي عن عليّ رضي اللَّه عنه أنّه قال حين رجم شراحة الهمدانية: إن الرجم سنّة سنّها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أوّل من يرمي الشاهد يشهد، ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرّت فأنا أوّل من رماها بحجر. قال الراوي: ثم رمى الناس وأنا فيهم، ولأن الشاهد ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد، فإن كل أحد لا يحسنه، فيخاف أن يقع مهلكًا أو متلفًا لعضو، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم؛ لأن الإتلاف فيه متعيّن.
قال رحمه اللَّه: فإن أبوا سقط، أي: إن أبى الشهود من البداءة سقط الحدّـ لأنه دلالة الرجوع، وكذلك إن امتنع واحد منهم، أو جنّوا، أو فسقوا، أو قذفوا فحدّوا أو أحدهم، أو عمى، أو خرس، أو ارتدّ، والعياذ باللَّه تعالىٰ؛ لأن الطارىء على الحدّ قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء، وكذا إذا غابوا أو بعضهم، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه تعالىٰ، وإحدىٰ الروايتين عن أبي يوسف، وروي عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا، رجم الإمام. ثم الناس، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة، ذكره في النهاية.
قال رحمه اللَّه: ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر عليّ رضي اللَّه عنه، ويقصدون بذلك مقتله إلاّ من كان منهم ذا رحم محرم منه، فإنه لا يقصد مقتله؛ لأن بغيره كفاية.
وروي أن حنظلة استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه، وكان كافرًا فمنعه من ذلك، وقال: «دعه يكفيك غيرك»؛ ولأنه مأمور بصلة الرحم، فلا يجوز القطع من غير حاجة.
قال رحمه اللَّه: ويبدأ الإمام، ولو مقرًّا ثم الناس، أي: يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرًّا لما روينا من أثر عليّ رضي اللَّه عنه؛ ورمى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغامدية بحصاة مثل الحمصة، ثم قال للناس: «ارموا»، وكانت أقرّت بالزنا، انتهى محل الغرض من «تبيين الحقائق» ممزوجًا بنص «كنزل الدقائق».
هذا حاصل ما استدلّ به من قال ببداءة الشهود أو الإمام.
وذهب مٰلك وأصحابه ومن وافقهم، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام، ولا غيرهم. واحتجّ مٰلك لهذا بأنه لم يعلم أحدًا من الأئمة تولى ذلك بنفسه، ولا ألزم به البيّنة.
قال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي: ولم يعرف بداءة البيّنة، ولا الإمام، ما نصّه: قال مٰلك: مذ أقامت الأئمة الحدود، فلم نعلم أحدًا منهم تولّى ذلك بنفسه، ولا ألزم ذلك البيّنة خلافًا لأبي حنيفة القائل: إن ثبت الزنا ببيّنة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس، اهــ منه. واستدلّ له بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبدأ برجم ماعز، وأنه قال لأنيس: «فإن اعترفت فارجمها»، ولم يحضر صلى الله عليه وسلم ليبدأ برجمها، وقول مٰلك رحمه اللَّه إنه لم يعلم أحدًا تولّى ذلك بنفسه من الأئمّة، ولا ألزم به البيّنة يدلّ على أنه لم يبلغه أثر عليّ أو بلغه ولم يصح عنده. وكذلك الحديث المرفوع الذي استدلّ به القائلون ببداءة الشهود والإمام، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رمى الغامدية بحصاة كالحمّصة، ثم قال للناس: «ارموا».
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أمّا هذا الحديث المرفوع، فليس بثابت، ولا يصلح للاحتجاج؛ لأن في إسناده راويًا مبهمًا.
قال أبو داود رحمه اللَّه في سننه: حدثنا عثمٰن بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، عن زكريا أبي عمران، قال: سمعت شيخًا يحدّث عن ابن أبي بكرة، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة، ثم قال أبو داود: حُدثت عن عبد الصّمد بن عبد الوارث، قال: حدّثنا زكرياء بن سليم بإسناده نحوه زاد:
ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قال: «ارموا واتّقوا الوجه» الحديث، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال: سمعت شيخًا يحدّث عن ابن أبي بكرة، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة لم يدرِ أحد من هو، فهو مبهم، والمبهم مجهول العين والعدالة، فلا يحتجّ به، كما ترى. وقال صاحب «نصب الراية» في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود التي سقناها آنفًا: رواه النسائي في الرجم.
حدثنا محمد بن حاتم عن حبان بن موسى، عن عبد اللَّه، عن زكريا أبي عمران البصري، قال: سمعت شيخًا يحدث عن عبد الرحمٰن بن أبي بكرة بهذا الحديث بتمامه، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه.
قال البزار: ولا نعلم أحدًا سمّى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم، وذكره عبد الحقّ في أحكامه من جهة النسائي، ولم يعلّه بغير الانقطاع، اهــ منه. وأي علّة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور.
فتحصّل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج.
أمّا الأثر المروي عن عليّ رضي اللَّه عنه، فقد قال البيهقي في سننه الكبرى في باب من اعتبر حضور الإمام والشهود، وبداءة الإمام بالرجم، ما نصّه: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحٰق الصغاني، ثنا أبو الجواب، ثنا عمّار هو ابن رزيق، عن أبي حصين عن الشعبي، قال: أتى عليّ رضي اللَّه عنه بشراحة الهمدانية قد فجرت فردّها حتى ولدت، فلما ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء منها، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها، ثم قال: جلدتها بكتاب اللَّه، ورجمتها بالسنّة، ثم قال: أيّما امرأة نعى عليها ولدها أو كان اعتراف، فالإمام أوّل من يرجم، ثم الناس، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم، ثم الإمام، ثم الناس. وأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحٰق المزكي، أنبأ أبو عبد اللَّه محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ الأجلح عن الشعبي، قال: جيء بشراحة الهمدانية إلى عليّ رضي اللَّه عنه، فقال لها: ويلك لعلّ رجلاً وقع عليك وأنت نائمة؟ قالت: لا، قال لعلّك استكرهت؟ قالت: لا، قال: لعلّ زوجك من عدوّنا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه، يلقنها لعلّها تقول نعم، قال: فأمر بها فحبست، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة فأحاط الناس بها، وأخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرجم، إنما يصيب بعضكم بعضًا، صفّوا كصفّ الصلاة صفًّا خلف صفّ؛ ثم قال: أيّها الناس أيّما امرأة جيء بها وبها حبل، يعني: أو اعترفت، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، وأيّما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا فالشهود أوّل من يرجم، ثم الإمام ثم الناس، ثم أمرهم فرجم صفّ ثم صف، ثم قال: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم.
قال الشيخ رحمه اللَّه: قد ذكرنا أن جلد الثيّب صار منسوخًا، وأن الأمر صار إلى الرجم فقط، اهــ. من السنن الكبرى بلفظه، وذلك يدلّ على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلّى عليه، وهو كذلك، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم؛ كما هو معلوم.
وقال صاحب «نصب الراية» في أثر عليّ هذا، ما نصّه: قلت: أخرجه البيهقي في سننه عن الأجلح عن الشعبي، قال: جيء بشراحة الهمدانية إلى عليّ رضي اللَّه عنه إلى آخر ما ذكرنا، عن البيهقي باللفظ الذي سقناه به، والعجب من صاحب نصب الراية، حيث اقتصر على رواية البيهقي للأثر المذكور من طريق الأجلح عن الشعبي، ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أبو حصين فاقتصاره على رواية الأجلح عن الشعبي وتركه للرواية التي ذكرنا أوّلاً لا وجه له.
والأجلح المذكور في الإسناد المذكور، هو: ابن عبد اللَّه بن حجية بالمهملة والجيم مصغرًا. ويقال: ابن معٰوية، يكنى أبا حجية الكندي، ويقال: اسمه يحيىٰ. قال فيه ابن حجر في «التقريب»: صدوق شيعي، وقال عنه في «تهذيب التهذيب»: قال القطان: في نفسي منه شىء. وقال أيضًا: ما كان يفصل بين الحسين بن علي وعليّ بن الحسين. وقال أحمد: أجلح ومجالد متقاربان في الحديث. وقد روى الأجلح غير حديث منكر. وقال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: ما أقرب الأجلح من فطر بن خليفة. وقال ابن معين: صالح، وقال مرة: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال النسائي: ضعيف ليس بذاك، وكان له رأي سوء. وقال الجوزجاني: مفتر. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم، ولم أرَ له حديثًا منكرًا مجاوزًا للحدّ لا إسنادًا ولا متنًا إلا أنه يعدّ في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق. وقال شريك عن الأجلح: سمعنا أنه ما يسبّ أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلاً أو فقيرًا. وقال عمرو بن علي: مات سنة مائة وخمس وأربعين في أوّل السنة، وهو رجل من بجيلة مستقيم الحديث صدوق.
قلت: ليس هو من بجيلة، وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّة: زكريا أرفع منه بمائة درجة، وقال ابن سعد: كان ضعيفًا جدًا. وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها. وقال يعقوب بن سفيٰن: ثقة، حديثه ليّن. وقال ابن حبان: كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيٰن أبا الزبير، انتهى منه.
وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن الشعبي عن عليّ تعتضد برواية أبي الحصين له عن الشعبي، عن عليّ. وأبو حصين المذكور، هو بفتح الحاء، وهو عثمٰن بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي أخرج له الجميع، وقال فيه في «التقريب»: ثقة ثبت سني وربما دلس، اهــ.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم وما احتجّ به كل منهم.
فاعلم: أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام، كما ذكرنا. وقول الإمام مٰلك رحمه اللَّه: إنه لم يعلم أحدًا من الأئمّة فعله يقتضي أنه لم يبلغه أثر عليّ رضي اللَّه عنه المذكور، ولو بلغه لعمل به، والظاهر أن له حكم الرفع؛ لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب «المغني»، وصاحب «تبيين الحقائق» يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي علّلوا به القول به. وقال صاحب «نصب الراية» بعد أن ذكر رواية البيهقي للأثر المذكور عن عليّ من طريق الأجلح، عن الشعبي ما نصّه: ورواه أحمد في مسنده، عن يحيىٰ بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، ثم ساق متن رواية الإمام أحمد بنحو ما قدّمنا، ثم قال: ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدّثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن يزيد، عن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى أن عليًّا رضي اللَّه عنه، ثم ساق الأثر بنحو ما قدّمنا. ثم قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الرحمٰن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن عليّ، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدّمنا، اهــ.
وهذه الروايات يعضد بعضها بعضًا وهي تدلّ على أن عليًّا كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البيّنة، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد، ولم يعلم أن أحدًا أنكر عليه، ولهذا استظهرنا بداءة البيّنة والإمام في الرجم، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الخامس: اعلم أن المرجوم إذا هرب في أثناء الرجم عندما وجد ألم الضرب بالحجارة، فإن كان زناه ثابتًا ببيّنة، فلا خلاف في أنهم يتّبعونه حتى يدركوه، فيرجموه لوجوب إقامة الحدّ عليه الذي هو الرجم بالبيّنة، وإن كان زناه ثابتًا بإقرار، فقد اختلف أهل العلم فيه.
قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المحصن: إذا أقرّ بالزنا فشرعوا في رجمه، ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما: يترك، ولا يتبع لكي يقال له بعد ذلك، فإن رجع عن الإقرار ترك، وإن أعاد رجم.
وقال مٰلك في رواية وغيره:إنه يتبع ويرجم. واحتجّ الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه»؟ وفي رواية: «هلاّ تركتموه فلعله يتوب فيتوب اللَّه عليه»، واحتجّ الآخرون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ذنبه، مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرّح بالرجوع، وقد ثبت إقراره فلا يترك حتى يصرّح بالرجوع، قالوا: وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعلّه يريد الرجوع، ولم نقل إنه سقط الرجم بمجرد الهرب، واللَّه أعلم. انتهى منه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين عندي أنه إن هرب في أثناء الرجم لا يتبع بل يمهل حتى ينظر في أمره، فإن صرح بالرجوع ترك، وإن تمادى على إقراره رجم، ويدلّ لهذا ما في رواية أبي داود التي أشار لها النووي، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الخامسة: اعلم أن البكر من الرجال والنساء، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نصّ الآية الكريمة، ولا خلاف فيه، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد. قال ابن قدامة في «المغني»: وهو قول جمهور أهل العلم. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وبه قال أُبيّ وابن مسعود، وابن عمر رضي اللَّه عنهم. وإليه ذهب عطاء، وطاوس، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، وإسحٰق، وأبو ثور. وقال مٰلك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة. وقال أبو حنيفة ومحمّد: لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى. وقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي والجماهير: ينفى سنة رجلاً كان أو امرأة. وقال الحسن: لا يجب النفي. وقال مٰلك والأوزاعي: لا نفي على النساء، وروي مثله عن عليّ رضي اللَّه عنه إلى أن قال: وأمّا العبد والأَمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي.
أحدها: يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث، وبهذا قال سفيٰن الثوري، وأبو ثور، وداود، وابن جرير.
والثاني: يغرب نصف سنة؛ لقوله تعالىٰ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، وهذا أصحّ الأقوال عند أصحابنا، وهذه الآية مخصّصة لعموم الحديث، والصحيح عند الأصوليين: جواز تخصيص السنة بالكتاب، لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى.
والثالث: لا يغرب المملوك أصلاً، وبه قال الحسن البصري، وحماد، ومٰلك، وأحمد، وإسحٰق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الأَمة إذا زنت: «فليجلدها»، ولم يذكر النفي، ولأن نفيه يضر سيّده مع أنه لا جناية من سيّده، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأَمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي، فوجب العمل بها، وحمل الحديث على موافقتها، واللَّه أعلم. اهـــ كلام النووي، وقوله: إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر، فانظره.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة: مٰلكًا، والشافعي، وأحمد، متّفقون على تغريب الزاني البكر الحرّ الذكر، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد، وعلمت أن أبا حنيفة، ومن ذكرنا معه يقولون: بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا أو عبدًا، فهذه تفاصيل أدلّتهم.
أمّا الذين قالوا: يغرب البكر الزاني سنة، فاحتجّوا بأن ذلك ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرًا عنده، وفيه: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب اللَّه: الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» الحديث، وفيه التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضينّ بينهما بكتاب اللَّه، ثم صرّح بأن من ذلك القضاء بكتاب اللَّه جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عامًا، وهذا أصحّ نص وأصرحه في محل النزاع. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه الذي قدّمناه، وفيه: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة». وهو أيضًا نصّ صحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صريح في محل النزاع. واحتجّ الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلّة:
منها: أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالىٰ: {فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}، والمقرّر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخًا للآية فهم يقولون: إن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد. والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد، وقد قدّمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم، أمّا الأَوّل منهما وهو أن كل زيادة على النص، فهي ناسخة له ليس بصحيح؛ لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق، إلا إن كانت مثبتة شيئًا قد نفاه النص أو نافية شيئًا أثبته النص، أمّا إذا كانت زيادة شىء سكت عنه النص السابق، ولم يتعرّض لنفيه، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتًا بدليل شرعي.
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحً}.
وفي سورة «الحجّ» في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل عَلَى آيات «الحج» وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك.
وأمّا الأمر الثاني: وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد؛ فقد قدّمنا في سورة «الأنعام» في الكلام على آية «الأنعام» المذكورة آنفًا، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطًا لا شكّ فيه، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد؛ إذا ثبت تأخّرها عنه، ولا منافاة بينهما أصلاً، حتى يرجح المتواتر على الآحاد، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين؛ لأن كلاًّ منهما حقّ في وقته، فلو قالت لك جماعة من العدول: إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحقّ بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة؛ لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق. وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور؛ فالمتواتر في وقته قطعيّ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي، فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه، وقد عرفت أنه ليس بقطعي، كما ترى.
ومن أدلّتهم على عدم التغريب: حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود، وقد قدّمناه: أن رجلاً أقرّ عنده صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة سمّاها فأنكرت أن تكون زنت، فجلده الحدّ، وتركها. وما رواه أبو داود أيضًا عن ابن عباس: أن رجلاً من بكر بن ليث أقرّ عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة أربع مرّات، وكان بكرًا فجلده النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة، وسأله صلى الله عليه وسلم البيّنة على المرأة إذ كذّبته، فلم يأت بها؛ فجلده حدّ الفرية ثمانين جلدة، قالوا: ولو كان التغريب واجبًا لما أخلّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومن أدلّتهم أيضًا: الحديث الصحيح «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» الحديث، وهو متّفق عليه، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد، فدلّ ذلك على أن التغريب منسوخ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه صلى الله عليه وسلم أن الجمع بين جلد البكر، ونفيه سنة قضاء منه صلى الله عليه وسلم بكتاب اللَّه.
وإيضاح ذلك: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب اللَّه، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع، ما لم يبلغه شىء آخر يعارض به.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار»: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو المبين، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب اللَّه، قال: وخطب بذلك عمر رضي اللَّه عنه على رءُوس المنابر، وعمل به الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد فكان إجماعًا، اهــ منه.
وذكر مرجحات أخرى متعدّدة لوجوب التغريب.
والحاصل: أن حديث أبي داود الذي استدلّوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب، ولا التصريح بعدمه، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب اللَّه أو بعده؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم. فذلك التصريح، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب اللَّه مع الإقسام على ذلك لا يصحّ رفعه بمحتمل؛ ولو تكرّرت الروايات به تكرّرًا كثيرًا. وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحقّ، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما: أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب اللَّه، لا شكّ في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن. أمّا كونه في السند فظاهر، وأمّا كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب، والصريح مقدّم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب.
وأمّا الاستدلال بحديث الأَمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحدّ، فهي تجلد خمسين، ولو محصنة، ولا ترجم. والأحرار بخلاف ذلك، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدودقد تختلف.
وقد بيّنت آية «النساء» اختلاف الحرة والأَمة في حكم حدّ الزّنا من جهتين:
إحداهما: أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة، فعليها الجلد لا الرجم.
والثانية: أن عليها نصفه، وذلك في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، فتأمّل قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، يظهر لك ما ذكرنا.
ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلّة الصحيحة في ذلك، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الذين قالوا بالتغريب، وهم الجمهور، اختلفوا في تغريب المرأة، فقال جماعة من أهل العلم: تغرب المرأة سنة لعموم أدلّة التغريب، وممن قال به: الشافعي وأحمد، وقال بعض أهل العلم: لا تغريب على النساء، وممن قال به مٰلك والأوزاعي، وروي مثله عن عليّ رضي اللَّه عنه.
أمّا حجّة من قال بتغريب النساء فهي عموم أدلّة التغريب، وظاهرها شمول الأنثى، وأمّا الذين قالوا: لا تغريب على النساء، فقد احتجّوا بالأحاديث الصحيحة الواردة بنهي المرأة عن السفر، إلاّ مع محرم أو زوج.
وقد قدّمناها في سورة «النساء» في الكلام على مسافة القصر، قالوا: لا يجوز سفرها دون محرم، ولا يكلف محرمها بالسفر معها؛ لأنه لا ذنب له يكلف السفر بسببه، قالوا: ولأن المرأة عورة وفي تغريبها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولذلك نهيت عن السفر إلا مع محرم أو زوج، قالوا: وغاية ما في الأمر، أن عموم أحاديث التغريب بالنسبة إلى النساء خصّصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلاّ مع محرم أو زوج، وهذا لا إشكال فيه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر لي أنها إن وجد لها محرم متبرّع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة، مع تبرع المحرم المذكور بالرجوع معها إلى محلّها، بعد انتهاء السنة، فإنها تغرب؛ لأن العمل بعموم أحاديث التغريب لا معارض له في الحالة المذكورة. وأمّا إن لم تجد محرمًا متبرّعًا بالسفر معها، فلا يجبر؛ لأنه لا ذنب له، ولا تكلف هي السفر بدون محرم، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقد قدّمنا مرارًا أن النصّ الدالّ على النهي يقدّم على الدال على الأمر على الأصح؛ لأن درأ المفاسد مقدّم على جلب المصالح، وهذا التفصيل الذي استظهرنا لم نعلم أحدًا ذهب إليه، ولكنه هو الظاهر من الأدلّة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا في تغريب العبد والأَمة، وقد قدّمنا أقوال أهل العلم في ذلك.
وأظهر أقوالهم عندنا: أن المملوك لا يغرب، لأنه مال، وفي تغريبه إضرار بمالكه، وهو لا ذنب له، ويستأنس له بأنه لا يرجم، ولو كان محصنًا؛ لأن إهلاكه بالرجم إضرار بمالكه. ويؤيّده قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» الحديث، ولم يذكر تغريبًا، وقد فهم البخاري رحمه اللَّه عدم نفي الأَمة من الحديث المذكور، ولذا قال في ترجمته: باب لا يثرب على الأَمة إذا زنت ولا تنفى.
وقد قدّمنا اختلاف الأصوليين في العبيد هل يدخلون في عموم نصوص الشرع، لأنهم من جملة المكلفين، أو لا يدخلون في عموم النصوص، إلا بدليل منفصل لكثرة خروجهم من عموم النصوص، كما تقدّم إيضاحه.
وقد قدّمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل، واعتمده صاحب «مراقي السعود»، بقوله:
والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر
وإخراجهم هنا من نصوص التغريب، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الأَمة الزانية وبيعها، ولم يذكر تغريبها، ولأنهم مال، وفي تغريبهم إضرار بالمالك. وفي الحديث: «لا ضرر ولا ضرار»، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
تنبيــه
أظهر القولين عندي: أنه لا بدّ في التغريب من مسافة تقصر فيها الصّلاة؛ لأنه فيما دونها له حكم الحاضر بالبلد الذي زنى فيه.
وأظهر القولين أيضًا عندي أن المغرب لايسجن في محل تغريبه؛ لأن السجن عقوبة زائدة على التغريب، فتحتاج إلى دليل، ولا دليل عليها، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
والأظهر أن الغريب إذا زنى غرب من محل زناه إلى محل آخر غير وطنه الأصلي.
المسألة السادسة: اعلم أن من أقرّ بأنه أصاب حدًّا، ولم يعيّن ذلك الحدّ، فإنه لا يجب عليه الحدّ، لعدم التعيين وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه، لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي اللَّه عنه، قال: كنت عند النيّ صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول اللَّهٰ إني أصبت حدًّا فأقمه عليّ، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول اللَّهٰ إني أصبت حدًّا فأقم فيّ كتاب اللَّه، قال: «أليس صلّيت معنا»؟ قال: نعم، قال: «فإن اللَّه قد غفر لك ذنبك»، أو قال: «حدّك»، هذا لفظ البخاري في صحيحه، والحديث متفق عليه. ولمسلم وأحمد من حديث أبي أُمامة نحوه: وهو نصّ صحيح صريح في أن من أقرّ بحدّ ولم يسمّه، لا حدّ عليه كما ترى، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة السابعة: في حكم رجوع الزاني المقرّ بالزنى أو رجوع البيّنة قبل إتمام إقامة الحدّ عليه.
أما الزاني المقرّ بزناه إذا رجع عن إقراره، سقط عنه الحدّ، ولو رجع في أثناء إقامة الحدّ من جلد أو رجم، هذا هو الظاهر.
قال ابن قدامة: وبه قال عطاء، ويحيىٰ بن يعمر، والزهري، وحماد، ومٰلك، والثوري، والشافعي، وإسحٰق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وقد حكى ابن قدامة خلاف هذا عن جماعة وروايته عن مٰلك ضعيفة.
والظاهر لنا هو ما ذكرنا من سقوط الحدّ عنه برجوعه عن إقراره، ولو في أثناء إقامة الحدّ لما قدمنا من حديث أبي داود وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم لما تبعوا ماعزًا بعد هربه: «ألا تركتموه؟»، وفي رواية: «هلاّ تركتموه؟ فلعلّه يتوب فيتوب اللَّه عليه»، وفي ذلك دليل على قبول رجوعه، وعليه أكثر أهل العلم، وهو الحقّ إن شاء اللَّه تعالىٰ. وأمّا رجوع البيّنة أو بعضهم فلم أعلم فيه بخصوصه نصًّا من كتاب ولا سنّة، والعلماء مختلفون فيه.
واعلم: أن له حالتين:
إحداهما: أن يكون رجوعهم، أو رجوع بعضهم قبل إقامة الحدّ على الزاني بشهادتهم.
والثانية: أن يكون رجوعهم، أو رجوع بعضهم بعد إقامة الحدّ عليه، والحدّ المذكور قد يكون جلدًا، وقد يكون رجمًا، فإذا رجعوا كلّهم أو واحد منهم قبل إقامة الحدّ، فقد قال في ذلك ابن قدامة في «المغني»: فإن رجعوا عن الشهادة، أو واحد منهم فعلى جميعهم الحدّ في أصحّ الروايتين، وهو قول أبي حنيفة. والثانية: يحدّ الثلاثة دون الراجع، وهو اختيار أبي بكر، وابن حامد؛ لأنه إذا رجع قبل الحدّ فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله، فسقط عنه الحدّ، ولأن في درء الحدّ عنه تمكينًا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة المشهود عليه. وفي إيجاب الحدّ زجر له عن الرجوع خوفًا من الحدّ، فتفوت تلك المصلحة، وتتحقّق المفسدة، فناسب ذلك نفي الحدّ عنه. وقال الشافعي: يحدّ الراجع دون الثلاثة؛ لأنه مقرّ على نفسه بالكذب في قذفه. وأمّا الثلاثة فقد وجب الحدّ بشهادتهم، وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع، ومن وجب الحدّ بشهادته لم يكن قاذفًا فلم يحدّ، كما لو لم يرجع. ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحدّ، فلزمهم الحدّ كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة، وقولهم: وجب الحدّ بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلّهم، وبالراجع وحده، فإن الحدّ وجب، ثم سقط، ووجب الحدّ عليهم بسقوطه، ولأن الحدّ إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه، وإسقاط الحدّ عن المشهود عليه بعد وجوبه، وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى، انتهى من «المغني».
وحاصله: أنهم إن رجعوا كلّهم حدّوا كلّهم، وإن رجع بعضهم، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: يحدّون كلهم.
والثاني: يحدّ من لم يرجع دون من رجع.
والثالث: عكسه، كما هو واضح من كلامه.
والأظهر: أنهم إن رجعوا بعد الحكم عليه بالرجم أو الجلد بشهادتهم أنه لا يقام عليه الحدّ، لرجوع الشهود أو بعضهم. وقول بعض المالكية: إن الحكم ينفذ عليه، ولو رجعوا كلّهم أو بعضهم قبل التنفيذ خلاف التحقيق، وإن كان المعروف في مذهب مٰلك أن الحكم إذا نفذ بشهادة البيّنة، أنه لا ينقض برجوعهم وأنما ينقض بظهور كذبهم؛ لأن هذا لم يعمموه في الشهادة المفضية إلى القتل لعظم شأنه، والأظهر أنه لا يقتل بشهادة بيّنة كذبت أنفسها، فيما شهدت عليه به، كما لا يخفى. وأمّا إن كان رجوع البيّنة بعد إقامة الحدّ، فالأظهر أنه إن لم يظهر تعمدهم الكذب لزمتهم دية المرجوم، وإن ظهر أنهم تعمّدوا الكذب، فقال بعض أهل العلم: تلزم الديّة أيضًا. وقال بعضهم: بالقصاص، وهو قول أشهب من أصحاب مٰلك، وله وجه من النظر، لأنهم تسبّبوا في قتله بشهادة زور، فقتلهم به له وجه، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. وإن كان رجوعهم أو رجوع بعضهم بعد جلد المشهود عليه بالزنى بشهادتهم، فإن لم يظهر تعمّدهم الكذب، فالظاهر أنهم لا شىء عليهم، لأنهم لم يقصدوا سوءًا، وإن ظهر تعمّدهم الكذب وجب تعزيرهم بقدر ما يراه الإمام رادعًا لهم ولأمثالهم، لأنهم فعلوا معصيتين عظيمتين:
الأولى: تعمّدهم شهادة الزور.
والثانية: إضرارهم بالمشهود عليه بالجلد، وهو أذى عظيم أوقعوه به بشهادة زور، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
تنبيـــه
اعلم: أنا قدّمنا حكم من زنى ببهيمة في سورة «الإسراء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰن}. وقدّمنا حكم اللواط وأقوال أهل العلم وأدلّتهم في ذلك في سورة «هود»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}. وقد قدّمنا الكلام أيضًا على أن من زنى مرّات متعدّدة، قبل أن يقام عليه الحدّ، يكفي لجميع ذلك حدّ واحد في الكلام على آيات «الحجّ». وقد أوضحنا أن الأَمة تجلد خمسين، سواء كانت محصنة أو غير محصنة؛ لأن جلدها خمسين مع الإحصان منصوص في القرءان كما تقدّم إيضاحه، وجلدها مع عدم الإحصان ثابت في الصحيح.
وأظهر الأقوال عندنا: أن الأَمة غير المحصنة تجلد خمسين، وألحق أكثر أهل العلم العبد بالأَمة.
والأظهر عندنا: أنه يجلد خمسين مطلقًا أحصن أم لا. وقد تركنا الأقوال المخالفة لما ذكرنا لعدم اتّجاهها عندنا مع أنا أوضحناها في سورة «النساء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ}، ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الزنى المتعلّقة بهذه الآية التي نحن بصددها.
وعادتنا أن الآية إن كان يتعلّق بها باب من أبواب الفقه أنا نذكر عيون مسائل ذلك الباب والمهم منه، وتبيين أقوال أهل العلم في ذلك ونناقشها، ولا نستقصي جميع ما في الباب؛ لأن استقصاء ذلك في كتب فروع المذاهب كما هو معلوم، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}. قد قدّمنا مرارًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة دالَّة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية، فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح. قالوا: فلا يجوز لعفيف أن يتزوّج زانية كعكسه، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحّته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية؛ لأن الزاني المسلم لا يحلّ له نكاح مشركة، لقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ}، وقوله تعالىٰ: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ}. وكذلك الزانية المسلمة لا يحلّ لها نكاح المشرك؛ لقوله تعالىٰ: {وَلاَ تُنكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُو}، فنكاح المشركة والمشرك لا يحلّ بحال. وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء، الذي هو الزنى، لا عقد النكاح؛ لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة والزانية للمشرك، منسوخ ظاهر السقوط؛ لأن سورة «النور» مدنية، ولا دليل على أن ذلك أُحلّ بالمدينة، ثم نسخ. والنسخ لا بدّ له من دليل يجب الرجوع إليه.
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية، ونكاح العفيفة الزاني، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمّة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مٰلك وأصحابه، ومن وافقهم، واحتجّ أهل هذا القول بأدلّة:
منها عموم قوله تعالىٰ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}، وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة، وعموم قوله تعالىٰ: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ}، وهو شامل بعمومه الزانية أيضًا والعفيفة.
ومن أدلّتهم على ذلك: حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تردّ يد لامس، قال: «غرّبها»، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: «فاستمتع بها». قال ابن حجر في «بلوغ المرام» في هذا الحديث، بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا: رواه أبو داود، والترمذي، والبزار ورجاله ثقات، وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، بلفظ قال: «طلّقها»، قال: لا أصبر عنها، قال: «فأمسكها»، اهــ من «بلوغ المرام». وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر، وقد ذكره في الموضوعات مرسلاً عن أبي الزبير، قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي... الحديث، ورواه أيضًا مرسلاً عن عبيد بن عمير، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور، ولا يجوز هذا؛ وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صحّ الحديث.
قال أحمد بن حنبل: هذا الحديث لا يثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل. انتهى من موضوعات ابن الجوزي، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار»: ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة، عن عدم العفة عن الزنى، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل: إن امرأتي لا تردّ يد لامس، اهــ. وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر؛ لأن لفظ: لا تردّ يد لامس، أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحلّ كما لا يخفى، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر؛ لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر، كما ترى.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها، وهي تحت زوج، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه، وبين المسألتين فرق، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالىٰ.
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، من وجهين:
الأول: أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه، قالوا: والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدّة التنفير منه؛ لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسّة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة.
وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالىٰ: {وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}، راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منه، كعكسه، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك.
الوجه الثاني: هو قولهم: إن المراد بالنكاح في الآية التزويج، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية، منسوخة بقوله تعالىٰ: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ}، وممن ذهب إلى نسخها بها: سعيد بن المسيّب، والشافعي. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصّه: هذا خبر من اللَّه تعالىٰ بأن الزاني لا يطأ إلا زانية، أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان، أي: عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.
قال سفيٰن الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، قال: ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها، إلا زان أو مشرك، وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي عنه من غير وجه أيضًا، وقد روي عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وغير واحد نحو ذلك، انتهى محل الغرض منه بلفظه.
فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية: الجماع، لا التزويج. وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبيّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ اللَّه أن يعلّمه تأويل القرءان. وعزاه لمن ذكر معه من أجلاّء المفسّرين، وابن عباس رضي اللَّه عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرءان العظيم، ولا شكّ في علمه باللغة العربية.
فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدلّ على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح، فدعوى أن هذا التفسير لا يصحّ في العربية، وأنه قبيح، يردّه قول البحر ابن عباس، كما ترى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وقد روي عن ابن عباس وأصحابه، أن النكاح في هذه الآية: الوطء.
واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع، وقوله: إن النكاح لا يعرف في القرءان، إلا بمعنى التزويج، مردود من وجهين:
الأول: أن القرءان جاء فيه النكاح بمعنى الوطء، وذلك في قوله تعالىٰ: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله: {حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، بأن معنى نكاحها له مجامعته لها، حيث قال: «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، ومراده بذوق العسيلة: الجماع، كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرءان بلغتهم، يطلقون النكاح على الوطء،
والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء. قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد يكون العقد، اهـــ. وإنما سموا عقد التزويج نكاحًا؛ لأنه سبب النكاح أي الوطء، وإطلاق المسبب، وإرادة سببه معروف في القرءان، وفي كلام العرب، وهو مما يسمّيه القائلون بالمجاز، المجاز المرسل، كما هو معلوم عندهم في محله، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء، قول الفرزدق: وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبنى بها لم تطلق

لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج، إذ لا يعقد على المسبيات، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر، ومنه قوله أيضًا: وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله

فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين، لا العقد؛ كما صرّح بذلك بقوله: ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله.
وقوله: إذا سقى اللَّه قومًا صوب غادية فلا سقى اللَّه أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرا

ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج.
قالوا: ومما يدلّ على أن النكاح في الآية غير التزويج، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حدّ المتزوّج بزانية؛ لأن زان، والزاني يجب حدّه. وقد أجمع العلماء على أن من تزوّج زانية لا يحدّ حدّ الزنى، ولو كان زانيًا لحدّ حدّ الزنى. فافهم، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام، كعكسه.
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد روي عن الحسن وقتادة، واستدلّ أهل هذا القول بآيات وأحاديث.
فمن الآيات التي استدلّوا بها هذه الآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}، قالوا: المراد بالنكاح في هذه الآية: التزويج، وقد نصّ اللَّه على تحريمه في قوله: {وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}، قالوا: والإشارة بقوله: {ذٰلِكَ}، راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية أو المشركة وهو نصّ قرءاني في تحريم نكاح الزاني العفيفة، كعكسه.
ومن الآيات التي استدلّوا بها قوله تعالىٰ: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ}، قالوا: فقوله {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ}، أي: أعفاء غير زناة. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب، وقوله تعالىٰ: {فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}، فقوله: {مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ}، أي: عفائف غير زانيات، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية، أنهن لو كنّ مسافحات غير محصنات، لما جاز تزوّجهن.
ومن أدلّة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}،كلّها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء، والمقرّر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول. وأنه قد جاء في السنّة ما يؤيّد صحّة ما قالوا في الآية، من أن النكاح فيها التزويج، وأن الزاني لا يتزوّج إلا زانية مثله، فقد روى أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله»، وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا: رواه أحمد، وأبو داود ورجاله ثقات.
وأمّا الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية:
فمنها ما رواه عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أُمّ مهزول، كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، قال: فاستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها، فقرأ عليه نبيّ اللَّه: {وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، رواه أحمد.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار»، في شرحه لهذا الحديث: وقد عزاه صاحب المنتقى لأحمد وحده، وحديث عبد اللَّه بن عمرو أخرجه أيضًا الطبراني في الكبير والأوسط. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكّة، وكانت بمكّة بغي يقال لها عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّهٰ أنكح عناقًا؟ قال: فسكت عني، فنزلت: {وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، فدعاني فقرأها عليّ، وقال: «لا تنكحها». رواه أبو داود، والنسائي والترمذي.
قال الشوكاني في «نيل الأوطار»، في كلامه على حديث عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى، وعزاه لأبي داود والنسائي والترمذي، وحديث عمرو بن شعيب حسّنه الترمذي وساق ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها، وقال في حديث عمرو بن شعيب هذا: قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، وقد رواه أبو داود، والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد اللَّه بن الأخنس به.
قالوا: فهذه الأحاديث وأمثالها تدلّ على أن النكاح في قوله: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، أنه التزويج لا الوطء، وصورة النزول قطعية الدخول؛ كما تقرّر في الأصول. قالوا: وعلى أن المراد به التزويج، فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالىٰ: {وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}.
وقال ابن القيّم في «زاد المعاد»، ما نصّه: وأمّا نكاح الزانية فقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالىٰ بتحريمه في سورة «النور»، وأخبر أن من نكحها فهو إما زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه، وخالفه فهو زان، ثم صرح بتحريمه، فقال: {وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}، ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ}، من أضعف ما يقال، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى.
إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وكلام اللَّه ينبغي أن يصان عن مثل هذا، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف، وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة، فقال: {فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها، وليس هذا من دلالة المفهوم، فإن الابضاع في الأصل على التحريم، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه فعلى أصل التحريم، انتهى محل الغرض من كلام ابن القيّم.
وهذه الأدلّة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه، وإذا عرفت أقوال أهل العلم، وأدلّتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني، فهذه مناقشة أدلّتهم.
أمّا قول ابن القيم: إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه، فيردّه أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرءان صحّ عنه حمل الزنى في الآية على الوطء، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه لصانه عنه ابن عباس، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله.
وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء: هو معنى صحيح، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه.
وقول ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه: فإن لم يتلزمه، ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه: نعم هو مشرك، ولكن المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة، وظاهر كلامك جواز ذلك، وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردًا على القول بأن النكاح في الآية التزويج، كما ترى.
وقول ابن القيّم في كلامه هذا: وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الابضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه: إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضى جوازه؛ كقوله تعالىٰ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف، وقوله: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ} فهو أيضًا شامل بعمومه لجميع من ذكر، ولذا قال سعيد بن المسيّب: إن آية {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ}، ناسخة لقوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}، وقال الشافعي: القول في ذلك كما قال سعيد من نسخها بها.
وبما ذكرنا يتّضح أن دلالة قوله: {مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ}، على المقصود من البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبًا؛ لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقًا كان أو مفهومًا، كما تقدّم إيضاحه.
وأمّا قول سعيد بن المسيّب والشافعي، بأن آية: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ} فهو مستبعد؛ لأن المقرّر في أصول الشافعي ومٰلك وأحمد هو أنه لا يصحّ نسخ الخاص بالعام، وأن الخاص يقضى على العام مطلقًا، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخّر، ومعلوم أن آية {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ}، أعمّ مطلقًا من آية: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}، فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرّر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين، وإنما يجوز ذلك على المقرّر في أصول أبي حنيفة رحمه اللَّه، كما قدمنا إيضاحه في سورة «الأنعام»، وقد يجاب عن قول سعيد، والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح، وإنماقيّد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء، ولذا قال بعد الآية: {وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقًا؛ لأن حمل النكاح فيها على التزويج، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلّقة بالآية، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج، ولا أعلم مخرجًا واضحًا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسّف، وهو أن أصحّ الأقوال عند الأصوليين كما حرّره أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرءان، وعزاه لأجلاّء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه، أو معانيه، فيجحوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، وتعني بذلك أنهم عوّروا عينه الباصرة وغوّروا عينه الجارية، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضّته.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج، خلافًا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقًا، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه، فيحمل النكاح في الآية على الوطء، وعلى التزويج معًا، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد، وهذا هو نوع التعسّف الذي أشرنا له، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية والمانعون لذلك أقلّ، وقد عرفت أدلّة الجميع.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن من نزوّج امرأة يظنها عفيفة، ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين: أن نكاح لا يفسخ، ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها، وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرّقًا بين الدوام على نكاحها، وبين ابتدائه. واستدلّ من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي اللَّه عنه، أنه شهد حجّة الوداع مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحمد اللَّه، وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً».
قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا: أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه، وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور: وحديثه في الخطبة صحيح، اهـــ. وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث، بدليل قوله: فحمد اللَّه وأثنى عليه وذكر ووعظ، وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة؛ كما هو معروف.
ومن الأدلّة على هذا الحديث المتقّدم قريبًا، الذي فيه: أن الرجل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تردّ يد لامس، فقال: «طلّقها»، فقال: نفسي تتبعها، فقال: «أمسكها»، وبيّنا الكلام في سنده، وأنه في الدوام على النكاح، لا في ابتداء النكاح، وأن بينهما فرقًا، وبه تعلم أن قول من قال: إن من زنت زوجته، فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الثاني: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي، أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها، حتى تضع حملها. خلافًا لجماعة من أهل العلم، قالوا: يجوز نكاحها وهي حامل، وهو مروي عن الشافعي وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن نكاح الرجل امرأة حاملاً من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير، وهو لا يجوز ويدلّ لذلك قوله تعالىٰ: {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه، فلا يجوز نكاح حامل حتى ينتهي أجل عدّتها، وقد صرّح اللَّه بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن، فيجب استصحاب هذا العموم، ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنّة.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب، فإن نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما، ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ويدلّ لهذا قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ}،فقد صرّح جلّ وعلا في هذه الآية أن الذين يزنون ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا، وعملوا عملاً صالحًا يبدّل اللَّه سيّئاتهم حسنات، وهو يدلّ على أن التوبة من الزنا، تذهب أثره. فالذين قالوا: إن من زنا بامرأة لا تحلّ له مطلقًا، ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق، وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا، وضرب له بعض الصحابة مثلاً برجل سرق شيئًا من بستان رجل آخر، ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه، والذي اشتراه منه حلال له، فكذلك ما نال من المرأة حرامًا فهو حرام عليه، وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
واعلم أن قول من ردّ الاستدلال بآية: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ}، قائلاً: إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين، يردّ قوله: أَن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما أوضحنا أدلّته من السنّة الصحيحة مرارًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
الفرع الرابع: اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثًا؛ لأنه إنما يتزوّجها ليحفظها، ويحرسها، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعًا باتًّا بأن يراقبها دائمًا، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها، مع شدّة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة، وإن جرى منها شىء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شىء عليه فيه، ولا يكون به ديوثًا، كما هو معلوم. وقد علمت ممّا مرّ أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه، وأن جماعة قالوا بمنع ذلك.
والأظهر لنا في هذ المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوّج إلا عفيفة صينة، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيّده حديث: «فاظفر بذات الدين تربت بداك»، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. قوله تعالىٰ في هذه الآية: {يَرْمُونَ}، معناه: يقذفون المحصنات بالزنا صريحًا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه؛ لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى، وهذا القذف هو الذي أوجب اللَّه تعالىٰ فيه ثلاثة أحكام:
الأول: جلد القاذف ثمانين جلدة.
والثاني: عدم قبول شهادته.
والثالث: الحكم عليه بالفسق.
فإن قيل: أين الدليل من القرءان على أن معنى {يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ} في هذه الآية، هو القذف بصريح الزنى، أو بما يستلزمه كنفي النسب؟
فالجواب: أنه دلّت عليه قرينتان من القرءان:
الأولى: قوله تعالىٰ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} بعد قوله: {يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ}، ومعلوم أنه ليس شىء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى، ومن قال: إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط.
وقد قدّمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة «هود»، كما أشرنا له غير بعيد.
القرينة الثانية: هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، في قوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}، وقوله تعالىٰ: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}، فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، يدلّ على إحصانهن، أي: عفتهن عن الزنى، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرءان، ومثّلنا لها كلها من القرءان في سورة «النساء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ}، فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات؛ كقوله: {مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ}، أي: عفائف غير زانيات، ومن هذا المعنى قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ}، أي: العفائف، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير: فلا تأمننّ الحيّ قيسًا فإنَّهم بنو محصنات لم تدنس حجورها

وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئًا ومن أجل الطوى رماني

فقوله: رماني بأمر يعني أنه رماه بالكلام القبيح، وفي شعر امرىء القيس أو غيره: وجرح اللسان كجرح اليد

واعلم أن هذه الآية الكريمة مبيّنة في الجملة من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: هي القرينتان القرءانيّتان الدالّتان على أن المراد بالرمي في قوله: {يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ}، هو الرمي بالزنى، أو ما يستلزمه كنفي النسب؛ كما أوضحناه قريبًا.
الجهة الثانية: هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى، ولكن اللَّه جلَّ وعلا بيّن أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية، وأنه إن لم يأت الشهداء، تلاعنا، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ}.
ومضمونها: أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه، والمعنى أنه لم يقدر على الإتيان ببيّنة تشهد له على الزنى الذي رماها به، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها: أشهد باللَّه إني لصادق فيما رميتها به من الزنى، ثم يقول في الخامسة: عليَّ لعنة اللَّه إن كنت كاذبًا عليها فيما رميتها به، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات. وتشهد هي أربع شهادات باللَّه، تقول في كل واحدة منها: أشهد باللَّه إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: غضب اللَّه عليّ إن كان صادقًا فيما رماني به من الزنى؛ كما هو واضح من نصّ الآية.
الجهة الثالثة: أن اللَّه بيَّن هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا، ولم يبيّن ما أعدّ له في الآخرة، ولكنّه بيّن في هذه السورة الكريمة ما أعدّ له في الدنيا والآخرة من عذاب اللَّه، وذلك في قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنـٰتِ لُعِنُواْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ}، وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهنّ مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهنّ الكريمة.
ووصفه تعالىٰ للمحصنات في هذه الآية بكونهنّ غافلان ثناء عليهن بأنهنّ سليمات الصدور نقيّات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن، ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يجربن الأمرو فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء، وتطلق العرب على المتّصفات به اسم البله مدحًا لها لا ذمًّا، ومنه قول حسّان رضي اللَّه عنه: نفج الحقيبة بوصها متنضد بلهاء غير وشيكة الإقسام

وقول الآخر: ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها

وقول الآخر: عهدت بها هندًا وهند غريرة عن الفحش بلهاء العشاء نؤم
رداح الضحىٰ ميالة بحترية لها منطق بصبى الحليم رخيم

والظاهر أن قوله تعالىٰ: {لُعِنُواْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، محلّه فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا، فإن تابوا وأصلحوا، لم ينلهم شىء من ذلك الوعيد، ويدلّ له قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُوا}.
وعمومات نصوص الكتاب والسنّة دالّة على أن من تاب إلى اللَّه من ذنبه توبة نصوحًا تقبلها منه، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاّء المفسرين أن آية: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء}، التي جعل اللَّه فيها التوبة بقوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُوا} عامّة، وأن آية: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنـٰتِ لُعِنُواْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ}، خاصة بالذين رموا عائشة رضي اللَّه عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: لا يخفى أن الآية إنما نصّت على قذف الذكور للإناث خاصّة؛ لأن ذلك هو صريح قوله: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ}، وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكرو للذكور، أو الإناث للإناث، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصّت عليه الآية، من قذف الذكور للإناث؛ للجزم بنفي الفارق بين الجميع.
وقد قدّمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة «الأنبياء»، في كلامنا الطويل على آية: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى ٱلْحَرْثِ}.
المسألة الثانية: اعلم أن المقرّر في أصول المالكية، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصّصه ببعضها، خلافًا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في «مراقي السعود»، بقوله: وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع

ولذا لو قال إنسان: هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين، وبني زهرة، وبني تميم إلا الفاسق منهم، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع، خلافًا لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية، إلا لجملة الأخيرة التي هي: {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُوا}، فقد زال عنهم الفسق، ولا يقول: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: إن شهادة القاذف لا تقبل أبدًا، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة.
وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم: القاضي شريح، وإبرٰهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمٰن بن زيد بن جابر، وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب، قاله ابن كثير.
وقال جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة: إن الاستثناء في الآية راجع أيضًا لقوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَد}، وأن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته. أمّا قوله: {فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، فلا يرجع له الاستثناء؛ لأن القاذف إذا تاب وأصلح، لا يسقط عنه حدّ القذف بالتوبة.
فتحصّل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله: {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ}، يرجع لها الاستثناء بلا خلاف. وأن الجملة الأولى التي هي: {فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، لا يرجع لها الاستثناء في قول عامّة أهل العلم، ولم يخالف إلاّ من شذّ، وأن الجملة الوسطى، وهي قوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَد}، يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم، منهم الأئمّة الثلاثة خلافًا لأبي حنيفة، وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخّرين، كابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل.
وإنما قلنا: إن هذا هو الأظهر؛ لأن اللَّه تعالىٰ يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ}.
وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى اللَّه وجدنا القرءان دالاً على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا، وهو الوقف. وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة، فدلّ ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئًا مطردًا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالىٰ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُو}، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط؛ لأن المطالبة بها تسقط بتصدق مستحقّها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعًا، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.
ومن أمثلة ذلك آية «النور» هذه، لأن الاستثناء في قوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُو}، لا يرجع لقوله: {فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، كما ذكرناه آنفًا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالىٰ: {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَـٰقٌ}، فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَـٰقٌ} لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه، أعني قوله تعالىٰ: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِير}، إذ لا يجوز اتّخاذ ولي ولا نصير من الكفار، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليّين، أعني قوله تعالىٰ: {فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ}،أي: فخذوهم بالأسر، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم؛ لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الآية نزلت فيه، وفي سراقة بن مٰلك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر، وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرءان العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع، ولا إلى الأخيرة، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل، ولا يبعد أنه إن تجرّد من القرائن والأدلّة، كان ظاهرًا في رجوعه للجميع.
وقد بسّطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، ولذلك اختصرناه هنا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الثالثة: اعلم أن من قذف إنسانًا بغير الزنى أو نفي النسب، كأن يقول له: يا فاسق، أو يا آكل الربى، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير، وذلك بما يراه الإمام رادعًا له ولأمثاله من العقوبة، من غير تحديد شىء في ذلك من جهة الشرع. وقال بعض أهل العلم: لا يبلغ بالتعزير قدر الحدّ. وقال بعض العلماء: إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعًا مطلقًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الرابعة: اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حرًّا يجلد أربعين، لأنه حدّ يتشطر بالرقّ كحد الزنى. قال القرطبي: وروي عن ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة بن ذؤيب: يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمّد عبدًا قذف حرًّا ثمانين، وبه قال الأوزاعي، واحتجّ الجمهور بقوله تعالىٰ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ}، وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حدّ الزنى للَّه، وأنه ربما كان أخفّ فيمن قلّت نعم اللَّه عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم اللَّه عليه.
وأمّا حدّ القذف، فهو حقّ للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية، وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر، كما في الزنى.
قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول وبه أقول، انتهى كلام القرطبي.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين عندي دليلاً: أن العبد إذا قذف حرًّا جلد ثمانين لا أربعين، وإن كان مخالفًا لجمهور أهل العلم، وإنما استظهرنا جلده ثمانين؛ لأن العبد داخل في عموم: {فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ولا يمكن إخراجه من هذا العموم، إلا بدليل ولم يرد دليل يخرج العبد من هذا العموم، لا من كتاب، ولا من سنّة، ولا من قياس، وإنما ورد النصّ على تشطير الحدّ عن الأَمّة في حدّ الزنى وألحق العلماء بها العبد بجامع الرق، والزنى غير القذف.
أمّا القذف، فلم يرد فيه نصّ ولا قياس في خصوصه.
وأمّا قياس القذف على الزنى فهو قياس مع وجود الفارق؛ لأن القذف جناية على عرض إنسان معين، والردع عن الأعراض حق للآدمي فيردع العبد كما يردع الحرّ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
تنبيــه
قد قدّمنا في سورة «المائدة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى}، أن الحرّ إذا قذف عبدًا لا يحدّ له، وذلك ثابت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من قذف عبده بالزنى أقيم عليه الحدّ يوم القيامة إلاّ أن يكون كما قال» اهـ. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «أقيم عليه الحدّ يوم القيامة»، يدلّ على أنه لا يقام عليه الحدّ في الدنيا وهو كذلك، وهذا لا نزاع فيه بين من يعتدّ به من أهل العلم.
قال القرطبي: قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحرّ والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتصّ لكل واحد من صاحبه إلاّ أن يعفو المظلوم، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
المسألة الخامسة: اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا صرّح في قذفه له بالزنى، كان قذفًا ورميًا موجبًا للحدّ، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه؛ كقوله: أما أنا فلست بزان، ولا أُمي بزانية، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى، أو يا حلال بن الحلال، أو نحو ذلك.
فقد اختلف أهل العلم: هل يلزم القذف بالتعريض المفهم للقذف، وإن لم يصرّح أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحًا واضحًا لا احتمال فيه؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحدّ، ولو فهم منه إرادة القذف، إلا أن يقرّ أنه أراد به القذف.
قال ابن قدامة في «المغني»: وهذا القول هو رواية حنبل عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار، وقتادة، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، واحتجّ أهل هذا القول بكتاب وسنّة.
أمّا الكتاب فقوله تعالىٰ: {خَبِيرٌ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِسَاء}، ففرّق تعالىٰ بين التصريح للمعتدة والتعريض، قالوا: ولم يفرّق اللَّه بينهما في كتابه، إلاّ لأن بينهما فرقًا، ولو كانا سواء لم يفرّق بينهما في كتابه.
وأمّا السنّة: فالحديث المتفق عليه، الذي قدمناه مرارًا في الرجل الذي جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وهو تعريض بنفيه، ولم يجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا قذفًا، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل: «ألك إبل»؟ قال: نعم، قال: «فما ألوانها»؟ قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق»؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: «ومن أين جاءَها ذلك»؟ قال: لعل عرقًا نزعه، قال: «وهذا الغلام الأسود لعل عرقًا نزعه»، قالوا: ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفًا، هذا هو حاصل حجّة من قالوا: بأن التعريض بالقذف، لا يوجب الحدّ وإنما يجب الحدّ بالتصريح بالقذف.
وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحدّ، وهو مذهب مٰلك وأصحابه. وقال ابن قدامة في «المغني»: وروى الأثرم وغيره، عن الإمام أحمد أن عليه الحدّ، يعني المعرض بالقذف، قال: وروي ذلك عن عمر رضي اللَّه عنه، وبه قال إسحٰق إلى أن قال: وقال معمر: إن عمر كان يجلد الحدّ في التعريض، اهــ.
واحتجّ أهل هذا القول بأدلّة منها ما ذكره القرطبي، قال: والدليل لما قاله مٰلك: هو أن موضوع الحدّ في القذف، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، وإذا حصلت المعرة بالتعريض، وجب أن يكون قذفًا كالتصريح والمعول على الفهم، وقد قال تعالىٰ مخبرًا عن قوم شعيب أنهم قالوا له: {إِنَّكَ لاَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ}، أي: السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة «هود». وقال تعالىٰ في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ}، وقال تعالىٰ في الذين قذفوا مريم أنهم قالوا: {فَرِيّاً يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ}، فمدحوا أباها، ونفوا عن أُمّها البغاء، أي: الزنى وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالىٰ: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَـٰناً عَظِيم}،وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي: {مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا}، أي: أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالىٰ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه، اهــ محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد.
وحاصل كلام القرطبي المذكور: أن من أدلّة القائلين بوجوب الحدّ بالتعريض آيات قرءانية، وبيّن وجه دلالتها على ذلك كما رأيته، وذكر أن من أدلّتهم أن المعرة اللاحقة للمقذوف صريحًا تلحقه بالتعريض له بالقذف، ولذلك يلزم استواؤهما، وذكر أن من أدلّتهم أن المعول على الفهم، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح.
ومن أدلّتهم على أن التعريض يجب به الحدّ بعض الآثار المرويّة عن بعض الخلفاء الراشدين. قال ابن قدامة في «المغني»: لأن عمر رضي اللَّه عنه حين شاورهم في الذي قال لصاحبه: ما أنا بزان، ولا أُمي بزانية، فقالوا: قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحدّ. وقال معمر: إن عمر كان يجلد الحدّ في التعريض. وروى الأثرم: أن عثمٰن رضي اللَّه عنه جلد رجلاً قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض له بزنى أُمه، والوذر: غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال، وانظر أسانيد هذه الآثار.
ومن أدلّة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف، فلا شكّ في أنه لا يكون قذفًا، انتهى من «المغني».
ثم قال صاحب المغني: وذكر أبو بكر عبد العزيز: أن أبا عبد اللَّه رجع عن القول بوجوب الحدّ في التعريض، يعني بأبي عبد اللَّه الإمام أحمد رحمه اللَّه. وقال القرطبي: وقد حبس عمر رضي اللَّه عنه الحطيئة، لمّا قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي:
قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح، وقال: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، ولمّا قال الشاعر بعد ذلك:
ولا يردون الماء إلا عشيّة وإذا صدر الوارد عن كل منهل

قال عمر أيضًا: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح، ولذا ذكروا أن عمر تمنّى ما فيه من الهجاء لأهل بيته؛ لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا نزاع، ويدلّ على ذلك أوّل شعره وآخره، لأن أول الأبيات قوله:
إذا اللَّه عادى أهل لؤم وذلّة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يخفرون . البيت

وفي آخر شعره:
وما سمّى العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل

وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شكّ فيه، وقول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها

يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي، كما ذكره بعض المؤرخين، وما ذكره القرطبي رحمه اللَّه في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم: هو تعريضهم لها بقولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء}، لا يتعيّن بانفراده؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي، وذلك في قوله تعالىٰ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ * مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ}، فقولهم لها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ} في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدًا في إرادتهم قذفها، كما ترى. والكلام الذي ذكر ابن قدامة: أن عثمٰن جلد الحدّ فيه وهو قول الرجل لصاحبه: يا ابن شامة الوذر. قال فيه الجوهري في صحاحه: الوذرة بالتسكين الغدرة، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة، ومنه قولهم: يا ابن شامة الوذرة، وهي كلمة قذف، وكانت العرب تتساب بها، كما كانت تتساب بقولهم: يا ابن ملقي أرحل الركبان، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها، والجمع وذر مثل تمرة وتمر، اهــ من صحاح الجوهري.
والشامّة بتشديد الميم اسم فاعل شمه. وقال صاحب «اللسان»: وفي حديث عثمٰن رضي اللَّه عنه أنه رفع إليه رجل قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فحدّه، وهو من سباب العرب وذمّهم، وإنما أراد با ابن شامة المذاكير يعنون الزنا، كأنها كانت تشم كمرًا مختلفة فكنى عنه، والذكر قطعة من بدن صاحبه، وقيل: أرادوا بها القلف جع قلفة الذكر؛ لأنها تقطع، انتهى محل الغرض من «لسان العرب». وهذا لا يتّضح منه قصد الزنا ولم أرَ من أوضح معنى شامة الوذر أيضاحًا شافيًا، لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح.
والذي يظهر لي واللَّه تعالىٰ أعلم: أن قائل الكلام المذكور يشبه من مرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات؛ لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شمّ فرجها، واستنشق ريحه استنشاقًا شديدًا، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشمّ ذكر الرجل كما يشمّ الفحل من الحيوانات فرج أنثاه، وشمّها لمذاكير الرجال كأنّه مقدمة للمواقعة، فكنوا عن المواقعة بشمّ المذاكير، وعبّروا عن ذكر الرجل بالوذرة؛ لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر، حتى صارت كأنها تشمّ ريح ذلك الموضع، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم، وحججهم في التعريض بالقذف، هل يلزم به الحدّ أو لا يلزم به.
وأظهر القولين عندي: أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهمًا واضحًا من القرائن أن صاحبه يحدّ؛ لأن الجناية على عرض المسلم تتحقّق بكل ما يفهم منه ذلك فهمًا واضحًا، ولئلاّ يتذرّع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم: إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بدّ من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة السادسة: قال القرطبي في تفسيره: الجمهور من العلماء على أنه لا حدّ على من قذف رجلاً من أهل الكتاب أو امرأة منهم، وقال الزهري، وسعيد بن المسيّب، وابن أبي ليلى: عليه الحدّ إذا كان لها ولد من مسلم، وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانيّة تحت المسلم جلد الحدّ. قال ابن المنذر: وجلّ العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدًا، ولا لقيته يخالف في ذلك، وإذا قذف النصراني المسلم الحرّ فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك خلافًا، انتهى منه.
المسألة السابعة: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي في مسألة ما لو قذف رجل رجلاً، فقال آخر: صدقت، أن المصدق قاذف فتجب إقامة الحدّ عليه؛ لأن تصديقه للقاذف قدف خلافًا لزفر ومن وافقه.
وقال ابن قدامة في «المغني»: ولو قال: أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفًا سواء كذبه المخبر عنه أو صدّقه، وبه قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر أنه يكون قاذفًا إذا كذبه الآخر، وبه قال مٰلك، وعطاء، ونحوه عن الزهري؛ لأنه أخبر بزناه، اهــ منه.
وأظهر القولين عندي: أنه لا يكون قاذفًا ولا يحدّ، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه، ويحتمل أن يكون صادقًا، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلاً وأنكر المشهود عليه، فلا يكون الشاهد قاذفًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الثامنة: أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلاً بالزنى، ولم يقم عليه الحدّ حتى زنا المقذوف أن الحدّ يسقط عن قاذفه؛ لأنه تحقّق بزناه أنه غير محصن، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحدّ للقاذف؛ لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحدّ على من قذفه، فلا يحدّ لغير عفيف اعتبارًا بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحدّ، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف.
وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة: لأبي حنيفة، ومٰلك، والشافعي، والقول بأنه يحدّ هو مذهب الإمام أحمد.
قال صاحب «المغني»: وبه قال الثوري، وأبو ثور، والمزني، وداود. واحتجّوا بأن الحدّ قد وجب وتمّ بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب.
والأظهر عندنا هو ما قدمنا، لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحدّ على قاذفه، فلا يحدّ لمن تحقّق أنه غير عفيف.
وإنما وجب الحدّ قبل هذا، لأن عدم عفته كان مستورًا، ثم ظهر قبل إقامة الحد، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة التاسعة: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: يا من وطىء بين الفخذين، أنه ليس بقذف، ولا يحدّ قائله؛ لأنه رماه بفعل لا يعدّ زنا إجماعًا، خلافًا لابن القٰسم من أصحاب مٰلك القائل بوجوب الحدّ زاعمًا أنه تعريض به، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة العاشرة: اعلم أن حدّ القذف لا يقام على القاذف إلاّ إذا طلب المقذوف إقامة الحدّ عليه؛ لأنه حقّ له، ولم يكن للقاذف بيّنة على ما ادّعى من زنا المقذوف؛ لأن اللَّه يقول: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ومفهوم الآية: أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعًا أنه لا حدّ عليه، وإنما يثبت بذلك حدّ الزنا على المقذوف، لشهادة البيّنة، ويشترط لذلك أيضًا عدم إقرار المقذوف، فإن أقرّ بالزنا، فلا حدّ على القاذف. وإن كان القاذف زوجًا اعتبر في حدّه حدّ القذف امتناعه من اللعان. قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافًا في هذا كلّه ثم قال: وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحدّ، فلو طلب ثم عفا عن الحدّ سقط، وبهذا قال الشافعي، وأبو ثور. وقال الحسن وأصحاب الرأي: لا يسقط بعفوه؛ لأنه حدّ فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود. ولنا أنه حدّ لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص، وفارق سائر الحدود، فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها، وحدّ السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحدّ، ولأنهم قالوا تصحّ دعواه، ويستحلف فيه، ويحكم الحاكم فيه بعلمه، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف، فدلّ على أنه حقّ لآدمي، اهــ من «المغني»، وكونه حقًّا لآدمى هو أحد أقوال فيه.
قال أبو عبد اللَّه القرطبي: واختلف العلماء في حدّ القذف، هل هو من حقوق اللَّه، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؟
الأول: قول أبي حنيفة.
والثاني: قول مٰلك والشافعي.
والثالث: قاله بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقًّا للَّه تعالىٰ وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين اللَّه تعالىٰ، ويتشطر فيه الحدّ بالرق كالزنا، وإن كان حقًّا للآدمي، فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلّله المقذوف،ا هــ كلام القرطبي.
ومذهب مٰلك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث، وهو أن الحدّ يسقط بعفو المقذوف قبل بلوغ الإمام، فإن بلغ الإمام، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادّعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق لآدمي فيه حقّ للَّه.
وإيضاحه: أن حدّ القذف حق للآدمي من حيث كونه شرع للزجر عن فعله، ولدفع معرّة القذف عنه. فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم، وأن للمسلم عليه حقّ بانتهاك حرمة عرضه، وانتهك أيضًا حرمة نهى اللَّه عن فعله في عرض مسلم، فكان للَّه حقّ على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه، وعدم امتثاله، فهو عاص للَّه مستحق لعقوبته، فحقّ اللَّه يسقط بالتوبة النصوح، وحق المسلم يسقط بإقامة الحدّ، أو بالتحلّل منه.
والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحدّ بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحقّ اللَّه، واللَّه جلَّ وعلا أعلم.
المسألة الحادية عشرة: قال القرطبي: إن تمّت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا، فكان الحسن البصري والشعبي يريان ألا حدّ على الشهود، ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، والنعمان، ومحمد بن الحسن.
وقال مٰلك: وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدهم مسخوطًا عليه أو عبدًا يجلدون جميعًا. وقال سفيٰن الثوري، وأحمد، وإسحٰق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون، فإن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية، ولا شىء على الآخرين، وكذلك قال قتادة، وحماد، وعكرمة، وأبو هاشم، ومٰلك، وأحمد، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار إن شاءُوا قتلوا، وإن شاءُوا عفوا، وأخذوا ربع الدية وعليه الحدّ. وقال الحسن البصري: يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره، فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل، وبه قال ابن شبرمة، اهــ كلام القرطبي. وقد قدمنا بعضه.
وأظهر الأقوال عندي: أنهم إن لم يعدلوا حدّوا كلّهم؛ لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة، كمن لم يأتِ بشىء، وأنه إن أقرّ بأنه تعمّد الشهادة عليه؛ لأجل أن يقتل يقتصّ منه. وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الثانية عشرة: قال القرطبي: قال مٰلك، والشافعي من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حرّ فعليه الحدّ، وقاله الحسن البصري، واختاره ابن المنذر، ومن قذف أُمّ الولد حدّ. وروي عن ابن عمر، وهو قياس قول الشافعي، وقال الحسن البصريّ: لا حدّ عليه، انتهى منه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أمّا حدّه في قذف أُمّ الولد، فالظاهر أنه لا يكون إلاّ بعد موت سيّدها، وعتقها من رأس مال مستولدها، أمّا قبل ذلك فلم تتحقّق حريّتها بالفعل، ولا سيّما على قول من يجيز بيعها من العلماء. والقاذف لا يحدّ بقذف من لم يكن حرًّا حريّة كاملة فيما يظهر، وكذلك لو قيل: إن من قذف من يظنه عبدًا، فإذا هو حرّ لا يجب عليه الحدّ لأنه لم ينو قذف حرّ، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر؛ لأن الأعمال بالنيّات ولكل امرىء ما نوى، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف: ما قصدت قذفك ولا أقول: إنك زان، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدًا فأنت عفيف في نظري، ولا أقول فيك إلا خيرًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعدّدة، أو قذف واحدًا، مرات متعدّدة. وقد قدّمنا خلاف أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات «الحجّ».
قال ابن قدامة في «المغني»، في شرحه لقول الخرقي: وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة، فحدّ واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، ما نصّه: وبهذا قال: طاوس والشعبي، والزهري، والنخعي، وقتادة، وحماد، ومٰلك، والثوري، وأبو حنيفة وصاحباه، وابن أبي ليلى وإسحٰق. وقال الحسن، وأبو ثور وابن المنذر: لكلّ واحد حدّ كامل، وعن أحمد مثل ذلك. وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم، فلزمه له حدّ كامل؛ كما لو قذفهم بكلمات، ولنا قول اللَّه تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ولم يفرّق بين قذف واحد أو جماعة؛ ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حد واحدًا، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حدّ واحد كما لو قذف واحدًا، ولأن الحدّ إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحدّ واحد يظهر كذب هذا القاذف،
وتزول المعرة، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفًا منفردًا، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحدّه للآخر، فإذا ثبت هذا، فإنهم إن طلبوه جملة حدّ لهم، وإن طلبه واحد أقيم الحدّ؛ لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل، فأيّهم طالب به استوفى، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحقّ المرأة على أوليائها في تزويجها، إذا قام به واحد سقط عن الباقين، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه؛ لأن المعرّة لم تزل عنه بعفو صاحبه، وليس للعافي الطلب به، لأنه قد أسقط حقّه.
وروي عن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى: أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحدّ واحد، وكذلك إن طلبوه واحدًا بعد واحد إلا أنّه لم يقم حتى طلبه الكلّ فحدّ واحد، وإن طلبه واحد فأقيم له، ثم طلبه آخر أقيم له، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة؛ لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه، وقع استيفاؤه لجميعهم. وإذا طلبه واحد منفردًا كان استيفاؤه له وحده، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم (في) إسقاطهم، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكلّ واحد حدّ، وبهذا قال عطاء، والشعبي، وقتادة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة والشافعي. وقال حماد ومٰلك: لا يجب إلاّ حدّ واحد، لأنها جناية توجب حدًّا، فإذا تكرّرت كفى حدّ واحد، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء، أو شرب أنواعًا من المسكر، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حقّ للَّه تعالىٰ، إلى أن قالٰ: وإن قذف رجلاً مرّات فلم يحدّ، فحدّ واحد رواية واحدة، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات، وإن قذفه فحدّ ثم أعاد قذفه نظرت، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حدّ من أجله لم يعد عليه الحدّ في قول عامّة أهل العلم، وحكي عن ابن القٰسم: أنه أوجب حدًّا ثانيًا، وهذا يخالف إجماع الصحابة، فإن أبا بكرة لما حدّ بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدًّا ثانيًا، فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة، قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان، فبلغ ذلك عمر فكبّر عليه، وقال: شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة، وجاء زياد فقال: ما عندك؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا، وقال: شهود زور. فقال أبو بكرة: أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، فقال أبو بكرة: وأنا أشهد أنه زان، فأراد أن يعيد عليه الحدّ، فقال عليّ: يا أمير المؤمنينٰ إنك إن أعدت عليه الحدّ، أوجبت عليه الرجم. وفي حديث آخر: فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين. قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه قول عليّ: إن جلدته فارجم صاحبك، قال: كأنه جعل شهادته شهادة رجلين، قال أبو عبد اللَّه: وكنت أنا أفسّره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني، ثم قال يقول: إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدًا آخر، فأمّا إن حدّ له وقذفه بزنا ثان نظرت، فإن قذفه بعد طول الفصل فحدّ ثان؛ لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدًا بحيث يمكن من قذفه بكل حال، وإن قذفه عقيب حدّه ففيه روايتان:
إحداهما: يحدّ أيضًا؛ لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحدّ، فيلزم فيه حدّ كما لو طال الفصل، ولأن سائر أسباب الحدّ إذا تكرّرت بعد أن حدّ للأوّل ثبت للثاني حكمه، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب.
والثانية: لا يحدّ؛ لأنه قد حدّ له لمرّة فلم يحدّ له بالقذف عقبه، كما لو قذفه بالزنا الأوّل، انتهى من «المغني». وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدًا مرّات.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : هذه المسائل لم نعلم فيها نصًّا من كتاب ولا سنّة.
والذي يظهر لنا فيه، واللَّه تعالىٰ أعلم: أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حدّ واحد، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع، ويحصل شفاء الغيط بحدّه للجميع.
والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدّد عليه الحدّ، بعدد الكلمات التي قذف بها؛ لأنه قذف كل واحد قذفًا مستقلاًّ لم يشاركه فيه غيره وحدّه لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر، ولا تزول به عنه المعرة. وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفًا مفردًا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرّر عليه الحدّ بعددهم، كما اختاره صاحب «المغني».
والأظهر عندنا أنه إن كرّر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحدّ عليه يكفي فيه حدّ واحد، وأنه إن رماه بعد حدّه للقذف الأول بعد طول حدّ أيضًا، وإن رماه قرب زمن حدّه بعين الزنا الذي حدّ له لا يعاد عليه الحدّ؛ كما حكاه صاحب المغني في قصّة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة، وإن كان القذف الثاني غير الأوّل، كأن قال في الأوّل: زنيت بامرأة بيضاء، وفي الثاني قال: بامرأة سوداء، فالظاهر تكرّره، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
وعن مٰلك رحمه اللَّه في «المدونة»: إن قذف رجلاً فلما ضرب أسواطًا قذفه ثانيًا أو آخر ابتدىء الحدّ عليه ثمانين من حين يقذفه، ولا يعتدّ بما مضى من السياط.
المسألة الرابعة عشرة: الظاهر أن من قال لجماعة: أحدكم زان أو ابن زانية لا حدّ عليه؛ لأنه لم يعيّن واحدًا فلم تلحق المعرة واحدًا منهم، فإن طلبوا إقامة الحدّ عليه جميعًا لا يحدّ، لأنه لم يرم واحدًا منهم بعينه، ولم يعرف من أراد بكلامه. نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز، ووجهه ظاهر كما ترى. واقتصر عليه خليل في مختصره في قوله عاطفًا على ما لا حدّ فيه، أو قال لجماعة: أحدكم زانٍ.
وقال ابن قدامة في «المغني»: وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل، فلا حدّ عليه، في قول أحد من أهل العلم. وكذلك إن اختلف رجلان في شىء، فقال أحدهما: الكاذب هو ابن الزانية، فلا حدّ عليه، نصّ عليه أحمد؛ لأنه لم يعيّن أحدًا بالقذف، وكذلك ما أشبه هذا، ولو قذف جماعة لا يتصوّر صدقه في قذفهم، مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم، لم يكن عليه حدّ؛ لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه، انتهى منه.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهما، وعليه حدّان؛ لأن قوله أزنى صيغة تفضيل، وهي تدلّ على اشتراك المفضل، والمفضل عليه في أصل الفعل، إلاَّ أنَّ المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل: أنت وفلان زانيان، ولكنك تفوقه في الزنى، وكون هذا قذفًا لهما واضح، كما ترى. وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أنه يحدّ للمخاطب فقط، دون فلان المذكور لا ينبغي أن يعوّل عليه، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف كل ذلك لا يصحّ ولا ينبغي التعويل عليه؛ لأن صيغة: أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة، لا إشكال فيها.
وقال ابن قدامة في «المغني» محتجًّا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة: أنه لا حدّ على الثاني، ما نصّه: والثاني يكون قذفًا للمخاطب خاصّة؛ لأن لفظة افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل؛ كقول اللَّه تعالىٰ: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ}، وقال تعالىٰ: {فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلاْمْنِ}، وقال لوط: {بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، أي من أدبار الرجال، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه، ولم يعوّل عليه.
وحاصل الاحتجاج المذكور: أن صيغة التفضيل قد ترد مرادًا بها مطلق الوصف، لا حصول التفضيل بين شيئين، ومثل له هو بكلمة: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ}، وكلمة: {أَحَقُّ بِٱلاْمْنِ}، وكلمة: {أَطْهَرُ لَكُمْ}؛ لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف، كما هو معلوم. ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب «المغني»، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للفضيل؛ لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقيّة الاتّباع أصلاً في قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى}، ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة.
ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضًا قوله تعالىٰ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، أي: هيّن سهل عليه، وقول الشنفري:
وإن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

أي: لم أكن بالعجل منهم. وقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتًا دعائمه أعزّ وأطول

أي: عزيزة طويلة. وقول معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأَوْجَل على أَيِّنا تعدو المنيَّة أوّل

أي: لوجل. وقول الأحوص بن محمد الأنصاري:
إني لأمنحك الصدود وإنني قسمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ

أي: لمائل. وقول الآخر:
تمنّى رجال أن أموت وإن مت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي: بواحد. وقال الآخر: لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل

أي: وفاضل. إلى غير ذلك من الشواهد، ولكن قدّمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف، إلا لدليل خارج، أو قرينة واضحة تدلّ على ذلك.
وقوله له: أنت أزنى من فلان، ليس هناك قرينة، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل عن أصلها، فوجب إبقاؤها على أصلها، وحدّ القاذف لكل واحد منهما، والإتيان بلفظة من في قوله: أنت أزنى من فلان، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة السادسة عشرة: اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى، ومن رمى أحدهما فعليه الحدّ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه لم يثبت عليها زنى، ولا على ولدها أنه ابن زنى، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه.
وفي سنن أبي داود: حدّثنا الحسن بن عليّ، ثنا يزيد بن هٰرون، ثنا عبّاد بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء هلال بن أُميّة، وهو أحد الثلاثة الذين تاب اللَّه عليهم، فجاء من أرضه عشيًّا فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينه وسمع بأذنه... الحديث، وفيه: ففرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى إلا يدّعى ولدها لأب، ولا ترمىٰ ولا يرمىٰ ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ... إلى آخر الحديث. وفي هذا الحديث التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ.
واعلم: أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة: لست لأبيك الذي لاعن أُمّك، فعليه الحدّ خلاف التحقيق؛ لأن الزوج الملاعن ينتفى عنه نسب الولد باللعان، فنفيه عنه حقّ مطابق للواقع، ولذا لا يتوارثان، ومن قال كلامًا حقًّا، فإنه لا يستوجب الحدّ بذلك؛ كما لو قال له: يا من نفاه زوج أمّه، أو يا ابن ملاعنة، أو يا ابن من لوعنت؛ وإنما يجب الحدّ على قاذفه، فيما لو قال: أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة السابعة عشرة: في حكم ما لو قال لرجل: يا زانية بتاء الفرق، أو قال لامرأة: يا زاني، بلا تاء. قال ابن قدامة في «المغني»: هو قذف صريح لكل منهما، قال: واختار هذا أبو بكر، وهو مذهب الشافعي، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلاّ أن يفسّره به، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله: يا زانية، أي: يا علامة في الزنا؛ كما يقال للعالم: علاّمة، ولكثير الرواية: راوية، ولكثير الحفظ: حفظة، ولنا أن ما كان قذفًا لأحد الجنسين كان قذفًا للآخر؛ كقوله: زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعًا، ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها، ولذلك لو قال للمرأة: يا شخصًا زانيًا، وللرجل: يا نسمة زانية، كان قاذفًا. وقولهم: إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصحّ فإنما كان اسمًا للفعل، إذا دخلته لهاء كانت للمبالغة؛ كقولهم: حفظة للمبالغ في الحفظ وراوية للمبالغ في الرواية، وكذلك همزة لمزة وصرعة؛ ولأن كثيرًا من الناس يذكّر المؤنث ويؤنّث المذكر، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادًا بما يراد باللفظ الصحيح، انتهى كلام صاحب «المغني».
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر: يا زانية بصيغة التأنيث، أو قال لامرأة: يا زاني بصيغة التذكير، أنه يلزمه الحدّ.
وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون عاميًّا لا يعرف العربية، أو يكون له علم باللغة العربية، فإن كان عاميًّا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه،
وإن كان عالمًا باللغة، فاللَّه يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصًا.
وقد قدّمنا بعض أمثلة ذلك في سورة «النحل»، في الكلام على قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان رضي اللَّه عنه: منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم
من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم

ومراده بالحبيب أنثى، بدليل قوله بعده:
لم تفتها شمس النهار بشىء غير أن الشباب ليس يدوم

وقول كثير:
لئن كان يرد الماء هيمان صاديًا إلى حبيبًا إنها لحبيب

ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي:
ولكن ليلى أهلكتني بقولها نعم ثم ليلى الماطل المتبلح

يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح.
وقول عروة بن حزام العذري: وعفراء أرجى الناس عندي مودّة وعفراء عني المعرض المتواني

أي: الشخص المعرض.
وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثىٰ باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف؛ كقوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال

المسألة الثامنة عشرة: اعلم أن من رمى رجلاً قد ثبت عليه الزنى سابقًا أو امرأة، قد ثبت عليها الزنى سابقًا ببيّنة، أو إقرار، فلا حدّ عليه؛ لأنه صادق، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى، ويدلّ لهذا مفهوم المخالفة في قوله: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ}، فهو يدلّ بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حدّ عليه، وهو كذلك، ولكنه يلزم تعزيره؛ لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقًا مباحًا لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة، كما ترى.
المسألة التاسعة عشرة: اعلم أن الإنسان إذا كان مشركًا وزنى في شركه، أو كان مجوسيًّا ونكح أُمّه أو ابنته مثلاً في حال كونه مجوسيًّا، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يقول له: يا من زنى في أيام شركه أو يا من نكح أُمّه مثلاً في أيّامه مجوسيًّا، وهذه الصورة لا حدّ فيها؛ لأن صاحبها أخبر بحقّ والإسلام يجبّ ما قبله.
الثانية: أن يقول له: يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أُمّه بعد إسلامه، فعليه الحدّ؛ كما لا يخفى.
الثالثة: أن يقول له: يا زاني، ولم يتعرّض لكون ذلك قبل إسلامه أو بعده، فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه، فعليه الحدّ. وإن قال: أردت بذلك زناه في زمن شركه، فهل يقبل منه هذا التفسير، ويسقط عنه الحدّ، أو لا يقبل ذلك منه، ويقام عليه الحدّ، اهــ. اختلف العلماء في ذلك، وممّن قال بأنه يحدّ ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك: مٰلك وأصحابه، وصرّح به الخرقي من الحنابلة. وقال ابن قدامة في «المغني»: لا حدّ عليه، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي: ومن قذف من كان مشركًا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله، وحدّ القاذف إذا طالب المقذوف، وكذلك من كان عبدًا، انتهى.
المسألة العشرون: اعلم أن من قذف بنتًا غير بالغة بالزنى، أو قذف به ذكرًا غير بالغ، فقد اختلف أهل العلم: هل يجب على القاذف الحدّ أو لا يجب عليه؟ وقال أبو عبد اللَّه القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفًا عند مٰلك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حدّ عليها ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة لكن مٰلك غلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحدّ. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع، يحدّ قاذفها، وكذلك الصبيّ إذا بلغ عشرًا ضرب قاذفه، قال إسحٰق: إذا قذف غلامًا يطأ مثله فعليه الحدّ، والجارية إذا جاوزت تسعًا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحدّ من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى، اهـــ محل الغرض منه بلفظه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر: إنه لا يحدّ ولكن يعزر، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم، ولا معرة تلحقه بذنب؛ لأنه غير مؤاخذ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة يشهدون على الصبي بالزنى فلا حدّ عليه إجماعًا، ولو كان قذفه قذفًا على الحقيقة للزمه الحدّ بإقامة القاذف البيّنة على زناه، وإن خالف في هذا جمع من أجلاّء العلماء، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له، ولغيره عن قذف من لم يبلغ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الحادية والعشرون: اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة، أن القاذف إن كان عاميًّا لا يفرّق بين المعتلّ والمهموز أنه يحدّ لظهور قصده لقذفه بالزنى، وإن كان عالمًا بالعربية، وقال: إنما أردت بقولي: زنأت بالهمزة معناه اللغوي، ومعنى زنأت بالهمزة: لجأت إلى شىء، أو صعدت في جبل، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيمًا وهو صغير: أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ولا تكونن كهلوف وكل
يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

ومحل الشاهد منه قوله: زنأ في الجبل أي صعودًا فيه، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأمّ الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس، وردّ ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري. ورواه هو وغيره على ما ذكرنا، قال: وقالت أُمّه تردّ على أبيه: أشبه أخي أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا
تقصر أن تناله يداكا

قاله في اللسان.
المسألة الثانية والعشرون: فمن نفى رجلاً عن جدّه أو عن أُمّه أو نسبه إلى شعب غير شعبه، أو قبيلة غير قبيلته، فذهب مٰلك: أنه إن نفاه عن أُمّه فلا حدّ عليه؛ لأنه لم يدع عليها الزنا، ولم ينف نسبه عن أبيه، وإن نفاه عن جدّه لزمه الحدّ، ولا حدّ عنده في نسبة حنس لغيره، ولو أبيض لأسود. قال في «المدونة»: إن قال لفارسي: يا رومي أو يا حبشي، أو نحو هذا لم يحدّ. وقال ابن القٰسم: اختلف عن مٰلك في هذا، وإنى أرى ألا حدّ عليه، إلاّ أن يقول: يا ابن الأسود، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحدّ، وأما إن نسبه إلى حبشي؛ كأن قال: يا ابن الحبشي وهو بربري، فالحبشي والرومي في هذا سواء، إذا كان بربريًّا.
وقال ابن يونس: وسواء قال: يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي، أو يا ابن الرومي، فإنه لا يحدّ، وكذلك عنه في كتاب محمد، قال الشيخ المواق: هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس، فانظره أنت، اهــ.
وهذا الذي ذكرنا من عدم حدّ من نسب جنسًا إلى غيره هو مشهور مذهب مٰلك، وقد نصّ عليه في المدونة، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب.
قال مٰلك في «المدونة»: من قال لعربي: يا حبشي، أو يا فارسي، أو يا رومي، فعليه الحدّ؛ لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مٰلك لا يتّجه كل الاتّجاه، ووجه كون من قال لرومي: يا حبشي مثلاً، لا يحدّ. أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله، وهو استعمال معروف في العربية، اهـــ. ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جدّه لا حدّ عليه، بأن قال له: لست ابن جدك أنه لا حدّ عليه؛ لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جدّه، وكذلك لو نسب جنسًا إلى غيره؛ كقوله لعربي: يا نبطي، فلا حدّ عليه عنده على المشهور، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته؛ لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال، أو عدم الفصاحة، ونحو ذلك، فلا يتعيّن قصد القذف.
وقال صاحب «تبيين الحقائق»: وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش: يا نبطي، فقال: لا حدّ عليه، اهــ. وكذلك لا يحدّ عند أبي حنيفة من قال لرجل: يا ابن ماء السماء، أو نسبه إلى عمّه أو خاله، خلافًا للمالكية، ومن وافقهم القائلين بحدّ من نسبه لعمه ونحوه، أو زوج أُمّه الذي هو ربيبه؛ لأن العمّ والخال كلاهما كالأب في الشفقة، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة، وقوله: ابن ماء السماء، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء، قالوا: وكان عامر بن حارثة: يلقب بماء السماء لكرمه، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر، قالوا: وسمّيت أُمّ المنذر بن امرىء القيس بماء السماء، لحسنها وجمالها. وقيل لأولادها: بنو ماء السماء وهم ملوك العراق، اهــ. وإن نسبه لجده فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جدّه؛ كما هو واقع بكثرة على مرّ الأزمنة من غير نكير، اهــ. ومذهب الإمام أحمد: أنه إن نفاه عن أُمّه فلا حدّ عليه.
واختلف عنه فيمن نفى رجلاً عن قبيلته أو نسب جنسًا لغيره. قال ابن قدامة في «المغني»: وإذا نفى رجلاً عن أبيه، فعليه الحدّ نصّ عليه أحمد، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال إبرٰهيم النخعي، وإسحٰق، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وحمّاد، اهــ.
وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة والمشهور عنه بما ذكرناه قريبًا، ثم قال ابن قدامة في «المغني»: والقياس يقتضي ألاّ يجب الحدّ بنفي الرجل عن قبيلته؛ ولأن ذلك لا يتعيّن فيه الرمي بالزنا، فأشبه ما لو قال لأعجمي: إنك عربي، ولو قال للعربي: أنت نبطي أو فارسي فلا حدّ عليه، وعليه التعزير نصَّ عليه أحمد؛ لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع. وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحدّ كما لو نفاه عن أبيه، والأوّل أصح. وبه قال مٰلك، والشافعي؛ لأنه يحتمل غير القذف احتمالاً كثيرًا فلا يتعيّن صرفه إليه، ومتى فسر شيئًا من ذلك بالقذف فهو قاذف،ا هــ من «المغني».
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحدّ صاحبه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقلّ عن شبهة قوية. وقد ذكر ابن قدامة في «المغني»: أن الأشعث بن قيس روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «لا أُوتى برجل يقول: إن قريشًا ليست من كنانة إلا جلدته»، اهــ. وانظر إسناده.
المسألة الثالثة والعشرون: في أحكام كلمات متفرّقة كمن قال لرجل: يا قرنان، أو يا ديوث، أو يا كشخان، أو يا قرطبان، أو يا معفوج، أو يا قواد، أو يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات، أو يا مخنث، أو قال لامرأة: يا قحبة.
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة، فمذهب مٰلك: هو أن من قال لرجل: يا قرنان، لزمه حدّ القذف لزوجته إن طلبته؛ لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة، وكذلك من قال لامرأة: يا قحبة، لزمه الحدّ عند المالكية، وكذلك من قال: يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات. كل ذلك فيه حدّ القذف عند المالكية، كما تقدّمت الإشارة إليه. قالوا: لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان، وتجعل على بابها راية، وكذلك لو قال له: يا مخنث، لزمه الحدّ إن لم يحلف أنه لم يرد قذفًا، فإن حلف أنه لم يرده أدب، ولم يحدّ. قاله في «المدونة»، وإن قال له: يا ابن الفاسقة، أو يا ابن الفاجرة، أو يا فاسق، أو يا فاجر أو يا حمار ابن الحمار، أو يا كلب، أو يا ثور، أو يا خنزير، ونحو ذلك فلا حدّ عليه، ولكنه يعزر تعزيرًا رادعًا حسبما يراه الإمام. ومذهب أبي حنيفة: أنه لو قال له: يا فاسق، يا كافر، يا خبيث، يا لصّ، يا فاجر، يا منافق، يا لوطي، يا من يلعب بالصبيان، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا ديوث، يا مخنث، يا خائن، يا ابن القحبة، يا زنديق، يا قرطبان، يا مأوى الزواني أو اللصوص، يا حرام، أنّه لا حدّ عليه في شىء من هذه الألفاظ، وعليه التعزير، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطًا، وأمّا لو قال له: يا كلب، يا تيس، يا حمار، يا خنزير، يا بقر، يا حيّة، يا حجام، يا ببغاء، يا مؤاجر، يا ولد الحرام، يا عيار، يا ناكس، يا منكوس، يا سخرة، يا ضحكة، يا كشخان، يا أبله، يا مسوس؛ فلا شىء عليه في شىء من هذه الألفاظ عند الحنفية، ولا يعزر بها. قال صاحب «تبيين الحقائق»: لا يعزر بهذه الألفاظ كلّها؛ لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك، ولا يريدون به الشتيمة، ألا ترى أنهم يسمّون به ويقولون: عياض بن حمار، وسفيٰن الثوري، وأبو ثور وجمل؛ ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام، وإنما يلحق بالقاذف، وكل أحد يعلم أنه آدمي، وليس بكلب ولا حمار وأن القاذف كاذب في ذلك. وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله: يا كلب، يا خنزير؛ لأنه يراد به الشتم في عرفنا.
وقال شمس الأئمّة السرخسي: الأصحّ عندي أنه لا يعزر. وقيل: إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلويّة يعزر؛ لأنه يعدّ شينًا في حقه، وتلحقه الوحشة بذلك، وإن كان من العامّة لا يعزر، وهذا أحسن ما قيل فيه، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير، قوله: يا رستاقي، ويا ابن الأسود، ويا ابن الحجام، وهو ليس كذلك، اهــ من «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي» .
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أمّا الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه. وأمّا الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها، فالأظهر عندنا أنها يجب فيها التعزير؛ لأنها كلها شتم وعيب، ولا يخفى أن من قال لإنسان: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا تيس، يا بقر.. إلى آخره، أن هذا شتم واضح لا خفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسّة والصفات الذميمة كما لا يخفى، فهو من نوع التشبيه الذي يسمّيه البلاغيون تشبيهًا بليغًا ولا شكّ أن عاقلاً قيل له: يا كلب، أو يا خنزير مثلاً أن ذلك يؤذيه، ولا يشكّ أنه شتم، فهو أذى ظاهر، وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة. وكونهم يسمّون الرجل حمارًا أو كلبًا لا ينافي ذلك؛ لأن من الناس من يسمّ ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به. والظاهر أنه إن قال لرجل: يا ابن الأسود، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود، أنه يلزمه الحدّ لأنه نفي لنسبه، وكذلك قوله: يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجامًا فهو قذف؛ لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس بينه وبينه نسب؛ كما هو قول المالكية ومن وافقهم.
وقال صاحب «تبيين الحقائق»: وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلاً، فيدعه خاليًا بها. وقيل: هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح. وقيل: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته، اهــ منه.
وقال ابن قدامة في «المغني»: وإن قال لرجل: يا ديوث، أو يا كشخان، فقال أحمد: يعزر، وقال إبرٰهيم الحربي: الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته. وقال ثعلب: القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته. وقال: القرنان والكشخان لم أرَهما في كلام العرب، ومعناه عند العامّة مثل معنى الديوث، أو قريب منه، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث؛ لأنه قذفه بما لا حدّ فيه. وقال خالد بن يزيد، عن أبيه في الرجل يقول للرجل: يا قرنان إذا كان له أخوات، أو بنات في الإسلام ضرب الحدّ، يعني أنه قاذف لهنّ. وقال خالد عن أبيه: القرنان عند العامّة من له بنات. والكشخان: من له أخوات، يعني واللَّه أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهنّ. والقواد عند العامّة: السمسار في الزنى والقذف بذلك كلّه يوجب التعزير؛ لأنه قذف بما لا يوجب الحدّ، اهــ من «المغني». وقال في «المغني» أيضًا المنصوص عن أحمد فيمن قال: يا معفوج أن عليه الحدّ، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول: أردت يا مفلوج، أو يا مصابًا دون الفرج ونحو هذا، فلا حدّ عليه؛ لأنه فسّره بما لا حدّ فيه. وإن فسّره بعمل قوم لوط فعليه الحدّ؛ كما لو صرح به. وقال صاحب «القاموس»: القرنان: الديوث المشارك في قرينته لزوجته، اهــ منه. وقال في «القاموس» أيضًا: القرطبان بالفتح الديوث، والذي لا غيرة له أو القواد، اهــ منه. وقال في «القاموس»: والتديث القيادة، وفي «القاموس» تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر: الديوث، وكشخه تكشيخًا وكشخنة، قال له: يا كشخان، اهــ منه. وهو بالخاء المعجمة، وقال الجوهري في «صحاحه»: والديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له، اهــ منه.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه، فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحدّ وجب التعزير؛ لأجل الأذى ولا حدّ، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى، أو نفي النسب، وكان ذلك معروفًا أنه هو المقصود عرفًا، وجب الحدّ؛ لأن العرف متبع في نحو ذلك، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
المسألة الرابعة والعشرون: في حكم من قذف محصنًا بعد موته، ومذهب مٰلك في ذلك هو قوله في «المدونة»: من قذف ميتًا فلولده، وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك، ومن قام منهم أخذه بحدّه، وإن كان ثم من هو أقرب منه؛ لأنه عيب، وليس للأخوة، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام، اهــ بواسطة نقل المواق.
وحاصله: أن الميّت المقذوف يحدّ قاذفه بطلب من وجد من فروعه، وإن سفلوا أو واحد من أصوله، وإن علوا. ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد، فللأخوة والعصبة القيام، ويحدّ للمقذوف بطلبهم. هذا حاصل مذهب مٰلك في المسألة، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميّت أبًا أو أُمَّا، وبعض أهل العلم يفرّق بين قذف الأب والأم؛ لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها؛ لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أُمّه.
وقال ابن قدامة في «المغني»: وإن قذف أُمّه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرّة أو أَمة، حدُّ القاذف إذا طلب الابن وكان حرًّا مسلمًا، أمّا إذا قذفت وهي في الحياة، فليس لولدها المطالبة؛ لأن الحقّ لها، فلا يطالب به غيرها، ولا يقوم غيرها مقامها، سواء كانت محجورًا عليها أو غير محجور عليها، لأنّه حق يثبت للتشفّي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها؛ لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد. وأمّا إن قذفت وهي ميّتة، فإن لولدها المطالبة؛ لأنه قدح في نسبه، ولأنه يقذف أُمّه بنسبته إلى أنه ابن زنى، ولا يستحقّ ذلك بطريق الإرث، ولذلك تعتبر الحصانة فيه، ولا تعتبر الحصانة في أُمّه؛ لأن القذف له. وقال أبو بكر: لا يجب الحدّ بقذف ميتة بحال، وهو قول أصحاب الرأي؛ لأنه قذف لمن لا تصحّ منه المطالبة، فأشبه قذف المجنون. وقال الشافعي: إن كان الميّت محصنًا فلوليّه المطالبة، وينقسم بانقسام الميراث، وإن لم يكن محصنًا فلا حدّ على قاذفه؛ لأنه ليس بمحصن، فلا يجب الحدّ بقذفه كما لو كان حيًّا، وأكثر أهل العلم لا يرون الحدّ على من يقذف من ليس محصنًا حيًّا ولا ميتًا؛ لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيًّا فلأن لا يحدّ بقذفه ميتًا أولى، ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الملاعنة: «ومن رمى ولدها فعليه الحدّ»، يعني: من رماه بأنه ولد زنى، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك، فبقذف غيره أولى؛ ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحدّ على من نفى رجلاً عن أبيه إذا كان أبواه حرّين مسلمين، ولو كانا ميتين، والحدّ إنما وجب للولد؛ لأن الحدّ لا يورث عندهم. فإمّا إن قذفت أُمه بعد موتها، وهو مشرك أو عبد، فلا حدّ عليه في ظاهر كلام الخرفي، سواء كانت الأم حرّة مسلمة أو لم تكن. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: إذا قال لكافر أو عبد: لست لأبيك، وأبواه حرّان مسلمان فعليه الحدّ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد: لست لأبيك فعليه الحدّ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور، وقال أصحاب الرأي: يصحّ أن يحدّ المولى لعبده، واحتجّوا بأن هذا قذف لأُمّه فيعتبر إحصانها دون إحصانه؛ لأنها لو كانت حيّة كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميّتة، ولأن معنى هذا: إن أُمّك زنت فأتت بك من الزنى، فإذا كان من الزنى منسوبًا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها، ولنا ما ذكرناه؛ ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحدّ، لأن الكافر لا يرث المسلم، والعبد لا يرث الحرّ، ولأنهم لا يوجبون الحدّ لقذف ميتة بحال، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها، واللَّه أعلم، اهــ بطولة من «المغني».
وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة، إن كان لها أولاد، ورمي المرأة الحيّة التي لها أولاد، وبه نعلم أن الحدّ يورث عند المالكية والشافعيّة، إلاّ أنّه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول، ويحدّ بطلب كل منهم وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحدّ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الأخوة والعصبة، وكلّ ذلك يدلّ على أنهم ورثوا ذلك الحقّ في الجملة عن المقذوف الميّت، وأن الشافعية يقولون: إنه ينقسم بانقسام الميراث، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور، وأن الحنفية يقولون: إن الحدّ لا يورث، وهو ظاهر المذهب الحنبلي، وأن بعض أهل العلم قال: لا يحدّ من قذف ميتة بحال.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر لي، واللَّه تعالىٰ أعلم في هذه المسألة: أن قذف الأُمّ إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حيّة، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي؛ لأنه مقذوف بقذفها، خلافًا لما في كلام صاحب «المغني»، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام، ويحدّ له القاذف. وقول صاحب «المغني»: تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى؛ لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه، لأنّا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى، فإنه هو لا ذنب له، ولا يعتبر زانيًا، كما ترى.
والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها، فالأظهر إقامة الحدّ على القاذف بطلب الأُم، وبطلب الولد، وإن كانت حيّة؛ لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة، وإن كانت الأُمّ لا ولد لها، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة: هل يحدّ من قذف ميتًا أو لا؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها، ولكلّ واحد من القولين وجه من النظر؛ لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت، وهذا يقتضي حدّ من قذف ميتة، ووجه الثاني: أن الميتة لا يصح منها الطلب، فلا يحدّ بدون طلب؛ ولأن من مات لا يتأذّى بكلام القاذف، وإن كان كذبًا بل يفرح به؛ لأنه يكون له فيه حسنات، وإن كان حقًّا ما رماه به، فلا حاجة له بحدّه بعد موته، لأنه لم يقل إلا الحقّ وحده وهو صادق لا حاجة للميّت فيه، اهــ.
وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرًا رادعًا ولا يقام عليه الحدّ.
واعلم أن الحيّ إذا قذفه آخر بالزنا، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق، فقد قال بعض أهل العلم: إن له المطالبة بحدّه مع علمه بصدقه فيما رماه به، وهو مذهب مٰلك، ومن وافقه.
والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حقّ أنه لا تنبغي له المطالبة بحدّه؛ لأنه يتسبّب في إيذائه بضرب الحدّ، وهو يعلم أنه محقّ فيما قال، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أُمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو قذفه هو صلى الله عليه وسلم أن ذلك ردّة، وخروج من دين الإسلام، وهو ظاهر لا يخفى، وأن حكمه القتل، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال. وقال بعض أهل العلم: تقبل توبته إن تاب، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالّة على قبول توبة من تاب، ولو من أعظم أنواع الكفر، واللَّه تعالىٰ أعلم.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم من قذف ولده.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، «قال في المغني»: وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحدّ عليه، سواء كان القاذف رجلاً أو امرأة وبهذا قال عطاء، والحسن، والشافعي، وإسحٰق، وأصحاب الرأي. وقال مٰلك، وعمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، وابن المنذر عليه الحدّ لعموم الآية؛ ولأنه حدّ فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى.
وأظهر القولين دليلاً: أنه لا يحدّ الوالد لولده؛ لعموم قوله: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰن}، وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ}، فلا ينبغي للولد أن يطلب حدّ والده للتشفّي منه. وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال، لأنهم يقولون: إن الولد يمكّن من حدّ والده القاذف له وأنه يعد بحدّه له فاسقًا بالعقوق؛ كما قال خليل في «مختصره»: وله حدّ أبيه وفسق، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة، والشرع لا يمكّن أحدًا من ارتكاب كبيرة؛ كما ترى مع أن الروايات عن مٰلك نفسه ظاهرها عدم الحدّ وقاله غير واحد من أهل مذهبه.
المسألة السادسة والعشرون: في حكم من قتل أو أصاب حدًّا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحقّ في الحرم، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم؟
اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه يستوفى منه الحقّ قصاصًا كان أو حدًّا قتلاً كان أو غيره.
الثاني: أنه لا يستوفى منه حدّ ولا قصاص ما دام في الحرم، سواء كان قتلاً أو غيره.
الثالث: أنه يستوفى منه كل شىء من الحدود إلا القتل، فإنه لا يقتل في الحرم في حدّ كالرجم، ولا في قصاص والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم.
قال ابن قدامة في «المغني»: وجملته أن من جنى جناية توجب قتلاً خارج الحرم، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه، وهذا قول ابن عباس، وعطاء، وعبيد بن عمير، والزهري، وإسحٰق، ومجاهد، والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه.
وأمّا غير القتل من الحدود كلّها والقصاص فيما دون النفس، فعن أحمد فيه روايتان:
إحداهما: لا يستوفى من الملتجىء إلى الحرم فيه.
والثانية: يستوفي وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن المروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «فلا يسفك فيها دم»، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها، ولأن الحدّ بالجلد جرى مجرى التأديب، فلم يمنع كتأديب السيّد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي، وهي ظاهر المذهب.
قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمّه: أن الحدود كلّها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حدّ جنايته، حتى يخرج منه إلى أن قال: وقال مٰلك والشافعي وابن المنذر: يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني، وقطع السارق، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان، اهــ محل الغرض منه.
وقال ابن حجر في «فتح الباري»: وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلّم، ويوعظ، ويذكّر حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرًّا إلى الحلّ وفعله ابن الزبير.
وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: من أصاب حدًّا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع. وعن مٰلك والشافعي: يجوز إقامة الحدّ مطلقًا فيها؛ لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل اللَّه له من الأمن، اهــ محل الغرض منه.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار»، مشيرًا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم، وقد ذهب إلى ذلك مٰلك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر، ويؤيّد ذلك عموم الأدلّة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والحنفية، وسائر أهل العراق، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة: إلى أنه لا يحلّ لأحد أن يسفك بالحرم دمًا، ولا يقيم به حدًّا حتى يخرج منه من لجأ إليه، اهــ محل الغرض منه.
وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة، فهذه أدلّتهم ومناقشتها. أمّا الذين قالوا: يستوفى منه كل حدّ في الحرم إن لجأ إليه كمٰلك، والشافعي، وابن المنذر ومن وافقهم، فقد استدلّوا بأدلّة:
منها أن نصوص الكتاب والسنّة الدالَّة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص، ليس في شىء منها تخصيص مكان دون مكان، ولا زمان دون زمان، وظاهرها شمول الحرم وغيره. قالوا: والعمل بظواهر النصوص واجب، ولا سيّما إذا كثرت.
ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع اللَّه على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، وفعل الواجب الذي هو عين طاعة اللَّه في الحرم ليس فيه أيّ انتهاك لحرمة الحرم؛ لأن أحقّ البلاد، بأن يطاع فيها اللَّه بامتثال أوامره هي حرمه، وطاعة اللَّه في حرمه ليس فيها انتهاك له، كما ترى.
أمّا استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم،
ولا فارًّا بخربة، فهو استدلال في غاية السقوط؛ لأن من ظنّ أنه حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقط غلط غلطًا فاحشًا؛ لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما. قال البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة: ائذن لي أيها الأمير أحدّثك قولاً قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلّم به أنه حمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها اللَّه، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصيًا إلى آخره، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لا حجّة البتّة في كلام الأشدق، ولا سيّما في حال معارضته به لحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح رضي اللَّه عنه. وفي صحيح مسلم رحمه اللَّه مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادًا ومتنًا.
وإذا تقرّر أن القائل إن الحرم لا يعيذ عاصيًا إلى آخره، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة؛ لأن أمره بقتله وهو متعلّق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحلّ اللَّه له فيه الحرم، وقد صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم أن حرمتها عادت كما كانت، ففعله صلى الله عليه وسلم في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة، كما ترى.
وأمّا الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص في غير النفس، فقد احتجّوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه، فيه: «فلا يحلّ لامرىء يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا» الحديث، قالوا: تصريحه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره، ولا يقاس غيره عليه؛ لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حدّ أو قصاص في غير النفس، فيبقى غير القتل داخلاً في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح، ويؤيّده أن قوله: «دمًا» نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حدّ، أو غير ذلك.
واستدلّوا أيضًا بقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته. قال المجد في المنتقى: حكاه أحمد في رواية الأثرم.
وأمّا الذين قالوا: بأن الحرم لا يستوفى فيه شىء من الحدود، ولا من القصاص قتلاً كان أو غيره، فقد استدلّوا بقوله تعالىٰ: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنا}، قالوا: وجملة {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنا}، خبر أُريد به الإنشاء فهو أمر عام، يستوجب أمن من دخل الحرم، وعدم التعرض له بسوء، وبعموم النصوص الدالّة على تحريم الحرم.
واستدلّوا أيضًا بآثار عن بعض الصحابة، كما روي عن ابن عباس، أنه قال في الذي يصيب حدًّا ثم يلجأ إلى الحرم: يقام عليه الحدّ، إذا خرج من الحرم، قال المجد في «المنتقى»: حكاه أحمد في رواية الأثرم، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلّتهم في هذه المسألة.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الذي يظهر واللَّه تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال: يستوفى من اللاجىء إلى الحرم كل حقّ وجب عليه شرعًا، قتلاً كان أو غيره؛ لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه اللَّه، وفعل ذلك طاعة، وتقرب إليه وليس في طاعة اللَّه، وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه، وأجراها على الأصول، وهو أولاها، هو الجمع بين الأدلّة، وذلك بقول من قال: يضيق على الجاني اللاجىء إلى الحرم، فلا يباع له، ولا يشترى منه، ولا يجالس، ولا يكلّم حتى يضطر إلى الخروج، فيستوفى منه حقّ اللَّه إذا خرج من الحرم؛ لأن هذا القول جامع بين النصوص، فقد جمع بين استيفاء الحقّ، وكون ذلك ليس في الحرم، وفي هذا خروج من الخلاف، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. ولنكتفِ بما ذكرنا من أحكام هذه الآية.

وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ * وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ *

سيتم شرح هذه الأيات في الصفحة التي بعدها ان شاء الله